لم يكن في وسع الفريق مهاب مميش مستشار رئيس الجمهورية للمواني، والرئيس السابق لهيئة قناة السويس سوى تخفيف حدة انتقاداته لمشروع تعديل بعض أحكام قانون هيئة قناة السويس، الذي يفتح الباب أمام «دخول الأجنبي للقناة التي حفرها وأممها المصريون بدمائهم».
الفريق مميش الذي قاد القوات البحرية المصرية لأكثر من 5 سنوات وتولى رئاسة هيئة قناة السويس لنحو 7 سنوات، اعتبر في تصريحاته التي نشرت صباح اليوم التالي لموافقة مجلس النواب على تعديلات قانون الهيئة رقم 30 لسنة 1975 أن المواد التي وردت في المشروع الجديد «سرطانية.. وتلعب في منطقة الخطر.. وتهدد الأمن القومي المصري».
مميش الذي لم يسمح شرفه العسكري ولا ضميره الوطني بالسكوت على ما يتم طبخه في غرف الحكومة والبرلمان المغلقة، لفت إلى أن هناك طرقا أخرى يمكن اتّباعها لجذب مزيد من الاستثمارات، «احنا مدخلناش حروب وضحينا في سبيل قناة السويس وفى الآخر يخدوها المستثمرين علشان شوية فلوس ومشروع القانون كان يحتاج دراسة من الحكومة قبل العرض على البرلمان»، قال الرجل في تصريحاته التي حُذفت من المواقع التي نشرتها، تعليقا على مواد مشروع القانون الجديد.
وبعد أن أحدثت تصريحات القائد العسكري السابق والمستشار الحالي لرئيس الجمهورية دويا هائلا، عاد مميش ليخفف من حدة لهجته، مطمئنا المصريين بأن الدولة لن تفرط في حبة رمل واحدة من قناة السويس باعتبارها «خط أحمر»، وأكد أن القناة ستظل مصرية وأن الرئيس عبد الفتاح السيسي لن يسمح بأن يمس أمن وسلامة ووطنية قناة السويس، «لا يمكن ذلك، وهذا كلام غير وارد، ولم يحدث قبل ذلك ولن يحدث بعد ذلك، ومنذ أن أمم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر القناة، في عام 1956، فهي قناة مصرية وهذا الأمر لن يتغير، ولم يتغير».
يبدو أن مساعد رئيس الجمهورية تلقى تطمينات بأن المادة 15 مكرر من مشروع التعديلات والتي تنص على: «يكون للصندوق فى سبيل تحقيق أهدافه شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال أصوله الثابته والمنقولة والانتفاع بها»، سيعاد النظر فيها بما يحسم الجدل الدائر في الأوساط السياسية والإعلامية.
التطمينات التي تلقاها مميش ودفعته إلى تخفيف حدة انتقاداته للبرلمان والحكومة، تلقاها ساسة وقادة في أحزاب معارضة. فبعد أن أصدرت أحزاب «الحركة المدنية الديمقراطية» بيانا تُعلن فيه عن رفضها القاطع لمشروع إنشاء صندوق لهيئة قناة السويس، والذي «يمثل تهديدًا لسيادة مصر على مواردها الاستراتيجية ومن شأنه أيضًا أن يهدد أمن مصر القومي»، اجتمع ممثلون للحركة بمسئول في السلطة ووعدهم بأن المادة (15 مكرر) التي أثارت جدلا لن تمر بصيغتها الحالية، ولفت نظرهم إلى أن مؤسسات الدولة «لن تسمح تحت أي ظرف بتحويل أصول القناة إلى أسهم أو سندات وعرضها للبيع والتداول».
وبعد أن تلقى ممثلوا الحركة المدنية تلك التطمينات من المسئول الرسمي نقلوها إلى شركائهم الذين كان بعضهم قد اقترح تعليق مشاركة الحركة في الحوار الوطني احتجاجا على «اندفاع السلطة فى اتخاذ قرارات اقتصادية تتعلق بالأصول ذات الطابع الاستراتيجي التى تمس الأمن القومى قبل أن تستمع إلى رأي المعارضة فى الحوار الذي دعت اليه»، ورأى هؤلاء أن من شأن هذا الأسلوب إهدار قيمة الحوار وجدواه.
لكن الفريق الذي اقترح تعليق مشاركة الحركة في الحوار الوطني أعاد النظر في موقفه بعد أن نُقلت إليهم تأكيدات بإعادة النظر في مشروع القانون، وهو ما أكده نائب برلماني لكاتب هذه السطور، لافتا إلى أن هناك أطرافا داخل السلطة تقاوم تمرير مشروع القانون بصيغته الحالية، وهي «أطراف لها ثقل» حسب تقديره.
التطمينات التي تلاقها مميش أو الساسة الذين التقوا المسئول الرسمي، تتعارض مع تصريحات رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان النائب محمد سليمان الذي أكد أن مواد القانون لن تخضع لنقاشات أخرى.
