القضية ليست اقتصادية أو استثمارية بقدر ما هي مسألة مصير وأمن قومي.

لسنا بصدد مساجلة في الهواء الطلق إذا ما كانت هناك أخطارا حقيقية تتهدد السيادة المصرية على أهم شريان ملاحي في العالم، ورهن مستقبل البلد كله للمجهول، أم أن المخاوف المتداولة على نطاق واسع محض ادعاءات تطلق بسوء، أو حسن نية.

النفي الرسمي المتواتر يؤكد جدية المخاوف.

إلى أين نحن ذاهبون إذا ما أقر قانون يضع مصير قناة السويس رهنا للتساؤلات القلقة والسيناريوهات المفتوحة؟

إذا ما تأكدت المخاوف على أرض الواقع بإجراءات وتصرفات يتيحها مشروع القانون فإن كل السيناريوهات ممكنة وأبواب الجحيم سوف تفتح على البلد ولا يبقى حجر على حجر.

بموجب التعديلات، التي أدخلت على القانون رقم (30) لسنة (1975) المتعلق بنظام هيئة قناة السويس، ينشأ صندوق مملوك لها بذريعة تمكينها “من مجابهة الأزمات والحالات الطارئة التي تحدث نتيجة أية ظروف استثنائية، أو قوة قاهرة، أو سوء في الأحوال الاقتصادية”.

بذريعة الاستغلال الأمثل لأموال هيئة قناة السويس نص مشروع القانون أن من صلاحياته “شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها”.

هكذا بالنص.

“بما في ذلك المساهمة بمفرده، أو مع الغير، في تأسيس الشركات، أو زيادة رؤوس أموالها والاستثمار في الأوراق المالية”.

هكذا بالنص أيضا.

هذا كلام يكاد يستحيل تبريره أو إسناده بأية ذرائع شبه متماسكة.

الأسئلة تطرح نفسها، عن الخطوات التالية التي تعقب تمرير القانون: من الشركاء المحتملين في شركات الصندوق؟!.. بأية شروط وحسابات في مسائل تدخل بطبيعتها في اعتبارات الأمن القومي وسيادة مصر على قرارها؟.. ما علاقة ذلك كله بالمفاوضات التي جرت مع صندوق النقد الدولي؟!.. وهل هناك احتمالات لاستصدار صكوك بضمان قناة السويس أو طرح أسهمها في البورصات الدولية؟!

التساؤلات مشروعة ونصوص القانون تؤكد الخطر ولا تنفيه.

بحقائق الأمور: مشروع القانون بتوقيته ونصه وأخطاره يدخل في تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تخنق حياة المواطنين بارتفاعات الأسعار ونسب التضخم وأعباء الديون الباهظة وانخفاض قيمة الجنيه المصري إلى مستويات قياسية.

هشاشة الاقتصاد تسببت فيها سياسات خاطئة وأولويات خاطئة وبيئة عامة تصادر حق الاختلاف والنقاش.

بإرث التاريخ الماثل قناة السويس مسألة حياة أو موت لمصر، وزنا ودورا.

تكاد تلخص التاريخ المصري الحديث كله بأحلامه واحباطاته، انتصاراته وهزائمه في الحروب التي خاضتها.

إذا لم نكن قد فقدنا ذاكرتنا، أو احترامنا لتضحيات هذا البلد، فإنها مسألة كرامة وطنية.

لم يكن بوسع أحد في العالم توقع تأميم قناة السويس قبل إعلانه من فوق منصة “ميدان المنشية” بالإسكندرية يوم (26) يوليو (١٩٥٦)، ولا كان مطروحا تسليم شركة قناة السويس إلى مصر بعد انتهاء عقد الامتياز عام (1968).

لم تكن شركة تستثمر بقدر ما كانت دولة داخل الدولة.

بالوثائق المصرية والفرنسية قاد “فرديناند ديليسبس” أخطر عملية نصب في التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر (44%) من رأسمال الشركة دون أن يكون لها أية سيطرة على أمورها، فضلا عن التضحيات الهائلة التي دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة تحت السخرة.

