ليس أدل على أحوال الصحافة الآن أكثر من مبنى نقابة الصحفيين. “تكفين” مبنى النقابة بهذا الشكل المزري منذ عدة سنوات دليل جديد على هوان المهنة والنقابة على السواء.
اقرأ أيضا.. محمد أبو الغيط.. حكاية هذا الجيل
خلال الفترة الأخيرة زادت حدة الهجوم من الصحفيين أعضاء النقابة على “تكفين” المبنى مطالبين بتغيير هذا الوضع البائس، وعودة مبنى النقابة إلى سابق عهده، وإلى واجهته المميزة التي لا تحمل الفخامة وحدها بل تختصر تاريخ مصر خلال العشرين سنة الأخيرة بما فيه من أحداث كبرى ونضال سياسي وتحركات واحتجاجات اجتماعية.
اختصر مبنى النقابة وسلمها الشهير جزءاً مهماً من تاريخ مصر بشكل يدعو أعضاء النقابة والصحفيين بشكل عام إلى الفخر بنقابتهم ودورهم وأصبح لسلم النقابة معنى رمزي كبير في نفوس العاملين في مهنة البحث عن الحقيقة. ووصلت شهرة الدرج الشهير إلى الصحافة العالمية التي أجمعت على أن ثورة المصريين بدأت منه.
كانت الحجة التي يتمسك بها مجلس النقابة طوال العامين الماضيين هي أن هناك إصلاحات ضرورية تجري على واجهة المبنى، وأن العمل متواصل للانتهاء من تلك الإصلاحات ليعاد افتتاحه، ثم مرت الشهور دون أن يحدث جديد، ودون أن تصل التغييرات التي تتم على الواجهة إلى نهايتها، شهور طويلة توحي بأن المقصود ليس التعديلات على المبنى بل إغلاق “السلم” الشهير المخيف، ومنع التجمعات بداخل النقابة حتى لو جاء هذا الأمر على حساب شكل المبنى، وحتى لو استمر هذا الإغلاق إلى ما لا نهاية، وحتى لو زاد غضب الصحفيين وتعالى صوتهم رفضاً للوضع الحالي، وحتى لو استمروا في مطالباتهم النبيلة التي لم تنقطع أبداً بضرورة افتتاح مبنى النقابة ورفع “الكفن”.
في هذا الوضع البائس مؤشر واضح على أحوال الصحافة في مصر، فمن “تكفين المبنى” إلى “تكفين المهنة” يستمر حصار الصحافة وحجب المواقع والتحكم في المحتوى بشكل أفقد الصحافة جمهورها بشكل كبير.
على مدار السبع سنوات الماضية دفعت الصحافة أثماناً كبيرة من حريتها، ودفع أبناؤها أثماناً فادحة من قدرتهم على العمل والعيش الكريم.
منع المقالات وحصار النشر وحجب المواقع والملاحقات الأمنية والقضائية للصحفيين كادت أن تنهي حياة الصحافة للأبد، ثم جاءت قوانين الصحافة التي صدرت في عام 2018 لتزيد من قسوة الحصار المفروض على المهنة، و”تشرعن” الحجب والإيقاف باتهامات “فضفاضة” ليس لها تعريف واضح أو منضبط، مثل العنصرية والكراهية والتعصب ومعاداة الديمقراطية.
كل هذه الأوضاع البائسة خلقت مشهداً هو الأصعب على الإطلاق منذ عشرات السنين فيما يتعلق بالصحافة وحريتها وحق العاملين فيها في العمل بأمان.
لم تكن حرية الصحافة قضية نخبوية أبداً، وهي ليست قضية سياسية في الأساس، بل قضية مهنية بامتياز، وهي جزء مهم ورئيسي يقع في صلب العمل الصحفي.
فلا صحافة بدون حرية، ولا عمل صحفي بدون مساحة تسمح بالنشر والتفكير وكشف الحقيقة بلا خوف أو ملاحقات من أي نوع.
غابت حرية الصحافة فاختفى المحتوى القيم، وغاب صوت الجدل والحوار الذي يدفع المجتمع للأمام، وتوارت إلى الأبد صور النقاش الموضوعي المعبر عن اتجاهات الرأي العام وهمومه وأزماته.
ثم إن غياب حرية الصحافة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بعدم قدرة الصحفيين على العيش الكريم، فقدت الصحافة جمهورها وبالتبعية فقدت المعلن الذي يستغل المنصة الصحفية في الوصول للناس، ونتج عن كل هذا عدم قدرة المؤسسات على الاستمرار، وضعف المقابل المادي الذي يتقاضاه الصحفيون، وعدم قدرتهم على مواجهة متطلبات الحياة بكل غلائها وصعوبتها، وكان المشهد الختامي لكل هذا هو الإحباط الذي يحاصر الكثير من الصحفيين لا سيما الأجيال الشابة التي شعرت بالتهميش، وبتراجع المهنة، وبضعف رواتبهم في مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
بالربط بين مشهد “تكفين” مبنى النقابة المهين، و”تكفين” وحصار المهنة بهذا الشكل القاسي وغير المسبوق تتضح صورة الصحافة في مصر.
خوف يلاحق السلطة من مبنى النقابة وإمكانية أن يشهد حضوراً من الصحفيين أو أن يعود هو الملتقى الذي يجمعهم، ثم خوف من الكتابة والنشر والقدرة على تقديم محتوى صحفي مهني وحر يظهر الحقيقة ويكشف كل صور الفساد والانحراف.
خسر الصحفيون خلال السنوات الأخيرة “المبنى والمعنى” على السواء! فلا مبنى يليق بهم ويجمعهم إنسانياً، ولا مهنة تتمسك بالقواعد وبالأدبيات التي تعلموها ومارسوها على مدى سنوات.
أي حديث عن تغيير سياسي قادم لا ينطلق من نقطة الصحافة وحريتها، ورفع القيود المفروضة عليها هو أمر لا يمكن التعويل عليه، فحرية الكلمة هو المدخل لأي نظام سياسي يبدأ الخطوات الأولى للديمقراطية، وبقاء الصحافة تحت الحصار، وهو المؤشر الأول والأهم لأن الاستبداد هو الحاكم الأول، وأن الانتقال من مرحلة لمرحلة أخرى محكوم عليه بالفشل الذريع.
رفع الحجب عن المواقع، والإفراج عن السجناء من الصحفيين وتعديل قوانين ٢٠١٨ التي تنظم العمل الصحفي والخلاص من الرقابة على المحتوى هو البداية لأي خطوة جديدة على مسار تحول ديمقراطي حقيقي.
المؤكد أن الصحافة هي المهنة الأكثر تقاطعاً مع السياسة، وهي التي خاضت معارك مع كل الرؤساء والمسئولين من قبل، ولعل الذي يتعلم من التاريخ يدرك أن حصار الصحافة ومحاولات وضعها في بيت الطاعة ستفشل في نهاية المطاف، فلا انتصر الاستبداد على الصحافة، حتى لو نجح الحصار لسنوات، ولا انتهت المهنة واستسلم العاملون بها للقيود أبداً، فدفاع أبناء مهنة البحث عن المتاعب عن حقهم في النشر والكتابة بحرية مستمر من جيل إلى جيل، وهو جزء من نضال أوسع يشمل حق المجتمع في الحرية، الرأي والتعبير والاعتقاد والتظاهر السلمي، وهو نضال سيمتد حتى تحصل مصر على الحرية كاملة غير منقوصة، لتستطيع اللحاق بعصرها الذي تشكل الحرية فيه القيمة الأهم والأعظم