قدمت في مقال الأسبوع الماضي، لمحة عامة عن تجربة البرازيل في التحول الديمقراطي، وأتابع هذا الأسبوع قراءة لبعض وليس كل ما ورد في الحوار مع فرناندو كاردوزو، رئيس البرازيل السابق في الفترة ما بين عام 1995 إلى عام 2003، عن تجربة التحول الديمقراطي في بلاده وأهم التحديات التي واجهت هذه التجربة.
الحوار جاء ضمن كتاب تجارب التحول إلى الديمقراطية حول العالم، حوارات مع القادة السياسيين، والذي ضم عددا من المقابلات التي قامت بها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في الفترة ما بين يناير 2012 إلى العام يونيو 2013، مع ثلاثة عشر رئيسا ورئيسا للوزراء من تسعة بلدان (البرازيل وتشيلي والمكسيك، غانا وجنوب إفريقياـ إندونيسيا والفلبين، وبولندا وإسبانيا) من أجل الإجابة على سؤال واحد، كيف تمكنت تلك الدول من التحول من أنظمة استبدادية إلى أنظمة حكم ديمقراطية مستدامة لا يمكن التراجع عنها.
صدر الكتاب بالعربية عن دار الشروق في عام 2016.
بدأ كاردوزو مسيرته المهنية كإخصائي في علم الاجتماع، وكتب أطروحته الجامعية وكتابه الأول عن الأعراق في البرازيل ثم برزت مواهبه السياسية والإدارية في جامعة سان باولو. جرده النظام العسكري من منصبه في الجامعة، فغادر بعدها إلى المنفى في تشيلي، ورفض مناصب أكاديمية مغرية ليعود إلى البرازيل، وشارك في تشيلي بمساعدة من مؤسسة فورد في إنشاء المركز البرازيلي للتحليل والتخطيط، كمركز مستقل لبحوث العلوم الاجتماعية.
بعد عودته إلى البرازيل شارك في انتخابات الكونجرس الحرة عام 1978، وكان أحد مؤسس الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرازيلي المعارض.
تولى منصب المقرر العام للجان الكونجرس التي وضعت دستور البرازيل لعام 1988، وتولى وزارة المالية عام 1993 مستغلا خبراته الأكاديمية في لجم التضخم، وحظى بدعم عام عبر توضيح خطته الاقتصادية، وساعده نجاح الخطة في انتخابه رئيسا للجمهورية، نجح في فك شيفرات الضابط البرازيليين والحصول على دعمهم لتنفيذ إصلاحات مهمة مستندا إلى مهاراته في بناء العلاقات الشخصية والاجتماعية وخلفية أسرته العسكرية، تولى الحكم في ولايتين وقاد انتقالا سلسا للسلطة – وفقا لوجهة نظر محرري الكتاب- إلى الزعيم اليساري العمالي العريق لولا دا سيلفا.
يرى كاردوزو أن الحرب الباردة لعبت دورا في الانقلاب العسكري عام 1964، حيث كان العالم منقسما إلى معسكرين، لكن انتهاءها أسهم أيضا في الانتقال نحو الديمقراطية، لكنه لا يعتبر الظروف الدولية هي العامل الأساسي، بل يرى أن الدور الأساسي هو للعوامل الداخلية، إذ أظهرت التجربة البرازيلية أهمية محاربة الضغوط الاجتماعية باحتلال الفضاء المؤسسي حتى عندما يكون ضيقا، وأن المكاسب الجزئية المتحققة أسهمت في تقوية الضغوط الاجتماعية في وجه النظام القائم.
كن الوضع الاجتماعي آخذا في الانحدار من سيء إلى أسوأ على الرغم من النمو الاقتصادي في البرازيل، بسبب الهجرة الداخلية والنمو السكاني الهائل ولم يكن في جعبة الدولة ما يساعدها على توفير الرعاية الصحية والتعليم والنقل، علاوة على ما اتبعته من سياسات متشددة لإبقاء الأجور متدنية.
ويرى رئيس البرازيل الأسبق، أن إحساس الحرية استيقظ ووصل إلى الحركات الاجتماعية باستغلال الهامش السياسي الضعيف للنقد كمعارضة التعذيب مثلا، وعبره استطاعت القوى السياسية تنظيم نفسها.
ثم جاءت الخطوة التالية من خلال بناء تحالف بين قوى المعارضة، من خلال تحالف بين الحركة الديمقراطية البرازيلية، الحزب الشرعي الوحيد في النظام الديكتاتوري، واليسار، وهي دعوة لاقت رفضا في البداية، حيث رأى بعد المعارضين ألا يقيموا اتصالا مع المعارضة الموافق عليه من النظام، لكن تلك الفكرة ” أن نظل أنقياء تم تجاوزها لصالح كسر هيمنة العسكر، وعندما وضعوا معا برنامج مستقبلي، لم يكتفوا بانتقاد العنف والتعذيب والتحدث عن الديمقراطية، بل تحدثوا أيضا عن المرأة والسود والسكان الأصليين والمجتمع المدني والنقابات، كان الهدف هو بناء الإجماع من أجل التغيير، وهو تحالف لم يفرق بين
وكذلك انتهزت الصحافة كل فرصة ممكنة في تناول موضوعات أكثر خطورة، وبدأت في التعبئة ضد الرقابة، ورفعت شعار ” بخطى وئيدة تدريجية وواثقة”.
كان للجيش فيما بعد دور في الإصلاح الدستوري، فوفقا لكاردوزو، فقد تصرف على نحو عقلاني، بتعيينه مستشارين مختصين في العملية الدستورية، فلدى قراءة الدستور، لا يعثر المرء فيه سوى على نقطة واحدة تخص الجيش، كان النقاش الأساسي فيها يدور حول تحديد دور القوات المسلحة، النظام العام في الداخل، وقد جاء البند الذي أقرته الجمعية التأسيسية لينص على أن القوات المسلحة تتولى الدفاع عن الوطن والسلطات القائمة دستوريا، وهي مسؤولة عن صيانة النظام العام في البلاد بطلب من تلك السلطات، فلا يمكن إعلان حالة الطوارئ- على سبيل المثال- إلا بطلب من الرئيس وبعد استشارة مجلس الدورة وموافقة الكونجرس.
ووفقا لتجربة البرازيل سبق الحصول على دستور جيد ومتوازن التقدم أولا على صعيد الحقوق السياسية والاجتماعية، لأن دستور كهذا ليس إلا نتيجة ومحصلة لجهود وتفاعلات.
وعندما تولى كاردوزو رئاسة البلاد في عام 1995، عمل فورا على ملف العدالة والمصالحة، وعمل على تشكيل لجنة لتعويض من سجنوا أو عذبوا بدون وجه حق، مع تقديم اعتذار باسم الحكومة البرازيلية عن العنف المرتكب باسم الدولة، وعانت تلك اللجنة من بعض المعوقات في عهده، لكن النضال في ذلك الملف استمر في عهد لولا دا سيلفا وديلما روسيف.
لقد كانت عملية الانتقال نحو الديمقراطية في البرازيل عملية بطيئة وتدريجية ومتقلبة، لكنها استقرت في النهاية.