أتَذَكَّرُ جلساتنا بالمقاهي الشعبية وسَيرنا في الشوارع والحارات، أتَذَكَّرُ كتاباته الرصينة في جريدة “الشروق” التي كنت أتابعها عن بُعدٍ قبل أن يسمح القدر بلقائنا، أتَذَكَّرُ جلسة السحور الرمضاني الأخيرة بشرفة منزله الوسيعة المطلة على بيوت القاهرة والنيل العجوز من ناحية وعلى جبل المقطم من الناحية الأخرى، أتذكر صحن “الفول” الذي أعده بيديه اللتين ما إن فَرَغْنا منه ثم “حَبسنا” بالشاي بالنعناع البلدي، إلا وقد راحت أناملهما تداعب أوتار العود قبل الفجر فهتفنا جميعًا وراءه: “أهو ده اللي صار وآدي اللي كان، مالَكْش حق تلوم عليَّ” (كان يعرف قدر اهتمامي بالشيخ سيد درويش)، ثم اختتمنا مُنصِتِين في خشوع لمارسيل خليفة: “يا نَسيم الرُوح قولي للرَشا، لَم يَزدني الوِردُ إلا عَطشَا، لي حَبيبٌ حُبهُ وَسط الحَشا، إن يَشَا يمشي على خَدي مَشَا، رُوحُه رُوحِي ورُوحِي رُوحه، إن يَشَا شِئتُ وإن شِئتُ يَشَا” (كانت معزوفته الأثيرة التي رقص على نغماتها في حفل زفافه مع زوجته الوَفِية).
أتَذَكَّرُ وقفاتنا معًا في انتخابات برلمان 2012 مناصرين للكتلة المصرية في مواجهة التيار الديني المُتطرف وقد نجحنا في انتزاع مقاعد مؤثرة بهذا البرلمان كانت شوكة في حُلُوق المتشددين، أتَذَكَّرُ أنه كان يتنحى -وهو الأستاذ الكبير- عن صدارة المشهد في سرادقات الحملة الانتخابية فيدفع بي قائلًا: “اطلع إنت على المنصة وأنا حَأقف تحت” وكنت ألمحه حينها واقفًا على بوابة السرادق حارسًا ومُتأملًا في آن.
أتَذَكَرُ نضاله ضد التمييز الديني، وأتَذَكَرُ فَضله علىَّ بأن زَكَّى انضمامي إلى واحدة من أهم المؤسسات التي كانت تعمل بمجال مكافحة التمييز ومجابهة خطاب كراهية الآخر، لأصير بعد وفاته بسنواتٍ رئيسًا لمجلس أمنائها إلى أن استقلتُ مُعتزلًا العمل العام منذ فترة ليست بقصيرة. أتَذَكَّرُ زياراتنا لكنائس حلوان والمعادي ليلة العيد لتهنئة الشعب والأباء والكهنة في صقيع يناير، أتَذَكَّرُ الورود والترنيم العظيم “بقصر الدوبارة” الذي كنت أشعر وكأن جدران الكنيسة العتيقة تَدمَعُ معنا ونحن نُنشِده سويًا: “بارك بلادي، يا سامع الصلاة في قلوب كل البشر.. التفت لصراخ قلوبنا وارسل لينا المطر”، كنا نتخير مقاعدنا بالصفوف الخلفية غير مُلتزمِين بطقوس البروتوكولات الرسمية التي كانت تضعنا حينها بالصفوف الأولى.
أتَذَكَّرُ مُنجَزُ حياته الكبير والذي لا أتصور أن تخلو منه مكتبةُ باحثٍ محترف أو قارئٍ مُهتم، “النظام القوى والدولة الضعيفة – إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك”، وأزعم أنه واحد من أهم الإصدارات العلمية إن لم يكن أهمها على الإطلاق في نقد ذاك العهد.
كان هذا المُنَجز هو أطروحته التى نال عنها درجة الدكتوراه من معهد العلوم السياسية في باريس عام 2004، والتي قال عنها الدكتور “كليمنت هنري مور” عضو لجنة التقييم: “هذه أطروحة رائعة، وأعتقد أنها جاهزة للطبع حتى في صورتها الحالية بدون أي تعديل، وهو أمر استثنائي بالنسبة لأطروحات الدكتوراه”.
