على صفحته على موقع فايسبوك، كتب المخرج القدير يسري نصر الله العبارة التالية: “قولولي يا جماعة إني بارانويد وإنه مافيش أي مؤامرة داخلية لتعطيل السينما والدراما وكافة الفنون المصرية”.

اقرأ أيضا.. قاصر وطبيب وشيخ و”وعاء”

لم يوضح صاحب “جنينة الأسماك” أكثر مما سبق، لكننا نعلم أن حديث المؤامرة يزدهر في أوقات الأزمات، لا فارق بين أن يكون المقصود مؤامرة داخلية – كما يقول الأستاذ يسري في منشوره – أو مؤامرة خارجية. فإذا وقعت أزمات متلاحقة أصابت الفن المصري فالأمر قد يعود إلى مؤامرة (إذا أخذنا كلام المخرج الكبير بحرفيته لا بما قد يحتويه من إشارات)، وإذا ازداد العنف في الشارع وجرائم القتل الوحشية من الإسماعيلية إلى المنصورة، فإن في الأمر مؤامرة، وبالطبع إذا غلا سعر الذهب وشحّ  الدولار، فهنا لا شك أنها المؤامرة.

والمؤامرات بالطبع جزء من الحياة لا يمكن إنكاره، منها البسيط والمعقد، المحلي والدولي، المالي والسياسي والأيديولوجي. لكن المؤامرة تختلف عن “نظرية المؤامرة”، وتلك الأخيرة هي في أبسط تعريفاتها: اللجوء إلى تفسير يختلف عن التفسير المباشر للأحداث من دون وجود دليل. فعلى سبيل المثال لو تعرض بيتك للسرقة – لا قدر الله – فإن المتهم الطبيعي سيكون أحد لصوص المساكن، أما لو اعتقدت أن منزلك سُرق ليزرعوا فيه أجهزة تنصت، فإنك الآن تفكر وفق نظرية المؤامرة مالم يكن لديك دليل مادي على افتراضاتك (كأن تعثر فعلا على أجهزة التنصت المزعومة).

ولا يخلو مجتمع من نظريات مؤامرة، لكن تزايدها وارتفاع وتيرتها لتصبح شبه يومية، ولتصبح هي المفسر لمعظم الأحداث كبيرها وصغيرها، يشير بلا شك إلى مشكلة اجتماعية، ليس في طرق التفكير فحسب، بل كذلك، وربما قبل ذلك، في كم الضغوط التي يتعرض لها سكان المجتمع فرديا وجماعيا، سياسيا واقتصاديا، فيلجؤون إلى التفسيرات التؤامرية وينسجون منها منظومة متكاملة، ذلك أن نظرية المؤامرة قبل أن تكون تفسيرا، هي كذلك مهرب من الواقع وإنكار له.

لقد تواكب، بالمصادفة، مع تصريحات صاحب “مرسيدس”، تصريحات إعلامية لمسؤول في جمارك مطار القاهرة، يمكن القول أنها على أقل تقدير قادرة على إثارة مخاوف العديد من المسافرين، حتى لا أستخدم كلمات أقوى من “مخاوف”، ومما جاء في تلك التصريحات، فضلا عن توضيح حد الإعفاء الذي لم يعد يناسب إطلاقا ما صار إليه سعر الجنيه، والضريبة والجمرك الذي يصل إلى 24% من قيمة المنقولات غير المعفاة، قول المسؤول إنه لا مانع لدى الجمارك للسيدات اللاتي يرتدين الذهب لاستخدامهن الشخصي ولكن “الشك يقع إذا كانت المنقولات لا تتناسب مع الوضع الاجتماعي للراكبة” (!). إنها بلا شك عبارة مطاطة، وحتى لو لم تكن تلك العبارة تمنح لموظفي الجمارك فرصة تقديرية غير محدودة، فإنها بلا شك ستجعل كل مسافرة تتسائل أثناء عودتها إلى بلدها عما إذا كانت منقولاتها الذهبية “مناسبة لوضعها الاجتماعي” أم لا، وما الذي سيحدث لها، ولمقتنياتها إذا رأى موظف الجمارك أن تلك المنقولات لا تناسب وضعها الاجتماعي، وعلى أي أساس يقرر، وحتى لو لم يتم احتجاز أو “جمركة” منقولاتها، فهل يحدث ذلك بسلاسة وسلام، أم أنها ستتعطل و”تتبهدل”.

