جاء المشروع الجديد حول صندوق هيئة قناة السويس من حيث توقيته ونصوصه ودلالاته وما أثاره من مخاوف وقلق مشروع، ليمثل أزمة جديدة تستحق التدخل العاجل لاحتوائها وإطفاء أي احتمالات لحرائق قد تندلع على خلفيتها، في وقت مصر في أمس الحاجة فيه لاحتواء الأزمات القائمة بالفعل، لا اختلاق المزيد منها.

يأتي هذا المشروع في ظل الأجواء المتوترة والملتبسة القائمة بسبب الأوضاع الاقتصادية محليًا ودوليًا، ونحن على أبواب عام جديد، تتزايد التوقعات السلبية فيه، بخصوص الوضع الاقنصادي ونتائجه الاجتماعية. كما أنه يأتي أيضًا استباقًا لحوار وطني لا تزال بداياته متعثرة حتى الآن، وإن كانت الكثير من التصريحات تتحدث عن أننا صرنا على مشارف هذه البدايات.

من حيث التوقيت، يتزامن المشروع المطروح بشأن قناة السويس مع موافقة صندوق النقد الدولي على القرض الذي جرى التفاوض بشأنه منذ شهور. وهى موافقة مصحوبة بتخوفات من آثار اشتراطات الصندوق المتعلقة بالإجراءات الاقتصادية المطلوبة في المرحلة المقبلة. وكذلك مشفوعة بنص بيان تحدث بشكل مباشر عن (بيع أصول) بتعبيرات البيان.

ومن حيث التوقيت أيضًا، فإن المشروع يأتي بعد شهور من طرح وثيقة سياسة ملكية الدولة، التي تحدثت عن تخارج الدولة من ملكية الأصول في بعض القطاعات. وهو توجه له ما له وعليه ما عليه في ظل الأوضاع القائمة، وحسب الانتماءات السياسية والتوجهات الاقتصادية.

لكن المؤكد أن هذه الوثيقة لا تزال تحتاج لمزيد من النقاش العام والتوضيح والجدل -بمشاركة سياسية- من ناحية اقتصادية فنية. وهو ما يفترض أن يجرى ضمن أحد لجان المحور الاقتصادي بالحوار الوطني.

ورغم إشارات على بدء تطبيق بعض جوانب هذه الوثيقة بالفعل. لكن ما ينطبق على تلك الوثيقة باعتبارها واحدة من الوثائق بالغة الأهمية والأثر على المستقبل وتوجهات الدولة في المرحلة المقبلة، بالتأكيد ينطبق أيضًا على مشروع قانون يتعلق بتأسيس صندوق خاص لهيئة قناة السويس، بكل ما تمثله هذه الهيئة من رمزية وتعبير عن قناة السويس، بما لها من أثر في تاريخ ووجدان المصريين.

بالتالي، الموضوع يخرج من كونه محض مسألة اقتصادية واستثمارية كما يطرح البعض، لكونه له أبعاد سياسية أعمق وأوسع. والحديث هنا بالتأكيد ليس عن (بيع قناة السويس)، فلا يملك أحد، ولا يحق لأحد، بل وليس واردًا ولا معقولًا وبالتأكيد ليس مقبولًا، أن تكون قناة السويس والسيادة عليها محل تفكير أو نقاش، ولا هذا هو محل الخلاف الأساسى ليكون مجرد نفيه ممن تصدوا لموجة المعارضة للمشروع الجديد سبيلًا للطمأنة.

لكن في ذلك ما يستحق التوقف بالتأمل لفهم أسباب موجة المعارضة الواسعة أو في حدها الأدنى القلق والتخوف المشروع الذي لا يجب فهمه إلا في سياق تأثير وأهمية قناة السويس في تاريخ ووجدان المصريين.

