في كلمة متلفزة إلى الأمة سوف أعلن عن قناعتي بأن التجربة أثبتت صحة التوجه الدستوري الذي نص على تقصير مدة الرئاسة إلى أربع سنوات، وتحديد المدد الرئاسية في فترتين رئاسيتين فقط.
وعلى هذا الأساس، فإني أعبر لكم عن قناعتي، وعزمي الأكيد على عدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، مكتفيًا بما حققته من إنجازات، وما قدمتُه لمصر خلال السنوات العشر التي قضيتُها في منصب رئيس الجمهورية.
وأشدد أمامكم على إيماني العميق الذي ترسخ عندي من خلال التجربة بأهمية وضرورة أن تمضي مصر على طريق تداول السلطة بالبدء فورًا في إتاحة المجال واسعًا لتداول منصب الرئيس.
وأعتبر أن أمامي أقل من سنة ونصف حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2024، وأني عاقد العزم على استغلال هذه الفترة في تحويل المسارات، وتعديل التوجهات، وتصويب السياسات.
**
كان هذا هو ملخص إجابتي على السؤال الذي تحمله إلينا تعليقات القراء، والرسائل التي تصلنا عبر الخاص، كثير منها يسأل ببراءة ورغبة في التعرف على رأي الكاتب، وكثيرٌ منها من المتهجمين علينا وعلى ما نكتب.
البعض يرى أننا نُسرف في نقد ما يجري، من دون أن نقترح بدائل، ومن غير أن نقدم النصح لأولي الأمر، ويتهمنا البعض الآخر بأننا أدمَّنا المعارضة الهدَّامة، ولا نصلح لكي نقوم بدور المعارضة البناءة، حتى أن واحدًا من هؤلاء أرسل لي يسألني متحديًا:
لو كنت مكان الرئيس اليوم ماذا كنت تفعل؟
في البدء أسجل اعتراضي على فكرة تصنيف المعارضة بين بناءة وهدامة، لأن المعارضة في حقيقة دورها مطلوب منها أن تقدم نفسها للشعب بديلاً للحكومة، لا أن تطرح على الحكومة بدائل تتبناها، فالأصل أن كل حكومة تتبنى برنامجًا وسياسة تؤمن بها، وتعتقد صلاحيتها، فيما المعارضة تقدم برنامجها وسياستها على الشعب طالبة أصوات الناخبين، وساعية إلى تأييدهم لتصل إلى الحكم لتطبق سياستها وبرنامجها.
**
ما يشجعني على الخوض في مغامرة الإجابة على هذا السؤال المفخخ أننا بإزاء دعوة من الرئيس نفسه إلى حوار وطني يتناول كل قضايا الوطن ومشاغله، ويفتح ملفات كل مشاكله، ومطلوب منه أن يقدم رؤية هي بالتأكيد غير الرؤية القائمة حاليًا، وإلا فما قيمة إجراء الحوار من الأساس؟
وفي نظري أن الدعوة إلى الحوار الوطني كانت اعترافًا بأن هناك ضرورة لمعالجة الانسداد السياسي الحاصل في المجتمع، وهي -كذلك- إعلان عن حاجتنا الماسة والملحة إلى وضع خارطة طريق جديدة إلى المستقبل انطلاقًا من النقطة التي وصلنا إليها.
يدفعنا إلى الحوار أزمة سياسية لا يمكن إنكار وجودها، وأزمة اقتصادية متصاعدة، مؤذنة بانفجارات لا يمكن تفادي وقوعها بغير تعديل في السياسات، وتغيير في التوجهات، ولم يعد ممكنًا مواصلة المسير على ذات الطريق التي انتهت بنا إلى حيث يتهدد الاستقرار الوطني الذي بات معرضًا من جديد لهزات اجتماعية وفورات شعبية لا يمكن التكهن بمداها، ولا يمكن التأكد من أن نسبة الخطورة التي تحملها لن تكون بدورها باهظة الثمن على المستوى الوطني.
