انتهت النسخة 22 من كأس العالم في قطر، وفتح الباب أمام تساؤلات جديدة لم تطرح في النسخ السابقة، فلأول مرة تنظم بلد عربي بطولة كأس العالم وتطرح منذ اليوم الأول قضايا تتعلق بالهوية واحترام التنوع الحضاري والثقافي، ومسألة دمج اللاعبين الأجانب في أوروبا.
والحقيقة، أن تساؤلات كأس العالم في نسختها القطرية كثيرة أولها تتعلق بنقاش الهوية والرسالة الحضارية، فالبعض اعتبر أنه ليس مكان كأس العالم الرسائل الحضارية والسياسية. والحقيقة، أن حضور السياسة وثقافة البلد المستضيف للبطولة تكرر دائما، وأن الفيصل هو في عدم إجبار الناس على التفاعل مع هذه الثقافة، أوتقديمها بطريقة لزجة منفرة إنما تمت بشكل اختياري ناعم عبر “باركود”.
صحيح، أن الأوروبيين حين نظموا بطولات كأس العالم لم يشغلوا بالهم بأن يقدموا حضارتهم في “كبسولة” تعريفيه لأنهم الحضارة المهيمنة على العالم ولا يحتاجون لتقديمها. وبالتالي أحسنت قطر حين قدمت رسالة حضارية عربية إسلامية بدأت باختيار أجمل الأصوات لرفع الآذان، وانتهت بلقطة وضع أمير قطر العباءة العربية على كتف “ميسي” لتراها وتتذكرها أجيال قادمة، لتعرف أن العالم متنوع حضاريا وإن ثراءه في تنوعه.
كأس العالم في قطر لم تصنع التنوع الحضاري إنما رفعت الغطاء عنه وكشفته أمام أعين الجميع، فلأول مرة يتكلم العالم في بطولة كأس العالم حول الهويات الحضارية وعن مظاهر التعبير عن الثقافات المختلفة بدءا من حضور أمهات فريق المغرب في الملاعب ومرورا بمنع الخمور في محيطها، وانتاهء بمنع علم المثلية الجنسية.
بالمقابل، فإن النقاش “غير الكروي” في الدورات السابقة تركز على انحياز التحكيم لأوروبا على حساب دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا، أو عن تواطؤ بعض الفرق الأوربية مع بعضها لإقصاء فرق عربية وافريقية، أي أن نقاش السياسة وهموم الجنوب ورفض المركزية الغربية كان هو الحاضر سابقا، على عكس ما جرى في كأس العالم الأخيرة حين تراجع الحديث عن انحياز الفيفا والتحكيم لأوروبا حتى لو حدثت اخطاء تحكيمية.
أما التساؤل الثاني فهو يتعلق بالتغطية الإعلامية للبطولة، فقد اعتدنا في البطولات السابقة أن يركز الإعلام على أداء المنتخبات في داخل الملعب وخارجه، وأيضا سلوكيات الجماهير والشغب إن حدث، وأحيانا بعض الإشارات السياسية مثلما جري في الدورة السابقة التي استضافتها روسيا وغيرها، أما هذه المرة فقد كنا أمام لائحة اتهام من قبل منصات إعلامية غربية كبرى اتهمت قطر باستغلال العمالة وبالأصولية الدينية وبعدم احترام ثقافات باقي دول العالم والمقصود أوروبا.
والحقيقة، أن قضية العمالة الأجنبية كانت قضية حقيقية ومشروعه وإن جديتها كانت تطلب فتح تحقيق جاد حولها في السنوات الماضية وليس تحريض في الاسابيع الماضية، وفي حال التأكد من وجود اخطاء يتم إما تعويض الضحايا أو محاسبة قطر.
أما أن يتجاهل الإعلام الغربي ما جرى للعمالة الأجنبية طوال السنوات الماضية (إلا استثناءات قليلة) ويكتشف الأمر فجأة قبل البطولة بأسابيع فإن هذا يعكس كثير من الترصد والاستهداف غير النزيه.