كان ذلك استنزافا لموارد مصر وقدراتها المالية أسقطها في شرك الديون الخارجية، وأفضى إلى احتلالها عام (1882) بالسلاح البريطاني.

لم تكن قناة السويس لمصر التي حفرتها على مدى ستة عشر عاما متصلة، وفق نص التعاقد الذي أبرمه “ديليسبس” مع الخديو “سعيد”.

مات نحو مئة ألف مصري في عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان في ذلك الوقت، نحو أربعة ملايين نسمة.

كانت قناة السويس أهم مشروع هندسي في العالم بالقرن التاسع عشر قيدا حديديا على المصير المصري، ومصر كلها رهينة للقناة حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالي.

رمزية القناة مكون رئيسي في الوطنية المصرية.

بقرار التأميم رد اعتبارها، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدي الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية في صلب مصالحهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذي تمر حمولاته عبر قناة السويس.

جسارة التحدي تأخذ معناها الحقيقي من سياقها في الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفيتية، أيدت حركات التحرير الوطني في العالم العربي، دعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، ولعبت دورا جوهريا في تأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثا في “باندونج”.

حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته في الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.

اكتسبت مصر استقلالها الوطني الكامل في حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح في مواجهة العدوان الثلاثي، البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي، لا بـ”اتفاقية الجلاء” التي وقّعها “عبدالناصر” نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.

لم يكن رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، السبب الرئيسي لتأميم قناة السويس بالفعل ورد الفعل.

منذ احتلال مصر وهي تتطلع إلى هذا اليوم، الذي تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطني، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.

فكرة التأميم لم يخترعها “جمال عبدالناصر”، ولا طرأت على رأسه فجأة.

قبل “يوليو”، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها- أحيانا- دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة.

لم يكن أحد يتصور أن يأتي هذا اليوم فعلا، حتى إن أغلب الذين دعوا للتأميم قبل يوليو لم يحتملوا المفاجأة عندما صارحهم بها “عبدالناصر”، وهو يتأهب لإعلان قراره خشية ردات فعله.

بعد تحدي السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها.

قبل التأميم وبعده لم يكف رئيس الوزراء البريطاني “أنتوني إيدن” بما يشبه الهستيريا عن طلب رأس “عبدالناصر”: “أريد أن أدمره تماما” “أريده جثة أمامي”، لكنه اضطر في النهاية لأن يستقيل من منصبه بعد فشله الذريع في أزمة السويس.

لم يكن “أنتوني إيدن” وحده من يطلب رأس “عبدالناصر” وتدميره كليا.

التقت مصالح واستراتيجيات على استهداف أي دور محتمل لمصر.

على الجانب الآخر نهضت دول العالم الثالث والقوى الحرة في الغرب لرفض العدوان وإدانته.

تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكري تخطيطا وتنفيذا من خلفها دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية.

وكان الموقف السوفيتي حاسما إلى درجة التلويح برد قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا.

بدا العالم كله، لأسباب متناقضة، في جانب مصر.

تجلت في حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية.

بتعبير رئيس الوزراء الهندي “جواهر لال نهرو”، فالعدوان استهدف: “حرية بلد تحرر أخيرا من الاستعمار، وهذا إلغاء للتاريخ لا يمكن التهاون معه”.

لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الإفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس.

لم يكن تأميم القناة سوى خطوة في مشروع امتد إلى كل مناحي تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعي.

هذه الحقائق استقرت في الوجدان العام، سقط شهداء وضحايا، حارب فدائيون في القناة قبل ثورة يوليو طلبا للجلاء والاستقلال.

المس الخشن برمزية قناة السويس يفضي بالضرورة إلى ردات فعل قد تفلت عن كل حساب.

نظرية الأمن القومي نفسها قد تتقوض.

تحتاج مصر الآن أن تتدبر مصيرها بتعقل، أن تتحدث قواها الحية بوضوح، أن تضغط وتلح على سحب القانون لسلامة البلد كله بعيدا عن بوابات الجحيم.