لاتزال أزمة الأرز مستمرة في السوق المحلية للشهر الثالث على التوالي، وسط اتهامات للتجار بالاحتكار وتعطيش السوق من خلال تقليص الكميات المطروحة، خاصة الأنواع الفاخرة. يأتي هذا في إطار محاولات التحايل على التسعيرة الجبرية التي فرضتها الحكومة ممثلة في وزارة التموين، والتي وضعت فيها حدا أقصى لسعر الكيلو عند 18 جنيها.
من ناحية أخرى، تواصل أسعار الأرز الارتفاع في السوق المحلية مع اختفاء غالبية الأنواع الفاخرة رغم توصيف الحكومة له كأحد المحاصيل الأساسية، التي تصل فيه نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 99%، وبنهاية الأسبوع الماضي، ارتفعت أسعار الأرز الأبيض البلدي عريض الحبة “بنسبة كسر 3%” بمقدار 500 جنيه، ليصل سعر الطن إلى 16.3 ألف جنيه، والأرز رفيع الحبة “كسر 5%” ليبلغ سعر الطن 15.8ألف جنيه.
اقرأ أيضا.. الأرز لا يزال مختفيا.. الجميع يتهم الجميع.. والمستهلك ضحية إجراءات بلا تأثير
الدكتور إبراهيم العشماوي مساعد وزير التموين والتجارة الداخلية، أشار إلى وجود شبكات من المحتكرين في الأرز، حينما قال إن الدولة لها أنياب وأذرع من حديد ستتدخل بيد من حديد على المحتكرين أو المُغالين في الأسعار، وهناك فترة انتقالية لتوفيق الأوضاع، لكي يتعظ التاجر وإلا لن يكون هناك رحمة، ولن تترك الأمور كما هي.
في محصول مثل “الأرز” يصعب تتبع حلقات التداول، فالمزارع يُورد للتاجر الصغير ومنه لتاجر جملة أكبر، ومنه إلى المَضرَب الذي يتولى “تبييض الأرز” أو بمعنى آخر إزالة القشرة الخارجية له ليتحول من أرز شعير إلى أبيض، وقد يتولى المضرب التعبئة لنفسه ليتحول إلى مُصَنِع وتاجر بالوقت ذاته، أو يورد لشركة منتجات غذائية تتولى التعبئة في عبوات بلاستيكية باسمها والتوزيع على السلاسل والمحال.
كمية الأرز التي تم توريدها من المحافظات تظهر وجود طرف آخر ينافس الدولة ولا يعبأ سوى بالربحية، فإجمالي ما تم توريده من مديرية التموين بمحافظة مثل الدقهلية، بلغ 91508 أطنان و77 كيلو من الأرز الشعير للجهات المسوقة منذ بداية التوريد، وهو رقم أقل من المفترض فالمساحة المنزرعة بالأرز بالمحافظة عن الموسم تبلغ 318 ألف فدان، والمطلوب توريده هو طن عن كل فدان بما يعادل 318 ألف طن.
الشركات الأكثر نفوذًا بالسوق
رغم تعدد مصنعي الأرز الأبيض لكن توجد 8 شركات ومضارب لها الانتشار الأعرض في السوق، في فئة العبوات الكبيرة (25 و50 كيلو) وأصحابها تجار غير مشهورين، وفي سوق العبوات الصغيرة، توجد شركات متعددة لكن الأكثر شهرة هي “الضحى” التي تعمل في السوق منذ 1980 خاصة تعبئة المنتجات الجافة، بجانب Wakalex التي تعمل في الأرز منذ أكثر من 45 عامًا، وتصدر أكثر من 150 ألف طن متري سنويًا، ويملكها أحمد الوكيل، رئيس الغرفة التجارية في الإسكندرية والمعروف بـ”شهبندر تجار مصر”.
في السلاسل التجارية الكبرى حاليًا، لا يوجد منتجات أرز مصري مع انتشار لأنواع مستوردة “بسمتي” بأسعار تدور في فلك 50 جنيهًا للكيلو، وبات من السائد وجود عبارة “غير متوفر في المخزن” بشركات توزيع الأرز الكبرى التي تتعامل في التوزيع لصالح أكثر من منتج.
جولة في الهايبرات الكبرى تظهر غياب الأرز الفاخر من بعض الفروع، وهو ما أكده حازم المنوفي، رئيس المواد الغذائية والبقالة والعطارة بالغرفة التجارية بالإسكندرية، في تصريحات صحفية أخيرًا، بشأن إيقاف شركة الضحى لرفضها تطبيق التسعيرة الجبرية وفقا لقرار مجلس الوزراء. إذ تبيع منتجها في الأصل بـ 22 جنيهًا للكيلو، كما توقفت شركة الزمردة للصناعات الغذائية منتجة أرز “الساعة” و”الوكالة” و”القبطان” عن طرح الأرز، مؤكدة عدم توريد “الشعير” إليها من المزارعين في سبتمبر الماضي.