أما الإعلام القطري المقابل فرغم قدراته المادية والمهنية المرتفعة، إلا إنه لم يتحدث عن ثغرة أو هفوة واحدة في البطولة وتحدث عنها كما يفعل الإعلام المحلي العربي تجاه أي حدث ينظم على أرضه، فلم يسمح بحلقة نقاشية واحدة تضم أصوات منتقده عاقلة مع أصوات مدافعه كما يفعل في كل الملفات المتعلقة بالبلاد العربية الأخرى، حيث يرفع شعار الرأي والرأي الآخر، وفي حال كأس العالم رفع الإعلام القطري شعار هي “أفضل كأس عالم في التاريخ الكروي”.
وبدا لافتا حين سألت مذيعة “بين سبورت” الفرنسية الرئيس ماكرون عن أنه حضر إلي قطر رغم وجود مشاكل تتعلق بمنع علم المثلية، فرد إن هذا موجود في بلاد كثيرة، وأضاف “علينا أن نتذكر أن قطر نجحت في التنظيم وفي الحفاظ على أمن البطولة” وحين نقلت “بين سبورت” العربي وقناة الجزيرة ماقاله الرئيس الفرنسي حذفت الجانب النقدي من السؤال واكتفت باشادات ماكرون بتنظيم قطر.
نعم. لقد نجحت قطر على كل المستويات التنظيمية والثقافية، وكل مادافعت عنه من قيم ثقافية وحضارية كان محل تقدير لأنه لم يأت في إطار “الفرض” إنما كان رسالة ناعمة واختيارية تدعو العالم لاحترام التنوع وليس تبني قيم الحضارة العربية الإسلامية، ولكن تغطية قنواتها حملت صوتا ورأيا واحدا بما فيها قنواتها الإخبارية.
أما التساؤل الثالث فيتعلق بالنقاش الذي طرح حول مدي نجاح منظومة الدمج الغربية تجاه المهاجرين الأجانب، فالمؤكد أنها نجحت ولو بالمعني النسبي تجاه كثير من اللاعبين الأفارقة وبعض اللاعبين من المنطقة العربية الذين لعبوا للمنتخبات الأوربية، وجاء الفريق المغربي ليكسر ما اعتبره الغرب بديهية أي اختيار اللاعبين الذين ولدوا وعاشوا في أوروبا المنتخبات الأوربية للعب معها، ولكنهم فوجئوا باختيار ثلثي الفريق المغربي من حملة الجنسيات المزدوجة “الاندماج العكسي” أي اللعب لصالح فريق وطنهم الأم وليس لصالح “وطن الجنسية”، كما أن اللاعبين الأوربيين وخاصة الفرنسيين من أصول أفريقية تعرضوا لحملات هجوم ضارية كثير منها ذو طابع عنصري بعد أن اهدروا ضربتي جزاء، وتحولوا مع الخسارة إلي لاعبين أفارقة يجب أن يعودوا لبلادهم في حين يعتبرون فرنسيين في حال الفوز.
النقاش في البطولات السابقة كان يدور حول التمييز والعنصرية وتحديات اندماج الأجانب في الفرق الغربية، أما في هذه البطولة فقد فتح الفريق المغربي نقاشا جديدا حول “رفض الاندماج” لصالح الولاء والانتماء للوطن الأم حتى لو كان ناميا، وللثقافة الأصلية حتى لو كان غير مرحب بها غربيا.
أسئلة كأس العالم في طبعتها الأخيرة كثيرة ومتنوعة وفتحت نقاشا عالميا تجاوز قضايا أداء الفرق والظلم التحكيمي والخلافات السياسية ليصل إلي قيم ومبادئ ثقافية وحضارية تقول أن العالم متنوع وإن الحملات المنظمة لا تكون من أجل أهداف عليا وسامية ويكتشفها الناس.