تتعاقب الانكسارات، يتخللها العجز، نحزن حين نكتشف وهن الحائط الذي استندنا عليه، بعد أن تتكرر وقائع الخذلان، فتسقط قطعة منا في بئر الحزن، ويعشش الخوف من الآخر طاردًا الطمأنينة وموغلًا في الروح الكثير من الهواجس عما سيكون عليه القادم.

قالوا قديمًا حرص ولا تخون، ويُجمع الغالبية على أن تأخذ مسافة حين تتعرف على أحدهم، فعليك أن تفترض سوء النية قبل حُسنها، إنها متاريس يتم دقها في مسارات الحياة، وكل يرى نفسه حسن الظن والنية، ويبقي السؤال إذا كان الجميع يملكون النية الحسنة فمن يخون ويكسر ويُفسد؟

هل نُسيء الظن؟

يُمازحك أحدهم ويقول لك بلاش سوء ظن، واصفًا لك بالانحراف نحو مساوئ البشر وزلاتهم، يقولها مزحًا أو نُصحًا غير مُدركًا لخبراتك أو تجاربك التي تكللت بالخيبة، وربما كان النُصح من داخلك إذا قابلت أحد وترددت في التعامل معه، البعض يُزيح الأفكار السوداء، ويسعى نحو الإيجابية وحُسن النية، لكنه في كثير من المواقف يأتي الوجع والخذلان من هؤلاء الذين منعنا أنفسنا أن نُسيئ التفكير بهم، تتوجع وأنت تُعيد اجترار كل جميل بينكم، وكل دعم قدمته له، فهل كان سوء الظن مُنجي؟

خُلِقَ الإنسان في كبد، كما قال الله عزّ وجل في كتابه الكريم، أي أن لكل منا شقائه ومتاعبه، ولأن البرد على قد الغطا كما جاء في المثل الشعبي، فالله يُعطي لكل مقدار ما يتحمله، لكن الانسان مُتعجل في كل شيء، حتى الابتلاء لا يحتمله الجميع، ولذا تأتي ردود الأفعال المتباينة، فقد يضيق الحال بأحدهم فيصور له خياله أن يشي بزميله حتى يأخذ مكانه، فيُصبح خائن لكنه عند نفسه ناجح واستطاع الحفاظ على مورد رزقه، وآخر تدخل إلى نفسه الغيرة من علاقة بين زميلين فيعمل على إفسادها، وأمثلة كثيرة جدًا، لكن النتائج موجعة وحزينة وتلون الروح بسواد خبرات وتجارب بائسة.

يلعب الخوف دورًا كبيرًا لدى أصحاب الظن السيئ، إذا أنه يُكبر من الخبرات السيئة للفرد نفسه أو تلك المستمدة من الرفاق، وما تم تدوينه في العقل الباطن نتيجة قراءات أو حكايات متداولة، وقد يكون من وقع عليه الأذى مُحق في لحظة الوجع، بحيث أنه لا يُفكر أبعد من اللحظة التي يعيشها، وهي أمور مقبولة ويمكن تفهمها.

لا يأتي سوء الظن مُنفردًا بل يواكبه ويعزز حضوره عدد من المرافقين

  • وشايات الرفاق وشكوكهم عامل أساسي في بث الجانب السلبي.
  • الخوف من تكرار الفشل في العلاقات أو خسران جديد يُضاف إلى سلة الخيبة.
  • الخبرات السيئة.
  • الغيرة من انضمام شخص جديد لمحيطك وقد يعتبر البعض ذلك تهديدًا لمكانتهم.

إنه موكب بالضرورة يدفع طريقك نحو الجانب المُظلم من العلاقات، وهو ظلم تُمارسه مع نفسك ومع الآخر الذي نبت سوء الظن نحو بشكل استباقي.

