انقضى مونديال 2022، وانقضت معه العديد من اللحظات الكروية المجنونة والممتعة، والأجواء السياسية والحقوقية والثقافية الأخرى التي تبعته بما لها وعليها من تدقيقات وملاحظات وتحليلات. لكن جانبا آخر معتبرا لم يأخذ الحيز الكافي من تسليط الأضواء. وهو كبرى الشركات الأجنبية التي ساهمت في إقامة المونديال واستفادت منه أن دون تكون في البقعة المناسبة من التركيز.هذا التركيز يشرح طبيعة علاقات الإمارة الخليجية مع سوق الاستثمار الدولي وحركة رأس المال الأجنبي، والذي يهتم في المقام الأول بالمكاسب دون أخذ الاعتبارات الحقوقية في حسبانه.
اقرأ أيضا.. المونديال والمناخ.. هل نجحت قطر في تجنب “الأفيال البيضاء”؟
أو كما تقول الباحثة بالمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، نالتالي كوخ: “القضية الرئيسية التي يجب مراقبتها مع كأس العالم هي ما إذا كانت الشركات التي تتخذ من الغرب مقرا لها ستستمر في الهروب من أي لوم خطير لجني المكافآت المالية على ظهور العمالة المستغلة، أو ما إذا كانت وسائل الإعلام الغربية وصانعو السياسات سيكونون راضين عن إلقاء اللوم على الحكومات”.
استثمرت قطر أكثر من 220 مليار دولار في كأس العالم والبنية التحتية: 8 مليارات دولار في ثمانية ملاعب حديثة ومكيفة، و16.5 مليار دولار في 140 فندقًا بها 155 ألف سرير، و36 مليار دولار في مترو جديد، و20 مليار دولار في المطارات والمواني والطرق السريعة.
كانت قائمة شركاء فيفا الرسميين، هم: أديداس، كوكاكولا، واندا، هيونداي/ كيا، فيزا، الخطوط الجوية القطرية، قطر للطاقة. أما الرعاة الرسميين للمونديال فهم: بدويايزر، بيجوس، وكريبتو، هايسنس، ماكدونالدز، فيفو، شركة ألبان مينجنيو الصينية. هذا إلى جانب الشركات الأخرى من مصنعي أطقم الملابس بالإضافة لشركات البث التلفزيوني حول العالم.
لكن متابعة خريطة الاستثمارات المونديالية يحتاج للتفريق بين كبرى الشركات التي رعت كأس العالم وراعية الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، والأخرى التي أسهمت في تجهيز البنية التحتية للبطولة بما فيها من ملاعب ومطارات وفنادق وطرق.
الشركات الصينية والأمريكية في المقدمة
منذ عام 2019، أقامت شركات من 43 دولة تواجدًا لها في قطر. كانت الولايات المتحدة هي المصدر الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر في قطر، حيث مثلت ربع جميع المشاريع. كما تعد المملكة المتحدة والإمارات من الأسواق الشهيرة. واستثمرت الشركات الأمريكية ما يقرب من خمسة أضعاف ما استثمرته في 2021-2022 مقارنة بـ2019-20.
وفي حين أن الكثير من الضغوط للعمل الخاصة باستعدادات كأس العالم شعرت بها العلامات التجارية الغربية، فمن الملاحظ أن الشركات الصينية قدمت إيرادات رعاية أكثر من الشركات من أي دولة أخرى في البطولة -1.4 مليار دولار من الشركات الصينية مقارنة مع 1.1 مليار دولار من الشركات الأمريكية- وفقًا لشركة Global Data.
ولعل أهم مساهمة للصين كانت دورها في تطوير استاد لوسيل، الملعب الرئيسي لكأس العالم. في عام 2016، فازت China Railway Construction Corporation بعقد قيمته 764 مليون دولار لبناء الاستاد، الذي استضاف حفل الافتتاح ومباراة النهائي.
كان للصين أيضًا دور في بناء ملاعب أخرى. على سبيل المثال، في استاد المدينة التعليمية، تم تصنيع الهيكل الفولاذي من قبل شركة صينية. ينطبق الأمر نفسه على ملعب 974، المصنوع من حاويات شحن معاد تدويرها، قيل إن مصدر بعضها من الصين، بحسب تقرير لصحيفة “ذا دبلومات“.
