كان الرئيس أنور السادات مدركًا للتطلعات البسيطة لأي مصري في عصره. وقد لخصها في فلسفة “يريد بيت يعيش فيه ومكان يدفن به وعمل يستره”؛ وعبر عن هذا في أحاديث متعددة.

هذا ما يستدعي على الفور تضارب سياسات السكن في مصر منذ الأربعينيات إلى الآن، حين بدأت الدولة المصرية في التدخل مباشرة لحل أزمات الإسكان. هذا ما يؤكده كتاب (أزمة السكن في مصر.. تشكيل الفضاء الحضري) الصادر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة، من تأليف يحيي شوكت، الباحث في شؤون السكن والعمران، يعمل في مجال تحليل السياسات والتشريعات الخاصة بالإسكان.

وهو كتاب يمكن تصنيفه في مجال علم الاجتماع المعماري، لا يتحدث عن أنماط البناء وتحليها، بقدر ما يتناول سياسات وقوانين الإسكان ومدى نجاحها وفشلها. ومن ثم انعكاس ذلك على تلبية الطلب على السكن في مصر.

يرى المؤلف أن فشل هذه السياسات ظاهر في الخطاب الرسمي منذ الخمسينيات، من الحديث عن “مشكلة الإسكان” إلى الحديث عن “أزمة الإسكان”.

استخدم المؤلف التحليل المعتمد على الأرقام، وتطور النظر في التعامل مع الحاجة للسكن من التدخل المباشر من الدولة منذ الخمسينيات إلى القرن الحالي. إذ ينطلق المؤلف في كتابه من أن الإسكان هو حجر الزاوية الأساسي في حياة الأسرة المصرية: وهو بداية حياة أي أسرة، وقد يكون سببًا في انتهاء وتفكك الأسرة. لذا فهو في مصر محل النقاش العام، ويوازي النقاش حوله النقاش حول كرة القدم.

المصري يرتبط من حيث التركيبة النفسية بالسكن. لذا يفضل معظم المصريين بناء منازلهم بأنفسهم. هذا يذكره المؤلف في كتابه. ووفقًا لذلك، يدير المصري عملية البناء بنفسه، ويتابع تفاصيلها.

عند هذه النقطة يتوقف المؤلف، فالمصري القادم من الريف إلى الحضر أو المقيم في الريف لديه عقيدة مترسخة فيما يتعلق بملكية المنزل، الذي يعتبره المستقر، وبالتالي الحياة. بينما يرى الكاتب أن هذه الحياة تدمرت عبر سياسات الإسكان في مصر.

يعطينا المؤلف إحصاءً مهمًا؛ أن ربع المصريين في الحضر يستأجرون مساكنهم، والذين لا يستطيعون البناء أو التأجير “يجلسون القرفصاء”. ويجيب -عبر كتابه- بعمق عن تطور مفهموم المسكن في مصر.

فالسكن الأن عند المصريين هو رأسمالهم الحافظ للقيمة، والمال الذي يكتسبه المصري بشق الأنفس يرى في الاستثمار في العقارات. إنها من أدوات حفظ قيمة الأموال، وهذا ما يبلور مفهوم أعمق لدى المصريين في التعامل مع العقار بوصفه أداة ادخار.

يقدم المؤلف تحليلًا رائعًا في كتابه لعجز المصريين عن تحمل تكاليف بناء مسكن أو شراء سكن لائق في ظل ارتفاع تكاليف البناء. وهو السبب في أن يسكن غالبية المصريين في شقق لا تليق بهم، وما يقودنا إلى أن الشريحة الكبرى من المتعلمين في مصر تسكن في عشوائيات.

هنا المدخل للحديث عن علم النفس المعماري (أحد العلوم الغائبة في مصر). والذي يربط بين السلامة النفسية للأفراد والمجتمع والعمارة والتخطيط الحضري. إذ أن غياب علم النفس المعماري في الجامعات المصرية والمؤسسات المعنية بسياسات التخطيط العمراني والإسكان، ولد حالة سلبية في مصر. وهذا البعد أيضًا لا نراه في هذا الكتاب على أهميته.

