“إن أوكرانيا حية وتقاتل. وقواتنا صامدة في مواقعها، ولن تستسلم أبدا”..
ألقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي العبارة في حماسة شديدة، باللغة الإنجليزية، وبنبرة ملؤها الجدّية، مساء الأربعاء الماضي، أثناء إلقاؤه خطاب تاريخي في العاصمة الأمريكية واشنطن. حيث صفّق أعضاء الكونجرس -بمجلسيه الشيوخ والنواب- وقوفا ومطولا، تحية للرئيس الشاب الذي تجرأ على تحدى الإمبراطورية الروسية.
وبينما كان من المفترض أن تكون حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا تتويجًا لإنجازاته، وإثباتًا للمدى الذي قطعته روسيا منذ انهيار الإمبراطورية السوفيتية في عام 1991. وأن يكون ضم أوكرانيا خطوة أولى في إعادة بناء إمبراطورية روسية، مع فضح الولايات المتحدة خارج أوروبا الغربية باعتبارها “نمر من ورق”. كان زيلينسكي يؤكد أمام الكونجرس الأمريكي أن المساعدة الأمريكية لبلاده “ليست صدقة، بل استثمار في الأمن العالمي والديمقراطية”.
على عكس رؤيته الواثقة قبل 24 فبراير/ شباط، لم يتم الأمر وفق أهواء بوتين. صمدت كييف بقوة، وتحول الجيش الأوكراني إلى عظمة قوية تؤلم فك موسكو التي عجزت عن ابتلاعها، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى الشراكة الوثيقة مع الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين.
أضاف زيلينسكي أمام الكونجرس الأمريكي، أن واشنطن نجحت في تحشيد العالم من أجل أوكرانيا. قائلا: “نحن هزمنا روسيا في ساحة المعركة وأوكرانيا صامدة”.
في المقابل، أظهر الجيش الروسي تفكيرًا وتنظيمًا استراتيجيًا ضعيفًا. ثبت أن النظام السياسي الذي يقف وراءه غير قادر على التعلم من أخطائه. ومع قلة احتمال إملاء تصرفات بوتين، سيتعين على الغرب الاستعداد للمرحلة التالية من حرب روسيا الكارثية المختارة.
اقرأ أيضا: لماذا يغازل حلفاء أمريكا روسيا والصين؟
بينما يشير ثلاثة خبراء من معهد كارنيجي إلى أن الحرب في أوكرانيا هي أكبر صراع عسكري في العصر الإلكتروني، والأول من حيث دمج مثل هذه المستويات الكبيرة من العمليات الإلكترونية من جميع الأطراف. يشير كلا من ليانا فيكس زميلة أوروبا في مجلس العلاقات الخارجية، ومايكل كيميج أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية، في تحليلهما حول ما أسمياه “خطر الهزيمة الروسية”، إلى أن روسيا تتجه نحو الهزيمة. لكن ما هو أقل تأكيدا، هو الشكل الذي ستتخذه هذه الهزيمة.
حرب المعلومات
خلال زيارته إلى واشنطن، التي استقبله فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن، واجريا محادثات كان الرئيس الأوكراني يرتدي فيها -كعادته منذ بدأ الغزو- كنزة وسروالاً كاكيّي اللون، وانتعل جزمة بنّية. سلم زيلينسكي رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، ونائبة الرئيس كامالا هاري، علما أوكرانيا من مدينة باخموت في شرق أوكرانيا -النقطة الأكثر سخونة على الجبهة- وقد امتلأ بتواقيع الجنود. وردّت بيلوسي وهاريس على التحيّة بمثلها، إذ قدّمتا لزيلينسكي علماً أمريكيا رُفع فوق مبنى الكابيتول بمناسبة زيارته.