وبجانب الملاعب كان للصين أيضًا دور في بناء البنية التحتية للطاقة المتجددة للبطولة، ولا سيما محطة “الخرسعة” للطاقة الشمسية . تم بناء هذه المحطة من قبل شركات صينية. وهي قادرة على توليد 800 ميجاوات من الطاقة، مما وفر أحد مصادر الطاقة الرئيسية لقطر بكأس العالم.
شاركت بكين كذلك في بناء منازل من الحاويات مصممة لإيواء مشجعي كرة القدم. نظرًا لأن قطر لا تمتلك سوى 11 ألف كيلومتر مربع من الأراضي، فقد اضطرت الحكومة القطرية إلى بناء حوالي 6 آلاف منزل من حاويات لاستيعاب أولئك الذين يحضرون البطولة. هذه المنطقة السكنية، المعروفة باسم “قرية المشجعين”، وفرت أماكن إقامة لحوالي 12 ألف شخص. بينما شاركت العديد من الشركات في بناء المرافق المتعلقة بكأس العالم، بما في ذلك الشركات المختصة بتصنيع المعدات الثقيلة والهياكل الفولاذية.
كما تم تزويد المشجعين بخدمات نقل بالحافلات من وإلى ملاعب البطولة. وهذه الحافلات، التي شملت 1500 حافلة و888 حافلة كهربائية، صُنعت أيضًا في الصين. أما العديد من الهدايا التذكارية التي أنتجها الفيفا لكأس العالم فقد كان مصدرها -بطبيعة الحال- الصين.
وشملت الأعلام وأحذية كرة القدم وآلات كرة الطاولة، بالإضافة إلى النسخ المقلدة من الكأس الرسمية للبطولة، والتي تنتجها شركة Dongguan Wagon Giftware في مقاطعة دونجقوان. كما تم إنتاج الهدايا التذكارية التي تصور “لعيب”، التميمة الرسمية لكأس العالم 2022، في دونجقوان.
ووفقًا لتقدير جمعية السلع الرياضية في مدينة “ييوو” الصينية، تمثل الصادرات الصناعية لمدينة جنوب شرق الصين ما يقرب من 70% من حصة السوق من السلع ذات الصلة بكأس العالم، مثل أعلام كرة القدم والحلي والوسائد الخاصة بالكأس الذهبية.
قائمة من الشركات الأوروبية
استفادت الشركات الغربية بشكل كبير من طفرة البناء. فمثلا وضعت شركة التخطيط الألمانية (Albert Speer und Partner) المخطط الرئيسي لكأس العالم ومسودات ملاعب كرة القدم الثمانية. كما استفاد آخرون، بدءًا من الشركات الاستشارية -مثل مجموعتي ماكنزي وبوسطن الأمريكيتين- إلى شركات الهندسة المعمارية -مثل “فوستر وشركاؤه” البريطانية- وتكتلات التكنولوجيا -مثل “سيمنز” الألمانية.
ونالت كبرى الشركات الفرنسية المتخصصة في مجال التأمين والأمن الداخلي والمراقبة والأمن السيبراني، نصيبها من تلك الاستثمارات. وساهمت شركة البناء الفرنسية “فينشي” في تشييد العديد من البنى التحتية والملاعب. وقد خضعت الشركة لتحقيق رسمي فرنسي بشأن مزاعم سوء ظروف العمل في مواقع البناء في قطر المرتبطة بكأس العالم.
وتضمن التحقيق أدلة بشأن “ظروف عمل لا تتفق مع كرامة الإنسان”. وكذلك “احتجاز الأشخاص في العبودية” و”الحصول على خدمات من الأشخاص المستضعفين في حالة من التبعية”. وبموجب القانون الفرنسي، يعني هذا أن هناك أدلة جادة أو متسقة تشير إلى تورط محتمل في جريمة. ولكن يمكن إسقاط التحقيقات دون اللجوء إلى المحكمة. وارتبط التحقيق بشهادات في 2014 حول ظروف العمل في بعض مواقع البناء المرتبطة بالبطولة والتي تديرها شركة فينشي القطرية التابعة لها.
ومع بناء أكثر من 150 فندقًا جديدًا للبطولة نشطت علامات التجارية للفنادق مثل “سيناترا” التايلاندية و”هيلتون” و”ماريوت” الأمريكيتين. هذا بالإضافة إلى كبرى شركات الكحوليات البلجيكية والدنماركية والأمريكية والهولندية والبريطانية.