وحددت وزارة التموين سعر بيع الأرز بالسوق المحلية بقيمة 12 جنيهًا للأرز السائب، و15 جنيها لكيلو الأرز المعبأ، وعادت بعدها بشهرين لتسمح للمحال الكبرى برفع سعر الأنواع الفاخرة “كسر 3% على الأكثر” بنسبة 10% فوق التسعير الإلزامي، وعادت مرة ثالثة باستثناء الأرز الفاخر من قرارها الأول، والسماح بتداوله حرا على ألا يزيد عن 18 جنيهًا، لكن ذلك السعر لم يرض الشركات الضخمة في السوق التي كانت تبيع منتجها بـ 22 جنيهًا حتى قبل وجود أزمة من الأساس.
لكن مسئول بشركة الضحى، يقول إن زيادة الأسعار تبدو غير مقنعة للبعض، ممن لديهم معيار للجودة فيما يتعلق بالنوعية والتعبئة، علاوة على ارتفاع سعر محصول الأرز من الموردين، الأمر الذي انعكس على سعر البيع النهائي، ونفى في الوقت ذاته وجود تعطيش للسوق، معتبرًا أن ما يحدث هو سحب الكميات المطروحة التي يتم توفيرها باستمرار في المنافذ من قبل المستهلكين بمجرد طرحها.
في بداية موسم التوريد، حددت الحكومة للفلاحين توريدًا إجباريًا للمحصول بواقع طن على كل فدان بقيمة 6850 جنيهًا، ومتوسط إنتاجية الفدان ما بين 3.5 و4 أطنان في المتوسط، وعادت ورفعت سعر التوريد ليصبح 9 و10 آلاف جنيه لتشجيع المزارعين الذين أبدوا عدم رضا، خاصة بعد ارتفاع تكاليف الإنتاج لكن الأسعار الجديدة لم تحقق المستهدف من التوريد حتى الآن في ظل تقديم المنافسين لها سعرا أعلى.
حلقات التداول تصعب التتبع
للأرز طبيعة خاصة في التداول، إذ يتم بيعه إما سائبًا بالكيلو من عبوات زنة 25 أو 50 كيلو جرام تعبئه المضارب لحسابها الخاص أو عبوات زنة كيلو جرام أو 5 كيلو جرام ويتم تعبئتها في شركات خاصة، وهي التي تتضمن القدر الأكبر من المشكلة الحالية.
يقول الخبير الاقتصادي نادي عزام، إن المشكلة في الأرز ليست في المحتكرين فقط ولكن في المنتفعين الين يدخلون للسوق بأوقات الأزمات وهم مواطنون عاديون أو أرباب مهن أخرى يرغبون في الكسب السريع أو المبدأ السائد “انتش وإجري”، وهو أمر فاقم من المشكلة.
يوضح عزام أن قطاع من المواطنين فاقم الأزمة باستغلال الفوائض المالية لديه في التجارة بشراء كميات كبيرة من الأرز بسعر رخيص وإعادة بيعها وهو أمر حدث في سوق السيارات حينما دفع البعض مقدمات أربعة وخمسة سيارات فقط وأعاد بيعها مجددًا بسعر يفوق السعر الذي تعاقد به بعشرات الآلاف.
ويبلغ متوسط نصيب الفرد من الأرز 29.6 كيلو جرام سنويًا وفقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تعادل 2.4 كيلو شهريًا (82 جراما يوميًا)، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالمستويات العالمية وبدول المنطقة فدولة مثل السعودية وهي مستورد صاف للأرز يبلغ استهلاك الفرد بها 43 كيلو جرام سنويًا.
الأرز في المضارب
“الأرز عند المضارب وليس المزارعين”.. بتلك العبارة يلخص حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، حال سوق الأرز حاليًا، مؤكدًا أن المزارع ينتظر موسم الحصاد بفارغ الصبر من أجل البيع من أجل سداد مقابل الحصاد والري والأسمدة ورش المبيدات من عائد البيع، بالتالي لا يوجد لديه رفاهية تخزين سلعة من أجل المضاربة على سعرها، أو دفع الغرامات التي يتضمنها القانون.
أصدر مجلس الوزراء، قرارًا، يعتبر الأرز سلعة استراتيجية يحظر حبسها عن التداول، سواء من خلال إخفائها أو عدم طرحها للبيع أو الامتناع عن بيعها أو بأي صورة أُخرى، مع عقوبة على المُخالفين بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تتجاوز مليوني جنيه، أو ما يعادل قيمة البضاعة أيهما أكبر، وفي حالة العودة، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين، ولا تجاوز 5 سنوات وتُضاعف قيمة الغرامة بحدّيها.
لكن صاحب مضرب للأرز في كفر الشيخ، يقول لـ”مصر 360″، إن المضارب الصغيرة حاليًا مثل مضربه لا تملك أي جوال أرز، وتنتظر وصول كميات منه مع سماح وزارة التموين للمضارب بحرية تدبير وتداول وتخزين الأرز الشعير داخل مضاربهم أو المخازن التابعة، وتوقع أن يكون بيع جوال الأرز بعد تبييضه بين 360 و400 جنيه للجوال زنة 25 كيلو، بنسبة كسر تتراوح بين 10 و12%.