**
السؤال المشروع الذي يطرح نفسه بإلحاح علينا هو: ماذا نفعل الآن؟
قبل أن أشرع في إجابة السؤال، أرى ضرورة التأكيد على أنني أعبر عن آرائي من موقعي ككاتب، وليس من موقع المعارضة، ولست في حاجة إلى القول، إن مهمة الكاتب هي كشف المستور، وتعرية الأخطاء، ولفت الأنظار إلى كل خلل في السياسات أو في تنفيذها.
ويكفي الكاتب شرفًا أن يكون دائمًا إلى جانب تطلعات الناس، يناصر كل خطوة إلى الأمام، ويعادى كل تراجع إلى الخلف، يكشف ويضيء الطريق إلى المستقبل.
والكاتب ليس مطالبًا بما يُطالب به الحكام، هم لهم مهمة أن يحكموا وفق رؤية وسياسة واضحة، وهدفهم يجب أن يكون تحقيق مصالح الناس، لا تحقيق مصالحهم الشخصية، أو مصالح الفئات التي ينتمون إليها فقط، والكُتاب مهمتهم مختلفة، مهمتهم أن ينقدوا تلك الرؤية أو ينقدوا جوانب فيها، أو ينقدوا طرق التنفيذ، والسياسات المتبعة، ولا يدخل في مطلوبهم أن يتطلعوا إلى الحكم، أو أن يضعوا أنفسهم في مكان لم يحلموا يومًا بالوجود فيه.
ومع ذلك فدعوني أستجيب إلى رغبة العديد من القراء الأعزاء الذين طالبوني مرارًا بأن أجيب لهم عن السؤال:
ماذا تفعل لوكنت مكان الرئيس؟
**
أقول لقد جربنا طريقًا انتهى بنا إلى كل هذه الأزمات، ولذلك فإن أول ما سوف أقدم عليه هو أن أضع يدي في يد المعارضة المدنية، ونبدأ معًا الانطلاق في الطريق العكسي الذي طالما طالبت به المعارضة، ولنشرع على الفور في تحويل مصر إلى ورش عمل لإنجاز البرنامج الوطني لعبور كل الأزمات التي تواجهنا في الداخل وتلك التي تلقي بتأثيراتها علينا من الخارج.
أن تكون نقطة الانطلاق في هذا الطريق الجديد من التوافق بدون أي تلكؤ على أن نبدأ على الفور في تبييض السجون وإعلان مصر خالية من مسجوني الرأي أو ضحايا التعذيب.
ويجب أن ينبني هذا التوافق على الانطلاق من محطة الإصلاح الشامل لمنظومة التعليم والبحث العلمي، واعتباره هو مشروع مصر القومي الأول والأولى بالرعاية خلال السنوات العشر المقبلة.
سيكون على جدول أعمال الوطن من أول يوم عقد مؤتمر وطني لإصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي، ووضعها في صدر أولويات العمل الوطني، وتخصيص الميزانية الكافية لبدء ورشة إصلاح شاملة لأوضاع المعلمين والأبنية التعليمية، والمناهج، وتوحيد مناهج التعليم في كل المدراس والجامعات، الحكومي منها والخاص، الوطني منها والأجنبي.
وبالجملة لابد من التأكيد على أن تشهد مصر خلال الفترة المتبقية في مدتي الرئاسية خطوات متسارعة وجادة ودؤوبة باتجاه تحقيق أكبر وأوسع عملية للإصلاح على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
**
أقول لكم بكل الصدق وبمنتهى الأمانة إن ثورة الخامس والعشرين من يناير وضعت أمامنا معالم الطريق واضحة لا لبس فيها، وعلى أساس هذه المعالم نستطيع -إذا صدقت النوايا- أن نحدد خطواتنا خطوة وراء أخرى.