التخوف هنا له ما يبرره سواء في ظل ما سبقت الإشارة إليه، والقلق من مساعي بعض القوى والأطراف الإقليمية أو الدولية ليكون وجودها ونفوذها حاضرًا في مساحات مختلفة. ونحن لا نتحدث عن محض مخاوف بل عن تصريحات رسمية دون تحديد تفاصيلها منسوبة لوزير المالية في يونيو الماضي، عن رفض الدولة المصرية إصدار صكوك تتعلق بأصول مثل قناة السويس والسد العالي، كونهما من الأصول الاستراتيجية الهامة. وهو موقف صحيح وسليم وجاد. لكنه يطرح تساؤلات حول من طرحوا ذلك ولماذا وما هي أهدافهم.

في هذا السياق، يأتي التخوف المشروع من التعديلات المطروحة. ليس فقط فيما يتعلق بالوضع الراهن، وإنما ما قد يتعلق بالمستقبل. ففتح الأبواب لسيناريوهات خطرة في المستقبل، ينبغي التصدي له من الجميع. لكن المعضلة ليست هنا فقط، وإنما تمتد أيضًا لجوانب أخرى.

فمشروع تعديل تشريعي بالغ الأهمية والأثر ومحل اهتمام عام واسع مثل هذا المتعلق بقناة السويس، يستحق أن يأخذ وقته في النقاش العام والحوار التفصيلي. خاصة إذا كنا جادين في الحديث عن حوار وطني يفترض أنه على الأبواب. فإذا كان مثل ذلك الحوار لن يناقش مثل تلك القضايا الهامة والأساسية، فإنه عمليًا يفقد أثره ودوره ومهامه.

الأهم أن مشروع قانون مثل هذا أقره مجلس الوزراء بالفعل منذ شهر يوليو الماضي، وتشير التصريحات الصادرة خلال الأيام الماضية في محاولات توضيح الهدف من التعديل المطروح وأسبابه والنتائج المرجوة منه، إلى أنه يتم العمل على إعداده منذ عام كامل. هذا كله أولًا يشير إلى أنه كان هناك الكثير من الوقت لمناقشة هذا المشروع وطرحه علنًا قبل الدخول به لطرحه على مجلس النواب، ويلفت ثانيًا إلى أنه ليست هناك أي ضرورة لاستعجال إصداره بمثل هذا الشكل بطرحه فجأة والموافقة المبدئية عليه رغم ما بدا واضحًا من موجة معارضة واسعة له.

هذا من حيث التوقيت، ومن حيث شكل الإخراج.

لكن يبقى ما هو أهم وهو المضمون، فإذا كان الهدف من المشروع الجديد كما طرح رئيس الجمهورية مؤخرًا بناءً على نقاش دار في المؤتمر الاقنصادي، هو إتاحة الإمكانية لهيئة قناة السويس للاحتفاظ باحتياطي نقدي يمكنها استثماره ومواجهة الأزمات في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة التي لا تزال مآلاتها غير واضحة على المستوى الدولي، فإن مشروع القانون المطروح لا يحقق هذا الهدف بل يطرح صندوقًا خاصًا مستقلًا له أصوله وله مجلس إدارته وله موازنته المستقلة وشخصيته الاعتبارية المستقلة حتى عن الهيئة.

وإذا كان الهدف من المشروع هو تمكين الهيئة من استثمار فوائض أموالها، فهو متاح لها بالفعل بنصوص القانون القائم رقم 30 لسنة 1975 بحكم المواد 4 و9 من نصوص القانون الحالي.