مثّل الإسكان في رأي المؤلف أحد أدوات الخطاب السياسي في مصر منذ عصر الملك فؤاد وإلى الآن. فالحاكم عبر هذه العصور ربط نفسه مباشرة بمشروع إسكان واسع النطاق، لتستثمر الدولة في ظله مليارات الجنيهات عبر عدد من المؤسسات الحكومية (هيئة المجتمعات العمرانية / تعاونيات البناء والإسكان / المحليات .. إلخ).

يرى المؤلف أن سياسات الإسكان هذه تراوحت بين النظام الاشتراكي والليبرالي لتخدم الخطاب السياسي للسلطة ولتعظم الشعبية السياسية ليس أكثر. فهي أدة لحشد الدعم السياسي أو لامتصاص الاضطرابات الاجتماعية فقط. ويرى هذا بوضوح عبر إعلانات الإسكان الاجتماعي التي تغمر كل وسائل الإعلام. خاصة أثناء الحملات الانتخابية أو في فترات الاحتجاج.

يقول المؤلف إن السكن مثير للجدل، ليس لأنه تعبير عن الاستقرار النفسي والاجتماعي لدى المصري، بل كذلك لأن الملايين من الأسر ذات الدخل المحدود والفقيرة والأسر ذات الدخل المتوسط يعيشون في حالة من عدم الاستقرار القانوني في السكن. فهم يواجهون تهديدًا مستمرًا بالإخلاء، وتم طرد عشرات الآلاف من الأسر لإفساح المجال لمشاريع التنمية الحضرية أو لأن مبانيهم اعتبرت غير قانونية فهدمت.

يقدر المؤلف أن ما يقرب من مليون أسرة تحت خطر وقوع كارثة وشيكة، لأسباب متعددة، منها الخلل في العلاقة بين المالك والمستأجر نتيجة لقانون الإيجارات القديم الذي يحصن المستأجر في مواجهة المالك، ولم يعط علاقة مرنة بينهم تكفل لكل طرف حقوق واضحة ومقبولة. ما يدفع الملاك إلى أساليب وحيل، منها السعي إلى هدم البناية وسكانها بها، بحيل وطرق مختلفة. فضلًا عن أسر تسكن في بيوت قابلة للانهيار في أي لحظة، أضف لذلك المقاولين الذين يشيدون مساكن قابلة للانهيار بسبب سوء البناء.

إن ما ينتهي إليه الكتاب هو فكرة الحيازة الآمنة للسكن. هذا التهديد في ملكية السكن أو استقرار السكن يركز عليه المؤلف. فهو يرى أن مشروعات الإسكان التي بدأت علي سبيل المثال للشركات الصناعية التي كانت تبني لعمالها مساكنها، ثم تحول ذلك إلى مشروع للدولة للإسكان الاجتماعي، ثم عدم وضوح سياسات الإسكان، أدت إلى خلل في السكن في مصر.

وهو يعالج ذلك عبر سياق البنية التشريعية ومشاريع الإسكان والخطاب السياسي للإسكان.

هذه المعالجة الفريدة لهذه القضية تستحق القراءة.

لكن، لابد هنا أن نعقب على ما جاء في الكتاب؛ فهو طرح غير مسبوق. وفي هذا الطرح لابد من التساؤل حول دور المركز القومي لبحوث الإسكان والتعمير، الذي أنشأ في عام 1954 والمفترض له أنه يدرس ويحلل كل ما سبق ويقدمه لصانع القرار.

كما أن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لها دور في تقييم تجربتها في مجال الإسكان عبر ما اكتسبته من خبرات. فضلًا عن نجاحات لا يمكن إنكارها.

نحن بحاجة لتقييم كل السلبيات التي يمكن البناء عليها للمستقبل.

نرى في مصر تداخلًا علي سبيل المثال بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة والجهاز المركزي للتعمير -الذي أنشأ عام 1975- وكلاهما تابعان لوزارة الإسكان والتعمير، وكذلك تداخلًا آخر مع الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية. هذا ما يقتضي التساؤل حوله وحول سياسات التنمية والإسكان في مصر.