تصريحات مثل هذه، في وقت يعد فيه الذهب والعملة الصعبة رقمين صعبين في الاقتصاد، لا يمكن أن تناسب  تصريحات المسؤول نفسه التي تشجع المواطن على جلب مقتنياته وأمواله إلى البلد. بينما يبدو على التصريحات أنها تكاد تفعل العكس، سواء لتوقيتها، أو لمطاطيتها، أو لأنها صدرت بدلا من إعادة النظر في حد الإعفاء الجمركي بعد أن هبطت قيمة الجنيه مرتين رسميا في عام واحد، وحيث أن إعفاء المنقولات والهدايا (10 آلاف جنيه) يتضمن الذهب أيضا. وبسعر الذهب الحالي يعني هذا خاتما واحدا أو ربما دبلتين!

هذا التضارب بين الأهداف والإجراءات والنتائج، كما في الإحباط الذي أصاب خطة الإعفاء الجمركي لسيارات المصريين المقيمين بالخارج، التي لم تحقق واحدا على مئة من أهدافها، لأن أحدا لم يستمع إلى مطالب المعنيين الأساسيين بالخطة، وجلّهم من المصريين المغتربين بالخليج، هي مجرد نماذج لمستويات من الفشل الإداري، يفضل البعض أن يتجاهلها ويلجـأ إلى نظرية المؤامرة، واتهام المواطنين بضعف الانتماء أو الجشع، مهما بدت الأسباب المباشرة، المنطقية، واضحة أمامهم، شاخصة إليهم.

وبالطبع فإن اتهام “الجشع” الموسمي، الذي يظهر في وسائل الإعلام عند كل تخفيض للعملة أو أزمة في توفر إحدى السلع، صار من “الكليشيهات” التي لم يعد يلتفت إليها المواطن كثيرا، خاصة بعد أن طال الاتهام الجميع، فهو تارة جشع التجار الكبار، وتارة جشع تجار التجزئة الذين لا يلتزمون بالتسعيرة، وأحيانا هو جشع مزارعي أو تجار الأرز، وبالطبع هناك جشع الذين “يكنزون الذهب” أو “يشترون الدولار” أو يرسلون النقود إلى أهاليهم بغير الطرق الرسمية. ولا داع للقول – فأنت تعرف – أنه مع شيوع الاتهام تضيع الحقيقة، وأن كل أنواع “الجشع” تلك لو صحت فهي تعكس ببساطة عدم الثقة في الاقتصاد، ولعدم الثقة تلك تاريخ طويل لم يبدأ مع هذا التعويم أو ذلك، بل بدأ منذ وضع معظم المواطنين مدخراتهم في العقارات التي حسب الوصف الدارج “لا بتاكل ولا بتشرب”، والأهم بالنسبة إليهم أنها آمنة من غدر الأسواق وأسعار العملة، وهكذا أخذت السيولة تتحول دوريا إلى رمال وأسمنت، وإذا بالدولة تقلدهم في ذلك! فتتوسع في العقارات في بلد تسكن الأشباح العديد من عقاراته.

وكأن ذلك ليس كافيا، إذا برموز إعلامية تطل على الشاشات من حين لآخر لتحذر المواطنين وتخيفهم بمعلومات تكرر عدم دقتها، على أمل إقناعهم بالتخلي عن مخازن ثروتهم “الذهب والعملة الصعبة”، وفي كل مرة يتضح خطأ تلك التصريحات، فلا ندم من اختزن الدولار ولم تصبح العملة الأمريكية بالتأكيد بأربعة جنيهات. وهكذا، صارت عدم الثقة مزدوجة، فهي ليست عدم ثقة في الاقتصاد فحسب، بل أضيف إليها قناعة بأن الإعلام يحاول خداع المواطنين. ثم نتعجب من شيوع نظرية المؤامرة.