كانت المهمة المطروحة بعد أن نجح الشعب في إسقاط الرئيس، أن نشرع في خطوات منتظمة ومدروسة لإسقاط نظامه، إسقاط نظام الرئيس الفرعون، إسقاط نظام الرئيس الذي يكون هو وحده “منبع كل التشريعات، ومصدر كل القرارات”.
لم يكن متاحًا إسقاط نظام الرئيس الفرعون إلا عبر أكثر من عملية تفكيك، أولها تفكيك منظومة الاستبداد، وثانيها تفكيك منظومة الفساد، وثالثها تفكيك منظومة القمع.
هذه العملية الثلاثية من التفكيك هي التي تفتح الطريق إلى الخروج من جعبة الحاكم الفرد المتحكم في كل شيء، ومعها سوف نجد أنفسنا أمام ثلاث مهمات أخرى عاجلة لا تقبل التأجيل ولا التسويف:
أولها: إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
وثانيها: إقامة مجتمع العدالة الاجتماعية.
وثالثها: إقامة مجتمع الحرية والإبداع.
**
تفكيك منظومة الاستبداد، يستلزم أول ما يستلزم احترام الدستور وتفعيل روحه وتطبيق نصوصه، وعلى هذا الأساس سيكون أول قرار يمهر بخاتم توقيعي الرئاسي هو تشكل لجنة على أعلى مستوى من الكفاءة والمهنية تضم فقهاء الدستور وأستاذة القانون وعددًا من السياسيين المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية تكون مهمتها الوحيدة هي تحويل نصوص الدستور إلى مشاريع قوانين للدفع بها إلى مجلس النواب، على أن تتضمن تلك المشاريع إلغاء كل النصوص التي تعارض أحكام الدستور واعتبارها غير قائمة.
وسوف أعلن أمام الشعب التزامي الكامل واحترامي الشديد لكل نص في الدستور، وعزمي الأكيد على تطبيقه والعمل بمقتضاه، وتبدأ أولوياتي في تنفيذ أحكام الدستور ونصوصه من كل نص يخص اختصاصاتي ومسئولياتي وما يرتبه عليَّ الدستور من إجراءات بما فيها تعديل الميزانية لتنزل على حكم الدستور الذي أمر بتخصيص 10% من الميزانية العامة للتعليم والصحة.
**
وعلى جانب آخر سوف أبادر إلى دعوة مجلس القضاء الأعلى إلى عقد مؤتمر إصلاح منظومة العدالة ووضع القانون الذي يكفل حقًا ضمان استقلال القضاء وتحقيق سيادة القانون على الجميع، حكومة وشعبًا بدون أي تفريق أو انحياز، ومن دون أي تدخل من أي جهة في الدولة أيًا كانت.
وسوف أدعو مجلس النواب لكي يتحول إلى ورشة عمل لتصفية القوانين من كل نص يقيد أو يمنع إطلاق الحريات واحترام الحقوق العامة بما فيها حق تكوين الأحزاب، والحق في إصدار الصحف، والحريات الإعلامية، وحرية تشكيل النقابات، وحق التظاهر والإضراب، وصون حقوق المواطنين بدون تمييز.
**
المهمة العاجلة الثانية على جدول أعمال الوطن اليوم هي تفكيك منظومة القمع، وعلى هذا الأساس سيكون ثاني قرار بتوقيعي كرئيس للجمهورية هو المسارعة في الإفراج عن جميع المسجونين والمعتقلين السياسيين، وكل المحكومين الذين أمضوا فترة عقوبتهم، والإفراج الفوري عن كل المحبوسين احتياطيًا لأكثر من ست شهور بدون تقديمهم إلى المحاكمة، وإفراغ السجون من شباب الثورة، والإفراج عن كل من لم يحمل سلاحًا، ولم يشارك في تخريب، ولا أدين بإرهاب.