سليمان قال في تصريحاته مع الإعلامية لميس الحديدي قبل أيام إن مجلس النواب سيرسل مشروع القانون إلى مجلس الدولة لمراجعته وصياغته على الصعيدين القانوني واللغوي حتى يخرج للنور منضبطا، لكنه ذكر أن «مراجعة متن المشروع نفسه لن تخضع لنقاشات أخرى بنسبة 99%».
ما يعزز من موقف رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان، رد الفريق أسامة ربيع الرئيس الحالي لهيئة قناة السويس على انتقادات سلفه الفريق مميش، حيث أكد رئيس الهيئة الحالي أن مشروع القانون «تمت دراسته جيدا من قبل الهيئة والحكومة والخبراء ومجلس النواب».
ربيع قال في مؤتمر صحفي عقد خصيصا صباح الخميس الماضي للرد على الجدل المثار حول مشروع القانون: «مع كامل احترامي للفريق مميش المشروع تمت دراسة القانون جيدا ولم ولن نسمح بوجود مستثمر أجنبي في الإدارة»، لكنه أشار في معرض حديثه إلى وجود شراكات لقناة السويس مع جهات أجنبية وهو لا يعني أن لها سلطة في إدارة القناة أو أصولها، مؤكدًا أن الهيئة تلتزم بامتلاك الحصة الأكبر في المشاريع المنفذة.
تلك التصريحات والمواقف المتناقضة فتحت الباب أمام تفسيرات وتأويلات ذهب بعضها إلى أن هناك نية إلى تحويل نسبة غير حاكمة من أصول القناة إلى سندات وأسهم وعرضها للبيع في حال تم تمرير مشروع القانون الجديد.
هذا المشهد المرتبك والذي لا يعرف أحد إلى ما سينتهي، سبقه تمهيد من أبواق إعلامية حاولت تسويق عمليات بيع أصول الدولة حتى تتمكن الحكومة من الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، واعتمد بعضهم القاعدة الفقهية «الضروارات تبيح المحظورات» ليرفع عن كاهل السلطة الحرج في حال شملت عمليات البيع والاستحواذ مشروعات وأصول تمس الأمن القومي أو الضمير الوطني.
«البعض بيقول المشروعات والأصول دي فلوس الأجيال الجاية، لكن لو مظبطناش الدنيا دلوقتي الأجيال الجاية مش هتلاقي حاجة»، قال أحد هذه الأبواق، لافتا أن العديد من دول العالم تعرض مشروعاتها الكبرى للبيع «هو أنت يعني أعظم من تويتر؟.. في مستثمرين سعوديين وقطريين في البيعة الجديدة للشركة، ومحدش خرج قال ده أهم حاجة في أمريكا وعملناه بدمنا، أهم حاجة إنك تبيع بسعر عادل».
تتشدق تلك الأبواق الإعلامية بمعلومات مبتورة لما يحدث في الأسواق العالمية لتبرير عمليات البيع والاستحواذ التي تقدم عليها السلطة المصرية تحت ضغط الحاجة والأزمة الاقتصادية، يعرضون جزءا من الصورة لكنهم يحجبون الجزء الأهم والذي يضع حكومتنا في مأزق، فالأمن القومي والمصلحة الوطنية مقدمان في تلك الدول على أي عمليات استحواذ واستثمار.
على سبيل المثال لا الحصر تم تعديل قوانين الاستثمار في المملكة المتحدة بما يمنح الحكومة الإنجليزية الحق في إجراء مراجعة وتقييم كامل على عمليات الاندماجات والاستحواذات والاستثمارات الأجنبية التي تمثل خطرا على الأمن القومي حتى لو استوفت تلك العمليات شروط هيئة المنافسة والأسواق (CMA).
وفي الولايات المتحدة تقوم مجموعة فيدرالية مشتركة بين الوكالات الحكومية تسمى «لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة» (CFIUS)، بمراجعة استثمارات معينة لكشف المخاطر التي تتعلق بالأمن القومي، ولضمان أن الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة تتسم بالأمان.
وفي أستراليا منعت هيئة مراجعة الاستثمارات الأجنبية التابعة للحكومة قبل سنوات مزايدين صينين من شراء أراض زراعية لأنها تتعارض مع المصلحة الوطنية.
وفي ألمانيا وافقت حكومة المستشار الألماني على بيع حصة من إحدى محطات ميناء هامبورج إلى شركة كوسكو شيبنج هولدينجز الصينية المملوك للدولة، وهو الموقف الذي وضع المستشار في أزمة مع وزراء الشؤون الخارجية والمالية والنقل والدفاع في حكومته والذين يرون أن هذه الصفقة لا تخدم الأمن القومي لألمانيا.
تدرأ حكومات الدول الرأسمالية الكبرى الشبهات وتضحي بصفقات استحواذ وبيع سواء مملوكة لها أو لأفراد وشركات حفاظا على أمنها القومي ومصلحتها الوطنية، فيما نحن نتذرع بالضرورات لتبرير المحظورات وتمرير صفقات من شأنها تعريض استراتيجية أمننا القومي للخطر وتقليص دورنا الإقليمي والدولي الآخذ في التراجع من الأساس.