اشتمل “النظام القوي والدولة الضعيفة” على تمهيد وستة فصول ثم خاتمة تناول فيها تطور حجم الدولة المصرية، وتحولات توزيع الموارد على مؤسسات الدولة، والأزمة المالية وتأثيراتها على علاقة الحكومة المركزية بالوحدات المحلية، والصراع السياسي والتوزيع الإقليمي للموارد العامة، والتحولات في آليات تعبئة الإيرادات العامة، ثم نهاية الدولة الريعية-الرعوية وصعود الرأسمالية المصرية.
“هذه الدراسة تستخدم مفهومي الدولة والنظام السياسي معا. الدولة هي مجموع المؤسسات العامة، بهياكلها التنظيمية، بقوانينها، بلوائحها، بقواعدها الرسمية وغير الرسمية، وهي بذلك كيان له إستمرارية تتخطى الأفراد، بل وتتخطى النظم السياسية. أما النظام السياسي فهو تنظيم الأفراد الذي يقود الدولة. بهذا المعنى فإن الدولة مفهوم أوسع من النظام السياسي. مفهوم النظام إذن يشير إلى أفراد، إلى بشر من لحمٍ ودم”. هكذا تحدث صَاحِبِى عن الفارق بين الدولة والنظام السياسي في تمهيدِ مُنجَزَهُ الأهم عن عهد مبارك.
أتَذَكَّرُ مقاله التاريخي في نقد تكتلات الأحزاب المدنية بجريدة الشروق في منتصف 2012 “التيار الثالث.. فتش عن التنظيم والإدارة”. أتَذَكَّرُ مشروع مؤسسة الدراسات الذى حَلم به فوضع خطوطه العريضة ثم جمع العديد من الأساتذة الكبار والأصدقاء الأعزاء والمُحبين والعارفين بفضله -وكان لكاتب هذه السطور شرف مشاركتهم- للبدء، لكنه غادرنا قبل تحقيق الحُلم الذى حاولنا إستكماله لكن الظروف لم تكن مواتية.
أتَذَكَّرُ الزيارة الأخيرة “لجوستاف رُوسِّيِ” التي قال لي عبر الهاتف بعد عودته (كان حريصًا على ألا يراهُ أحدنا في تلك الأيام): “ما تِقلقَش يا عَمْ، عُمْر الشَقي بَقي”، لكنه لم يكن شقيًا أبدًا. أتَذَكَّرُ مراسم قُداس الفراق في كنيسة السيدة العذراء بنفس القاعة التي شهدت إكليل زواجه برفيقة عُمرِه الشحيح قبل ذلك التاريخ بسنوات قِلال.
كان يحب تلك البقعة من النيل التي كانت إحدى محطات مسار العائلة المُقدسة بمصر والتى وَجَد عندها راعي الكنيسة في منتصف سبعينات القرن الماضي الكتاب المقدس طافيًا على صفحة الماء مفتوحًا على الآية “مُبارك شعبي مصر”، تلك البقعة التي التقطت عندها امرأة فرعون السِفط الذى وضعت فيه أم النبي رضيعها وألقته بالنيل باكيةً خوفًا عليه من القتل حسب وعد الله بِرَدِّهِ إليها “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ”، أتَذَكَرُ والدته حين راحت تبكي في صمت مَهيب فوق شاهد قبرِه كأم موسى عليه وعلى صَاحِبِى السلام.
لم أجد عنوانًا أفضل مما يطالعه القارئ الكريم الآن على رأس هذا المقال. فقط ،”سامر سليمان”، الذي “غَيَّر عنوانه” كما يقول أستاذنا الكبير “زين العابدين فؤاد”، فغادرنا جسده في ليلة كهذه منذ عشرِ سنواتٍ كاملةٍ لم تُفلِح أحداثها في محو الذكرى والأثر النبيل في انتظار ميعاد اللقاء.. وهكذا يا “سَامِرُ” أتَذَكَّر.