بعيدا عن المواجهات العسكرية، يشير جون بيتمان زميل برنامج التكنولوجيا والشؤون الدولية في مؤسسة كارنيجي. إلى أن أوكرانيا واجهت مستويات مكثفة من العمليات السيبرانية الهجومية الروسية منذ الغزو، لكن لا يبدو أنها ساهمت كثيرًا في مجهود موسكو الحربي الشامل.
يقول: على الرغم من أن الهجمات المدمرة هي الأكثر جذبًا للانتباه، فمن المحتمل أن يكون النشاط الإلكتروني الرئيسي لروسيا في أوكرانيا هو جمع المعلومات الاستخبارية.
وأضاف: على الأرجح، سعى المتسللون الروس إلى جمع البيانات لإبلاغ موسكو بالتخطيط لما قبل الحرب، والاستهداف الحركي وأنشطة الاحتلال وعمليات التأثير والمفاوضات المستقبلية مع كييف. ومع ذلك، يبدو أن الوحشية وعدم الكفاءة الروسية منعت موسكو من الاستفادة بشكل صحيح من الاستخبارات الإلكترونية. وكانت مصادر الاستخبارات غير السيبرانية -مثل الصور والعملاء واعتراض الإشارات- مفيدة أكثر من الناحية العملية لروسيا.
وأكد أن تسعة أشهر من الحرب “أعطت المتسللين الروس متسعًا من الوقت لفهم أهداف موسكو الحربية. ومع ذلك، فقد انخفضت وتيرة الهجمات الإلكترونية الضارة بمرور الوقت، ولم ترتفع. ومع العمل الجاد للقوات الروسية لتدمير البنية التحتية لأوكرانيا، لن يكون التراجع منطقيًا بالنسبة للروس.
ولفت إلى أنه مع استمرار الحرب، ربما يمثل جمع المعلومات الاستخباراتية الروسية أكبر خطر إلكتروني مستمر على أوكرانيا.
يوّضح: من المتصور أن القراصنة الروس قد يظل لهم تأثير أكبر إذا تمكنوا من جمع معلومات استخبارية عالية القيمة تستفيد منها موسكو بعد ذلك بشكل فعال. على سبيل المثال، قد يحصل المتسللون على بيانات تحديد الموقع الجغرافي في الوقت الفعلي للتمكن من اغتيال الرئيس فولوديمير زيلينسكي، أو الاستهداف الدقيق في الوقت المناسب للقوات الأوكرانية، لا سيما تلك التي تمتلك أنظمة أسلحة غربية عالية القيمة.
وأكد أن روسيا قد تجري أيضًا عمليات اختراق وتسريب تكشف عن معلومات حرب حساسة للجمهور الأوكراني والغربي، مثل خسائر أوكرانيا القتالية، أو الانقسامات الداخلية، أو الشكوك العسكرية.
سيناريوهات السقوط
في أعقاب خطاب زيلينسكي، أفاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن “الولايات المتحدة ستقدم منظومات باتريوت للدفاع الجوي لأوكرانيا لأول مرة”.
وكشف بلينكن عن تخصيص 850 مليون دولار مساعدات أمنية لأوكرانيا، ومليار دولار لتطوير الدفاعات الجوية.
هكذا، بينما يسعى الروس للحفاظ على ماء وجوههم، يرى تحليل فيكس وكيميج أنه -وسط الدعم الأمريكي والغربي القوي- فإن هناك ثلاثة سيناريوهات سيكون لكل منها تداعيات مختلفة على صانعي السياسة في الغرب وأوكرانيا.
السيناريو الأول، والأقل احتمالًا، هو أن توافق روسيا على هزيمتها بقبول تسوية تفاوضية بشروط أوكرانيا. هنا، سيتعين تغيير الكثير حتى يتحقق هذا السيناريو، لأن أي مظهر من مظاهر الحوار الدبلوماسي بين روسيا وأوكرانيا والغرب قد اختفى.