أنواع سوء الظن

قد يعتقد البعض أن سوء الظن واحد وهو تصور غير صحيح، فهناك سوء ظن أساسي لدى البعض، إذ أن البعض يتعامل مع الاخرين أنهم سيئون حتى يثبت العكس، ويكون الاخر في تجربة يظل يُقدم ويبذل الجهد، ومع أول اخفاق يشتعل سوء الظن والسيناريوهات السوداء بعديد من الأفكار والتصورات الخاصة بالآخر، بغض النظر عن صحتها لكنها تتواجد وتضبب العلاقة حتى بعد تفهم الموقف أو الإخفاق الذي حدث.

نوع آخر من سوء الظن ذلك الذي يغرسه المحيطون بك مؤولون ومفسرون لتصرفات وردات فعل حسب وجهة نظرهم، وهذا النوع خطورته بأن فاعليه يعرفون موطن ضعفك ومما تضيق نفسك، وإذا دخل الشك إلى علاقة فسدت مهما طال عمرها.

أما النوع الثالث فهو الذي ينتج من مواقف وخبرات مع الشخص ذاته وهي مرحلة تسبق انقطاع العلاقة، أكثر ما يؤلم فيها أنه يحفر حزنًا ووجعًا مبالغ فيه، فعادة ما يتكون سوء الظن نتيجة مضاعفات وتهويم للأفعال بعد إضافة التجربة الشخصية والأفكار التي تدور في عقل صاحبها.

لماذا يؤذينا سوء الظن؟

الكلام عن أذى سوء الظن والبحث عن أسبابه يحمل نوعًا من التقرير والانحياز إلى أن سوء الظن هو أذى، والحقيقة أنني بشكل شخصي أرى فيه أذى لصاحبه قبل الآخرين، إذا أنه بمثابة نوعًا من الطاقة السلبية التي تتولد ذاتيًا، فإذا كانت اللوحة منقسمة إلى نصف أبيض ونصف أسود، فإن سوء النظر يُمثل التمعن في النصف الأسود وتجاهل الجانب المضيء، والتورط في مثل هذه النظرة يسحب الانسان نحو النظر إلى المعوقات، وجلب الضغوط والتفكير فيما هو صعب وموجع، وهذا نوعًا من التهيئة لتقبل الضغوط بما يباعد بين الانسان والسعي للمقاومة ودفع الضغوط والمشكلات، فتوقع الأذى يجعلنا نقلل من عوامل المقاومة ويغرس بذور الاستسلام بداخلنا بشكل تلقائي، فنكون أضعف وأكثر هشاشة، في وقت نحتاج فيه كل قوة وتفاؤل حتى نمرر الضغوط والصعاب التي نمر بها جميعًا.

المسافة بين الحرص وسوء الظن

ونحن نتحدث عن سوء الظن علينا أن نفرق بين سوء الظن والحرص، فالحرص يجعلنا نختبر الأمور بشكل جيد، ونحتاط للأزمات، ولا نمنح كل ثغراتنا للآخر، بينما سوء الظن يضع الشك والترقب مواضع الحب والاهتمام، فتجد صاحب هذا التوجه يهدر طاقته ومشاعره في مراقبة الآخر وانتظار الموقف الداعم لأفكاره، وهو بذلك يقتل كل متعة وخير يمكن أن يحدث، لأنه يفوت مثل هذه اللحظات ظنًا منه انها فخاخ للإيقاع به.

وفى ظل الضغوط المتعاقبة على الجميع يُصبح اهدار الطاقة في مراقبة الاخرين عمل شاق، وجهد ضائع بلا طائل، من الأفضل ألا ندخل مثل هذه العلاقة، فحالات سوء الظن هي أشبه بأحدهم الذي يخرج وهو يتوقع أنه سيتعرض لسرقة، ومن ثم لن يرى شيء جميل حوله، ولن يفكر في بدائل عندما يجد الطريق مزدحم، لكنه سيظل مدفوعًا بالخوف فلا يرى ولا يفرح بشيء.

حرص بأن تكون بينك وبين الغير مسافة، وأن تفكر في أي موقف بشكل جيد وتسعى لرؤيته من زوايا متعددة، فهذا على الأقل يضمن لك علاقات سوية قدر الإمكان.