ولعبت الشركات البريطانية دورًا رئيسيًا في إقامة البطولة. فقد شاركت مجموعة منها في العديد من جوانب البطولة، من بناء الملاعب الجديدة إلى قطع العشب وتوفير حراس أمن على جانب الملعب. وساعدت وزارة التجارة الدولية بالفعل الشركات البريطانية على تأمين 940 مليون جنيه إسترليني من الصادرات المتعلقة بكأس العالم حتى عام 2018. وهدفت إلى تحقيق ما لا يقل عن 500 مليون جنيه إسترليني أخرى قبل انطلاق المسابقة.
قال وزير التجارة الدولية في عام 2018، جورج هولينجبري: “مع تمتع فرق كرة القدم لدينا بالنجاح هذا الصيف والدعم الرائع القادم من جميع الدول، من الرائع أن نرى الشركات البريطانية تفوز بالعقود وتجعل هذه الأحداث الرائعة هي الحدث الذي هم عليه”.
في يوليو/تموز من ذلك العام، زار أمير قطر لندن للقاء رئيسة الوزراء آنذاك، تيريزا ماي. وناقشا كيف يمكن للمملكة المتحدة أن تواصل دعم قطر لتقديم كأس عالم آمن وناجح. وسلطت رئيسة الوزراء الضوء على خبرة الشركات البريطانية في تقديم الأحداث الرياضية الكبرى؛ مستفيدة من خبرتها في إدارة المشاريع والتصميم والهندسة المعمارية وسلاسل التوريد لتأمين عقود كأس العالم.
أما مجتمع الأعمال الهولندي فقد كان له نصيبا معتبرا من مشاريع البناء. فوفقًا لتقرير هولندي -بناءً على أبحاثه الخاصة- شاركت الشركات الهولندية في مشاريع تتراوح قيمتها بين 1.5 مليون وعشرات الملايين من اليوروهات.
أقامت قطر مطارا لاستقبال ملايين المشجعين. وساعدت شركة “فرينز ستال” للصلب في بناء المطار بحوالي 7.5 مليون يورو، وفقًا لصحيفة “تراو” الهولندية. وشاركت “فرينز” أيضًا في بناء مدينة جديدة مع ملعب كأس العالم، بحوالي 2 مليون يورو. كما وضعت شركة البناء العملاقة BAM خطين للأنابيب في المدينة الجديدة مقابل حوالي 10 ملايين يورو.
وساعدت الشركات الهولندية في بناء نظام مترو أنفاق لنقل مشجعي الكرة، وميناء لتزوّد بمواد البناء. وضعت “رويال هاسكونينج” المخطط الرئيسي للميناء. نفذت شركة التجريف “بوسكاليس” العمل. وصممت شركة “أركاديس” الهندسية عدة محطات مترو أنفاق، كما فعلت شركة UNStudio الهندسية. وتولت شركة “ميكسينار” مسئولية اللافتات في جميع محطات مترو الأنفاق.
لم تدرس جميع الشركات الهولندية ظروف العمل في قطر قبل بدء العمل هناك. وبحسب الصحيفة الهولندية، قالت شركة MTD، التي تكسب حوالي 10 ملايين يورو لتزويد الملاعب ومشجعي كرة القدم بالمياه، إنها نسيت ذلك.
ووصفت فلور بومينج، منسقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمنظمة العفو الدولية، بأنه “غريب” أن بعض الشركات لم تحقق في الوضع في قطر قبل بدء العمل. وقالت إن كل شركة تتحمل هذه المسئولية، لا سيما بالنظر إلى “المخاطر الكبيرة المتعلقة باستغلال العمالة الوافدة” في قطر.
موقف الشركات من القضايا الحقوقية
على الرغم من الاستثمارات الضخمة، أشارت تقارير إلى أن بعض الشركات الغربية التي كان من المتوقع أن تستفيد من الحدث الرياضي الأكبر والأكثر شعبية على وجه الأرض، اختارت الابتعاد عنه. على سبيل المثال، قررت مجموعة ING Group -وهي مجموعة خدمات مالية ومصرفية دولية كبرى ترعى منتخبي هولندا وبلجيكا- عدم الاستفادة من كأس العالم. وقال متحدث باسم الشركة لصحيفة “نيويورك تايمز” إن الشركة لن تقبل المشاركة في أي عرض ترويجي يتعلق بالبطولة.