يقول: في هذه الحالة، يمكن لحكومة روسية -تحت حكم بوتين أو من يخلفه- أن تحاول الاحتفاظ بشبه جزيرة القرم. لحفظ ماء الوجه محليًا، يمكن أن يدعي الكرملين أنه يستعد للمباراة الطويلة في أوكرانيا، مما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال شن غارات عسكرية إضافية.
وأضاف: يمكن كذلك أن تلقي موسكو باللوم على ضعف أدائها على الناتو. بحجة أن تسليم أسلحة الحلف -وليس قوة أوكرانيا- أعاقت تحقيق نصر روسي.
وأشار إلى أنه “لكي ينجح هذا النهج داخل النظام، يجب تهميش المتشددين، وربما بوتين نفسه”.
السيناريو الثاني لهزيمة سيشمل الفشل وسط التصعيد. سيسعى الكرملين بشكل عدمي إلى إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، بينما يطلق حملة من أعمال التخريب غير المعترف بها في البلدان التي تدعم كييف، وفي أوكرانيا نفسها. في أسوأ الحالات، يمكن لروسيا أن تختار شن هجوم نووي على أوكرانيا. عندها ستتجه الحرب نحو مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وروسيا.
السيناريو الأخير لانتهاء الحرب سيكون الهزيمة من خلال انهيار النظام، حيث ستجري المعارك الحاسمة، ليس في أوكرانيا، بل في أروقة الكرملين، أو في شوارع موسكو.
ويوضح التحليل أنه “على الرغم من أن بوتين قد جلب الاستقرار السياسي إلى روسيا -وهي حالة ثمينة بالنظر إلى التصدعات التي حدثت في سنوات ما بعد الاتحاد السوفيتي- إلا أن مواطنيه قد ينقلبون عليه إذا أدت الحرب إلى الحرمان العام”.
وأكد أن انهيار نظامه قد يعني نهاية فورية للحرب، والتي لن تكون روسيا قادرة على خوضها وسط الفوضى الداخلية التي تلت ذلك.
اقرأ أيضا: كيف يتعامل الغرب مع الابتزاز النووي الروسي؟
عواقب الهزيمة على الغرب
على الرغم من أن هزيمة روسيا ستكون لها فوائد عديدة، إلا أنه يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الاستعداد للاضطراب الإقليمي والعالمي الذي ستحدثه. فمنذ عام 2008، كانت روسيا قوة مؤثرة. لقد أعادت رسم الحدود، وضمت الأراضي، وتدخلت في الانتخابات، وأدخلت نفسها في صراعات إفريقية مختلفة، وغيرت الديناميكية الجيوسياسية للشرق الأوسط من خلال دعم الرئيس السوري بشار الأسد.
يرى تحليل فيكس وكيميج أنه “إذا سعت روسيا إلى التصعيد الجذري أو الانقسام إلى الفوضى بدلاً من قبول الهزيمة من خلال المفاوضات، فإن التداعيات ستظهر في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط”.
يقول: يمكن أن يأخذ الاضطراب شكل الانفصالية وتجدد الصراعات في روسيا وحولها. إن تحول روسيا إلى دولة فاشلة تمزقها الحرب الأهلية من شأنه إحياء الأسئلة التي كان على صانعي السياسة الغربيين التعامل معها في عام 1991. منها من الذي سيسيطر على الأسلحة النووية الروسية؟
أيضا، يلفت التحليل إلى أن محاولة إقناع بوتين بالهزيمة من خلال المفاوضات ستكون صعبة، وربما مستحيلة “سيطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي موسكو بالتخلي عن مطالبتها بالأراضي التي تسيطر عليها روسيا اسميًا في دونيتسك وخيرسون ولوهانسك وزابوريزهيا. بعد أن احتفل بوتين بالفعل بضم هذه المناطق.
