حينما كانت صرخات نواب الشعب تتعالى رافضة للصناديق الخاصة من حيث المبدأ، منادية بضرورة ضمها إلى الموازنة العامة مهما كان الغرض منها، واستمر ذلك الصخب على مر سنوات طوال، من قبل ثورة يناير وما بعدها، كان لدي رأي آخر معني بالتفاصيل.

علينا أولا أن نسأل أنفسنا: لماذا نشأت ظاهرة الصناديق الخاصة؟ وتحت أي ظروف تم استحداثها؟

اللجوء إلى آلية الصناديق الخاصة كان وليد الحاجة. فالصناديق التي تحكمها قوانين وقواعد خاصة، تمكّن الكيانات والهيئات ذات الطبيعة المتفردة من التحرّك بمرونة أكبر، بعيدا عن جمود القانون العام وتقييده. توافر المرونة لا يتعارض مع متطلبات الحوكمة، بل ربما يتهيأ لتلك الصناديق قواعد حوكمة أكثر اتساقا مع أنشطتها وأهدافها من تلك التي تحكم أبواب الموازنة العامة على اتساعها وتنوعها.

كان أحدهم يزعم أن الصناديق الخاصة تحتوي على مئات المليارات، وأن مجرد ضمها للموازنة العامة يحول الأخيرة من العجز إلى الفائض! وكأن موارد الصناديق (بفرض أنها متضخمة بهذا الشكل بالفعل) كانت تخصص لمصروفات خارج البلاد! أو أنها تهدر بالكامل على مواطن الفساد!

واقع الأمر يقول خلاف ذلك، فهناك من الصناديق الخاصة ما ساعد الكيانات المصدرة له على إعادة استخدام جانب من مواردها في مشروعات للبحث والتطوير تضن بها أبواب الموازنة العامة. ومن تلك الصناديق ما أمكن تخصيصه لاستقطاب المهارات الاستثنائية التي لا يناسبها هيكل الأجور والرواتب الحكومية الزهيدة. من هنا كانت الصناديق تتسع لتلقي مساعدات عبر منظمات ومؤسسات معتبرة، لتغطية جانب من تكاليف تلك الرواتب والأجور.

بديل تلك الصناديق في هذه الحالة كان الاستغناء عن الكفاءات والرضا بما هو مقسوم ومتاح من محدودي المهارات والمؤهلات. والتكلفة التي يتحملها المجتمع كله كانت أكبر من أن تحصى، سواء كانت التكلفة المباشرة للتقصير وتردّي أداء الكيان المحروم من الاستفادة من إيراداته أو تكلفة الفرصة البديلة التي تم إهدارها بعدم الركون إلى الكفاءات، أو تكلفة الوفورات السلبية لعمل هذه الكيانات التي تدار بفكر فقير محدود.

كذلك، علينا قبل أن ننساق خلف دعاية ضم كل الموارد أيا كان مصدرها إلى الموازنة العامة أن نتساءل عن كيفية إدارة الموازنة العامة للدولة، وسبل حوكمتها والرقابة عليها منذ مرحلة الإعداد وحتى صدورها بقانون عن المجلس النيابي الذي تضطلع لجانه وفي مقدمتها لجنة الخطة والموازنة بأعمال الرقابة الشعبية على مصروفات الدولة وإيراداتها.

هل كل من يستاءون من وجود صناديق خاصة تحكمها قوانين خاصة راضون عن أداء السياسة المالية من حيث التنفيذ والتشريع والرقابة؟! الغريب أن الساخطين على الصناديق يجمعهم سخط أكبر من أداء وزارة المالية، ومن عدم توافر الرقابة البرلمانية الناجعة في الحد من الهدر والإخفاق المالي العام! مع ذلك يعتبرون تسرب أي مورد عن تلك الموازنة وآلياتها “المنتقدة” كارثة، بغض النظر عن التحقق من آليات ضبط وحوكمة أداء تلك الصناديق.

لا يمكن أن ننسى أن مصر تعاني من فرط مركزية اتخاذ القرارات التنموية، الأمر الذي حمل الكثيرين على مناشدة الدولة مرارا للتخفيف من طابعها المركزي عبر منظومة المحليات التي يتعين ضبطها وتوفير مقومات الانتخاب الحر النزيه لأقطابها حتى يتسنى لكل مجتمع محلي تحديد أولويات الإنفاق الاستثماري وتأهيل الطرق والمرافق والخدمات المرتبطة به، وهذا بدوره مرتبط بتوافر موازنات ومقومات محلية تحقق الغرض من لامركزية أداء وحدات الحكم المحلي.

ولأن هذا الأمر غير متحقق عملا على أرض الواقع، وأن تفسير البعض لمبدأ وحدة الموازنة العامة يجرّد كل الكيانات المحلية من إمكاناتها ومواردها المالية الخاصة انتظارا لدورها في الصرف من أبواب الموازنة! فإن آلية الصناديق الخاصة يمكن أن تساهم في فك هذا التشابك ولو على مستوى كيانات تستوطن تلك المجتمعات المحلية عوضا عن أن تتم عبر المحافظة نفسها أو وحدات الحكم المحلي التي تعاني من مشكلات كبرى.

وإذ تم الإعلان مؤخرا عن مشروع إنشاء صندوق استثمار خاص تابع لهيئة قناة السويس، فليس من المعقول أن نتشكك في أسباب تأسيسه، في غيبة فهم أهدافه وصلاحيات إدارته! وليس من الطبيعي أن يكون الافتراض الأول لأسباب إنشائه هو التفريط في أصول هيئة القناة! إذا كان الصندوق يستهدف تنمية واستثمار موارد القناة (وليس أصولها أو أراضيها القائمة) فهذا أمر يجعله في منأى عن شبهة سوء التصرف في الأصول.

وإذا كان الجانب المخصص للصندوق من موارد القناة يتم الاتفاق عليه مع وزارة المالية، فهذا يجعله مرتبطا بمستهدفات الموازنة العامة، ولا يضغط عليها بما يضرها. وإذا كانت حوكمة هذا الصندوق تتم على نحو ما هو متعارف عليه، ووفق القانون وضوابط الرقابة والشفافية. فلا بأس من إقراره، خاصة وأن الرقابة البرلمانية على مصارف أكبر وأخطر لم تكن تحقق أحلام الكثيرين من رافضي مبدأ الصناديق. لا يعني هذا أن الرافضين للصناديق يُسامون بالتفريط في حق الرقابة على أية حال.

ولكن ما أقصده أن الضبط والرقابة على الصناديق الخاصة يمكن أن يتحققا عبر نظم مراجعة داخلية وخارجية، وإدارة مخاطر مؤسسية متعددة المستويات، وبأداء أكثر تخصصا وفهما لطبيعة النشاط من أداء كثير من نواب الشعب، مع التقدير والاحترام للجميع.

ويلفتنى أن عددا من النواب الذين يعانون في المجلس من قلة الاهتمام برأيهم في حوكمة عدد من أوجه الإنفاق، لا تساندهم الأغلبية، فيتم التمرير بقوة المظهر الديمقراطي، ويتم إهدار الرأي المتخصص الواعي في معظم الأحيان.

أرجو أن يدرس مشروع القانون بهدوء، وأن يدعى المتخصصون إلى جلسات استماع بمجلس النواب، للمشاركة برأيهم في كيفية ضبط أداء وتعظيم إيرادات صندوق القناة، بعيدا عن التربص والتشويش. وفي النهاية أدعو إلى وضعه في ميزان التقييم بما له وما عليه، وأدعو الله أن يلهمنا ونواب الشعب الفهم والصواب.