ويجب أن يتضمن القرار الأمر بإجراء تحقيق قضائي موسع حول أوضاع السجون في مصر لا هدف له غير القضاء على كل ظلم، وتعويض كل المظلومين عن مدة حبسهم ظلمًا، وتقديم كل مسئول عن إهدار كرامة أي مواطن للمحاكمة تمهيدًا لإخراجه من الخدمة.
وعلى الجملة سوف أعلن مصر دولة خالية من سجناء الرأي، وتنفيذ حكم الدستور في مرتكبي جريمة التعذيب بأقسى عقوبة يسمح بها القانون، مع الأمر بوقف العمل بسياسة بناء سجون جديدة وتحويل ميزانية هذا البند إلى ميزانية التعليم.
**
يبقى على جدول أعمال الوطن مهمة لا تقل أهمية عن المهمات الأخرى تتمثل في تفكيك منظومة الفساد، وسوف أعلن الحرب على الفساد، وفي هذا الإطار سيكون قراري كرئيس للجمهورية هو إحالة جميع ملفات الهيئات الرقابية وتقارير جهاز المحاسبات إلى قضاة تحقيق مشهود لهم بالنزاهة والأمانة والشرف، تمهيدًا لتقديمها إلى محكمة خاصة تنشأ وتكون مهمتها محاكمة الفاسدين في أي موقع كانوا، ومهما كانت حصاناتهم.
رابع قرار جمهوري سيخرج من مكتبي الرئاسي هو تقديم كل أوراق قضايا بيع القطاع العام والتصرف في أملاك الشعب إلى القضاء، كل القضايا التي جرت وقائعها على مدار العقود الأربعة السابقة، وتقديم المسئولين عن أي إهدار للأموال العامة إلى المحاكمة.
إلى جانب ذلك كله سوف أطرح مشروعات الأراضي الزراعية الجديدة ومشروع العاصمة الجديدة وكل المشروعات الكبرى للنقاش المجتمعي المفتوح بدون قيود، وأستدعي كل خبراء وخبرات الوطن لوضع خبراتهم في كيفية التعامل مع تلك المشروعات بما يحفظ الوقت والجهد والمال الذي دفع فيها، ولا يجعلها عبئًا على الجيل الحالي من المصريين، وألا تشكل همًا ودينًا على الأجيال القادمة.
من اليوم الأول لرئاستي سوف أبدأ مع المتخصصين من كافة الاتجاهات والمدارس في وضع الخطط التي تحقق لمصر الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية موضع التنفيذ الفوري.
**
ستكون كلمتي الأخيرة إلى الشعب قبل أن أعلن انتهاء فترتي الرئاسية الثانية والأخيرة أن ينتخب المصريون الرئيس صاحب البرنامج الذي يقوم على الانحياز الكامل لثورة يناير، ويضمن العمل بجدية على تحقيق أهدافها، وهي أهداف نادت بها الأمة ونص عليها الدستور، وعلى رأسها الانحياز لفقراء البلد، انحيازًا بالسياسات، وليس بالصدقات، انحيازًا حقيقيًا يقوم على اقتصاد الأغلبية لا اقتصاد الأقلية.
وبعدها سوف أكون سعيدًا بالعودة إلى صفوف أولئك الذين ينحازون إلى إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية، وإقامة مجتمع الحرية والإبداع، وينقدون كل سياسة وكل إجراء وكل قرار يتصادم مع تلك الأهداف أو يعرقلها.
**
حكمة اليوم:
تأتينا من الضابط “توماس راسل” المفتش الإنجليزي بوزارة الداخلية المصرية، والذي تولى منصب حكمدار القاهرة لمدة تصل إلى 30 سنة، وقد صاغ خبرته في التعامل مع المصريين في مقولة صب فيها تجربته الطويلة بالعمل في مصر، يقول “راسل باشا”:
“المصريون مثل رمال الصحراء الناعمة، تستطيع أن تمشى فوقها مسافة طويلة، ولكنك لن تعرف متى تفاجئك، وتتحرك، وتبتلعك”.