أما ما يطرحه هذا المشروع الحالي فهو أنه يفتح الباب أمام صندوق خاص يمتلك أصولًا هي بالتأكيد على الأقل في جانب منها الآن مملوكة لهيئة قناة السويس، وإدارة هذه الأصول بالشراء والبيع والتأجير والاستئجار. وهو ما تنص عليه أحد مواد مشروع التعديل المطروحة، فضلًا عن المساهمة بمفرده أو مع الغير في تأسيس شركات وزيادة رؤوس أموالها. وهو بالإضافة إلى التخوفات مما تؤدى إليه مثل هذه النصوص في الممارسة، يمثل استمرارًا في طرح المزيد من الصناديق الخاصة وما تمثله من إخلال بمبدأ وحدة الموازنة العامة للدولة التي تعاني من مشكلات كبيرة وعميقة. وبدلًا من معالجتها نستمر في نفس النهج الذي يسبب مزيد من المشكلات. وهذه المرة في واحد من المرافق الحيوية والاستراتيجية وأهم مصادر دخل الدولة عمومًا والموازنة العامة على وجه التحديد.

فمشروع تعديل القانون أيضًا يتحدث عن (نسبة من إيرادات هيئة قناة السويس أو تخصيص جزء من فائض أموال الهيئة) كأحد مصادر موارد الصندوق المقترح. وهو ما يعنى بالضرورة تأثيرا على نصيب الموازنة العامة من إيرادات الهيئة.

إذا، نحن أمام توقيت مثير للالتباس دون حاجة لأي استعجال في إصداره، في ظل فرصة كانت متاحة بالفعل منذ عام كامل بدأ فيه العمل على إعداد المشروع أو خمسة أشهر منذ إقرار مجلس الوزراء له.

وبالتالي، لا تزال الفرصة مطروحة لتأجيل مناقشة هذا المشروع وتدقيق نصوصه وتوضيح أهدافه والاستجابة لمخاوف الرأي العام ومقترحات المعارضة وطرحه ضمن نقاشات الحوار الوطني أو عبر أي آليات أخرى. المهم هنا ألا يتم تمرير المشروع بشكله ونصوصه الحالية بشكل يبدو متعجلًا وبما يثير المزيد من القلق حوله والمعارضة له.

نحن أمام مشروع حتى وإن لم يكن متعلقًا بشكل مباشر بقناة السويس كمرفق ومجرى، فإنه يظل مرتبطا بها وبكل ما تمثله من أهمية وتضحيات وأبعاد استراتيجية ومورد اقنصادي رئيسي. ذلك كله يجعل التمهل واحترام التخوفات والتعامل السياسي الرشيد الواجب مع مثل هذا المشروع أمرًا بالغ الضرورة والأهمية.

ونحن أمام نصوص لا تحقق الهدف الأصلي المفترض، بل تفتح الباب لما هو أوسع وأكثر إثارة للقلق وبنصوص غير محددة وغير منضبطة. يجب أيضًا أن يكون في مثل هذا الموضوع الحساس. وبالتالي حتى على المستوى الفني والقانوني وما ينتجه من آثار فإن الأمر يحتاج للتمهل والتروي والنقاش.

أما الأهم من ذلك كله، فهو أن الوضع القائم في مصر، وفي المنطقة والإقليم والعالم بشكل عام، يحتاج للبحث عن مساحات للتوافق الممكن لا فتح الباب لمزيد من مساحات الخلاف، وأن القلق المشروع بشأن المستقبل في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وإقليمية ودولية شديدة التشابك والالتباس يحتاج لاحترامه والتوقف أمامه والتعامل معه بجدية أكبر، وأن السياسة لا غيرها هي الباب الرئيسي الذي يمكن من خلاله تحقيق ذلك.

ومن هنا، فإن الضرورة تحكم بالدعوة لسحب مشروع القانون، أو تأجيل استمرار مساره الإجرائي لحين المزيد من النقاش، وإخراجه من حيز كونه مشروعًا مثيرًا للالتباسات والقلق والمخاوف لكونه مشروعًا خاضعًا للنقاش وقابلًا للتعديل بما يحقق المصلحة الوطنية والأهداف المطلوبة منه إن كانت له ضرورة، دون استعجال أو سعي للتمرير أو غيره من الممارسات.

هذا هو المطلوب الآن وفورًا لنزع فتيل هذه الأزمة غير المطلوبة وإطفاء الحرائق قبل اشتعالها.