شكلت وزارة التموين، لجان تفتيش بجميع مديراتها تتضمن مفتشي التموين والمباحث العامة ومباحث التموين وهيئة سلامة الغذاء وجهاز حماية المستهلك من أجل البحث عن مضارب الأرز غير المعتمدة أو أماكن التخزين.
يقول أبو صدام، إن احتكار كبار التجار للأرز وكثير منهم من أصحاب المضارب، هو السبب الحقيقي لخلق الأزمة، وحلها عندهم خاصة أن تخزين الأرز لا يحتاج لجهد، فـ”الحب الشعير” يمكن أن يظل كما هو لمدة تصل إلى العام، ولا يتطلب سوى مكان صالح فقط، على عكس القمح الذي يتعرض للتسوس وإجراءات خاصة للتخزين.
هل يمكن تتبع المحتكرين؟
منحت الوزارة مهلة للمضارب الخاصة المتعاقدة مع هيئة السلع التموينية، 48 ساعة للتوريد وحال الامتناع يتم الإغلاق الفوري، من أجل تحقيق المستهدف بتوريد 1.5 مليون طن من الأرز الشعير لصالح هيئة السلع التموينية، تمثل 25% من الكميات المنزرعة التي تمثل 1.5 مليون فدان بإنتاجية 5 ملايين طن.
أعطت “التموين” الفرصة لمضارب القطاع الخاص في المشاركة في عملية توريد الأرز الشعير، بعد إقرار أحقيتهم في استخدام حتى 50% من إجمالي الكميات المسوقة لصالح المضرب والباقي لصالح هيئة السلع التموينية، أما حال رغبة المضرب توريد كامل الكمية التي يتلقاها من الأرز لصالح هيئة السلع التموينية فيتم الاتفاق على إجراء تعاقد بين المضرب والهيئة مع تحديد للتكلفة الخاصة بضرب وتعبئة الأرز.
مشكلة الكسر والمضارب
“م. ع”، مدير مضرب أرز بالغربية، يقول إن مشكلات الأرز بمصر ليست في الوفرة ولكن في ارتفاع نسبة الكسر التي تقلل من المنتج الجيد الذي يرضي الزبون بالسوق فالدرجات ذات الجودة الأقل متوافرة بصرف النظر عن ارتفاع سعرها، علاوة على نظام التعاقد مع المحال التجارية الذي أصبح غير مجدٍ مع ارتفاع التضخم، وساهم في نقص المعروض من السوق.
تزيد نسبة الكسر في الأرز المصري بسبب نوعية المضارب فوجود نوعيات تقليدية منها بالمحافظات، لا تضيف زيت البرافين الذي يحافظ على المنتج أو تمتلك جهاز “سلوتكس” الذي يميز الألوان ويعزل الحبة الحمراء أو الشعير قبل الوصول للخزان الماكينة التي تتم فيه التعبئة يقلل من الجودة، بجانب الاعتماد على الفرَاكات البدائية التي تضيع كميات كبيرة من المحصول بزيادة نسبة التقشير والكسر مع الحبوب التي يقال عيها في الريف “سِرس”.
يصل عدد المضارب في القطاع الخاص بمصر إلى 352 مضربًا للأرز 50% متعاقد مع الحكومة على توريد الأرز الذي يتميز بوجود العديد من الدرجات، أولها الشعبي الذي تكون نسبة الكسر فيه 10% والتمويني بنسبة كسر 12%، كما توجد درجات أعلى تتداول في السوق مثل الأرز العادي بنسبة كسر 7% في المحال التقليدية، والأرز “السياحي” بنسبة كسر 5% وأرز “التصدير أو الفاخر” بنسبة كسر 3%.
يضيف “م.ع”مدير المضرب بالغربية، أن المحال التجارية ومنها سلاسل كبيرة تريد توريد الأرز من التجار بالطريقة المعتادة، ولا تقوم بدفع المقابل إلا بعدها بشهر كامل بعد إتمام البيع وهو أمر يعني خسارة التاجر أمواله في ظل انخفاض قيمة العملة وارتفاع الأسعار المستمر، بجانب تخزين بعض المطاعم كميات كبيرة لتأمين احتياجاتها المستقبلية، خاصة أن الأنواع التي تتضمن كمية كسر عالية غير محببة لهم لزيادة نسبة تعجنها في الطهي.
الإشكالية في الأرز أيضًا أن الصانع ممثلاً في المضرب والتاجر ممثلاً في مضرب واحد في كثير من الأحيان، وهدفهما المشترك هو الربح في المقام الأول، بجانب تعدد حلقات التداول التي تخلق محتكرين في كل مرحلة، علاوة على سهولة تخزين المحصول في أي مكان وصعوبة رصده حتى أن بعض التجار اعتادوا على التخزين في الأدوار السفلية بالمنازل “البدرومات”، وزرائب مواشي وسط الزراعات، وحتى في شقق أرضية بالمنازل العادية.