وأضاف: من المشكوك فيه أن يقوم بوتين بتغيير رأيه على الرغم من سيطرة روسيا الضعيفة على هذه المنطقة. كما ان أي زعيم روسي، سواء كان بوتين أو أي شخص آخر، سيقاوم التنازل عن شبه جزيرة القرم. ومع ذلك، قد يؤدي الاتفاق مع أوكرانيا إلى تطبيع العلاقات مع الغرب. سيكون هذا حافزًا قويًا لزعيم روسي أقل عسكرة من بوتين، وسيجذب الكثير من الروس.
وأكد أنه “في مواجهة الهزيمة، قد يلجأ بوتين إلى الهجوم على المسرح العالمي. لقد وسع بثبات إطاره للحرب، مدعيا أن الغرب يخوض معركة بالوكالة ضد روسيا بهدف تدمير البلاد. كانت خطاباته في عام 2022 عبارة عن نسخ أكثر جنونًا من جنون العظمة لخطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن قبل 15 عامًا، والذي شجب فيه الاستثناء الأمريكي”.
دروس التكامل الغربي
لمرتين في السنوات الـ 106 الماضية -في عام 1917 وعام 1991- تحطمت روسيا. ومرتين، أعادت روسيا تشكيل نفسها. لذلك، يلفت فيكس وكيميج إلى أنه “إذا تراجعت القوة الروسية، يجب على الغرب الاستفادة من هذه الفرصة، لتشكيل بيئة في أوروبا تعمل على حماية أعضاء الناتو وحلفائه وشركائه”.
ويرى المحللان أن “هزيمة روسية ستوفر فرصا كثيرة وإغراءات كثيرة. من بين هذه الإغراءات توقع اختفاء روسيا المهزومة من أوروبا، لكنها ستعيد تأكيد نفسها يومًا ما وتسعى إلى تحقيق مصالحها وفقًا لشروطها. عندها، يجب أن يكون الغرب مجهزاً سياسياً وفكرياً لعودة وهزيمة روسيا”.
ويوضح نيك بيكروفت، الباحث في برنامج التكنولوجيا والشؤون الدولية في كارنيجي، أن الحرب كشفت عن الدور الكبير للقطاع الخاص في الدفاع عن الشبكات الرقمية. ويميل هذا إلى إثارة أولويات مختلفة بين الحلفاء الغربيين. حول ما إذا كان يمكن تكرار الدفاع عن أوكرانيا في أماكن أخرى، لا سيما ضد التهديد الصيني لتايوان.
يقول: حتى الآن، كانت العديد من الشركات على استعداد لتقديم التزام كبير بخدمات الملكية لأوكرانيا مجانًا، ولكن لا يمكن أن يستمر ذلك إلى أجل غير مسمى وقد لا يمتد إلى مواقف أخرى.
علاوة على ذلك، ستحتاج الحكومات إلى توضيح متى وكيف يمكنها الاستعانة بقدرات القطاع الخاص ومتى ولماذا قد لا تكون متاحة.
وأكد جافين وايلد زميل برنامج التكنولوجيا والشؤون الدولية، أن الحرب أكدت على الدور المركزي الذي من المرجح أن تلعبه الحرب السيبرانية -من الاستهداف إلى التوجيه- في الصراع المستقبلي. يقول: سيتطلب ذلك شرائح متقدمة وقدرات حربية إلكترونية وطائرات بدون طيار وتعزيزات دفاع جوي.
وأوضح أنه “في هذا الصدد، من المرجح أن تكون الدفاعات الإلكترونية الغربية في المجمع الصناعي الدفاعي، وضوابط التصدير ذات الصلة، بحاجة إلى أن تكمل بعضها البعض على مستويات غير مسبوقة”.
وأشار بيتمان إلى أن تجربة روسيا تؤكد أن العمليات الإلكترونية الضارة يمكن أن تتركز بشكل مفيد في هجوم مفاجئ أو إطلاق صواريخ كبرى، لكنها تخاطر بتلاشي أهميتها أثناء الحروب الأكبر والأطول.