اتصلت صحيفة “بلومبرج” بـ76 شركة ترعى البطولة أو الفرق المشاركة. تراوحت هذه الشركات من أديداس وكوكاكولا إلى “فولكسفاجن” و”مايكروسوفت إكس بوكس”، وكان مقرها في بلاد انتشر فيها النقد لحقوق الإنسان -الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. لم يقل أي من رعاة الفيفا السبعة إنهم سيجرون أي تغييرات على خططهم الإعلانية العالمية لتعكس المخاوف بشأن حقوق الإنسان.
ومن بين 69 راعيًا للمنتخبات الوطنية، استجاب 20 للتعبير عن التزامهم بحقوق الإنسان، على الرغم من رفضهم الكشف عما إذا كان تسويقهم قد يتغير أم لا. وقالت 13 شركة إنها ستجري تعديلات، على الرغم من أن القليل منها لديه علاقات تجارية مهمة مع قطر. ومن بينهم صانع الجعة الدنماركي Carlsberg وصانع الشوكولاتة البلجيكي Cote d’Or والأعمال البلجيكية لشركة المحاسبة PwC.
في يوليو/تموز الماضي، كتبت “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية” و”فير سكوير” إلى 14 شركة من شركاء الفيفا ورعاة كأس العالم تحثهم على “تقديم تعويضات وغيرها من سبل الانتصاف للعمال المهاجرين وعائلاتهم الذين عانوا من الوفاة أو الإصابة أو سرقة الأجور أو الديون من رسوم التوظيف غير القانونية”. جاءت هذه الخطوة بعد إرسال خطاب مفتوح إلى رئيس الفيفا جياني إنفانتينو يطالب بما لا يقل عن 440 مليون دولار -وهو نفس المبلغ المقدم للفرق المشاركة في البطولة- من أجل تمويل خطة التعويضات هذه.
في الوقت نفسه، ولدعم الدعوات إلى العمل، أطلقت هيومن رايتس ووتش حملة # PayUpFIFA. في بيان نُشر في سبتمبر/أيلول، قالت المجموعة الحقوقية إن أربعة رعاة رئيسيين – بدويايزر وأديداس وكوكاكولا ومالكدونالدز- أعربوا عن دعمهم للتعويض المقترح.
ومع ذلك، فإن 10 رعاة آخرين -فيزا وهيونداي/كيا ومجموعة واندا وقطر للطاقة والخطوط الجوية القطرية وفيفو وهايسنس ومينجنيو وكريبتو وبيجوس- لم يقدموا أي دعم عام ولم يستجيبوا للطلبات المكتوبة لمناقشة الانتهاكات المتعلقة بالبطولة.
ياسمين أحمد، مديرة هيومن رايتس ووتش في المملكة المتحدة، قالت: “هناك مسئولية على هذه الشركات التي ترعى وتسهل الحدث بطرق مختلفة لاتخاذ إجراءات مباشرة للمساعدة في التخفيف من انتهاكات حقوق الإنسان، وإثارة هذه القضايا. كثير منهم يكسبون أموالا من حدث ترتكب على خلفيته انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لبعض الأشخاص الأكثر حرمانا وتهميشا على هذا الكوكب -العمال المهاجرون الفقراء- والذين هم في وضع ضعيف للغاية”.
كان أربعة من رعاة كأس العالم هم من الصين -واندا جروب وفيفو وهايسنس ومينجنيو- ولم يدعم أي من هؤلاء الرعاة الدعوات لصندوق تعويض العمال المهاجرين. قال روان سيمونز، الذي يعمل في مجال الإعلام والصناعات الرياضية في الصين منذ أكثر من 30 عامًا، إن هذا النهج يتوافق مع سياسة الصين تجاه الأمور الداخلية في أماكن أخرى.
“تُظهر البطولة أن الشركات [كل الشركات] مستعدة للمخاطرة برد فعل عنيف، يراهنون على أنه سيُغفر أو يُنسى ما دام العالم يتجه نحو المكاسب المحتملة الهائلة”، تشير صحيفة “نيويورك تايمز“.