كأس العالم هذا يحتاج إلى روح سقراط- تحت هذا العنوان كتب “ويل ماجي” الصحفي المتخصص في كرة القدم مقالًا نشرته مجلة “جاكوبين” على موقعها الإلكتروني في الثالث من ديسمبر الجاري. قال في مستهله إن سقراطيس- أو سقراط- استخدم كرة القدم في السبعينات والثمانينات كوسيلة لتحدي الديكتاتورية العسكرية والنضال من أجل الديموقراطية وحرية التعبير.

ولد سقراط عام 1954 في عائلة من الطبقة الوسطى، كان والده “رايموندو” مهتمًا بالتعليم والثقافة، ومن هنا نتفهم تسمية الابن على اسم الفيلسوف اليوناني القديم سقراط. بمساعدة والده تعلم القراءة والكتابة مبكرًا وأصبح قارئًا نهمًا ومثقفًا وعلى وعي بالمشكلات التي تواجه المجتمع البرازيلي.

كان عمره عشر سنوات عندما استولى الجيش على السلطة في البرازيل، ومطاردة واعتقال وسجن وتعذيب الآلاف من المثقفين والاشتراكيين. يذكر سقراط مشهدًا من طفولته: يتذكر كيف تخلص والده من كتب السياسة والاشتراكية تحت سطوة الحكم العسكري. درس الطب ووجد في كرة القدم أكثر من مجرد لعبة.

في عام 1978 انضم إلى صفوف فريق نادي كورنثيانز في مدينة ساو باولو. هناك اقترب من اليسار وانخرط في العمل الجماعي المنظم، ولعب دورًا بارزًا في حركة “كورنثيانز الديموقراطية”-ديموقراسيا كورنثيانز-. وخلال فترة قصيرة كان سقراط قد أصبح واحدًا من قيادات الحركة البارزين.

في اجتماع عام صوت الجميع على طريقة إدارة النادي، وبموجب التصويت أصبح اللاعبون هم من يقررون كل شيء يخصهم، من أوقات التدريب إلى الاستراحة واختيار المدربين ومواعيد العطلات والمعسكرات قبل المباريات.

تحدى سقراط وزملاؤه السلطة العسكرية الديكتاتورية علنًا، من خلال تبنيهم لأساليب ديموقراطية في الإدارة، وبمساعدة رئيس النادي فلاديمير بيريرز، ومدير كرة القدم أديلسون مونتيرو، قدموا نموذجًا فريدًا في الديموقراطية المباشرة. أثبت سقراط وزملاؤه أن رفض الأنانية واللامبالاة والحلول الفردية لصالح العمل الجماعي والسياسة الجماعية، يمكن أن يكون فعالًا للغاية. حقق النادي نجاحًا كبيرًا في ظل هذه الإدارة الديموقراطية، فاز ببطولتين متتاليتين: دوري “باوليستا”، في عامي 1982 و1983.

وسرعان ما بدأت الحركة تتجاوز أسوار النادي وتنتقل إلى الشوارع والميادين. شكل سقراط وزملاؤه تحديًا مباشرًا للنظام العسكري الحاكم. في عام 1982، وقبل أول انتخابات متعددة الأحزاب في ظل الحكم العسكري، نزل سقراط وزملاؤه إلى الميدان مرتدين قمصانًا كتب عليها عبارة “صوت يوم 15″-Dia 15 Vote”. في العام التالي، وفي مباراة التتويج بلقب البطولة عام 1983، دخل الفريق بقيادة سقراط إلى الميدان حاملين لافتة عملاقة كتب عليها: “اربح أو اخسر، لكن كن دائمًا مع الديموقراطية”.

بعدها شارك سقراط بدور كبير في حركة “الانتخابات المباشرة الآن” (Diretas Já)-  التي تمكنت- بدعم جماهيري واسع من العمال والنقابات والطلاب وقطاع عريض من المجتمع- من قيادة تظاهرات الملايين في الشوارع عام 1985 التي مهدت الطريق للانتقال إلى الديموقراطية.

كان سقراط لاعب خط وسط ذكي وفاهم، يجيد اللعب بقدميه، يحسن التمرير، يصنع الأهداف -وأحيانًا- يحرزها بنفسه. لكنه لم يكن لاعب كرة قدم عاديًا، حتى في وقت كانت فيه اللعبة أقرب بكثير إلى جذورها المجتمعية. كان قائدًا كاريزميًا ومبدعًا عبقريًا على أرض الملعب، وأصبح بطلاً رومانسيًا في المخيلة الشعبية في نظر الملايين لمآثره خارج الملعب.

لم يتجاوز سقراط ربع نهائي كأس العالم، لكنه يظل أحد أكثر اللاعبين شهرة في تاريخ البطولة. ويمكن التعرف عليه بسهولة من خلال شعره الأسود المجعد، ولحيته الشبيهة بلحية “جيفارا”، وعصابة رأسه التي تحمل الشعارات التي يتبناها.

على الرغم من أن الفترة التي قضاها مع المنتحب البرازيلي جعلته مشهورًا على نطاق عالمي، إلا أن أهم أعماله السياسية كانت خلال السنوات الست التي قضاها في ساو باولو مع فريق كورنثيانز لكرة القدم. في العام الماضي، قال زميله كاساجراند لصحيفة “الجارديان” البريطانية إن ديموقراطية كورنثيانز كانت ناجحة لأسباب متعددة، لكن “أهم سبب هو سقراط. كنا بحاجة إلى عبقري مثله، شخص مُسيّسْ وذكي ومحبوب. لقد كان درعًا لنا. بدونه، ما كان بإمكاننا الحصول على ديموقراطية كورنثيانز”.

قاد فريق البرازيل في كأس العالم 1982 في إسبانيا. كان فريقًا رائعًا وقدم كرة قدم جميلة، لدرجة أنه وصف بأنه أفضل فريق لم يفز بالبطولة. خرجت البرازيل من هذه البطولة في -دور المجموعات الثاني- بعد الهزيمة بهدفين مقابل ثلاثة أهداف أمام إيطاليا- التي فازت في نهاية المطاف بالبطولة. ووصف زميله اللاعب “فالكاو” هذه المباراة بأنها كانت “واحدة من أعظم المباريات في تاريخ كرة القدم”.

في أيلول سبتمبر 1985، وقبل أشهر من كأس العالم 1986 في المكسيك، ضرب زلزال عنيف العاصمة مكسيكو سيتي. اهتزت الأرض بشدة، وفي أقل من ثلاث دقائق، انهارت آلاف المباني والبيوت على من كانوا فيها. صمدت المباني القديمة أمام الزلزال، بينما انهارت الجديدة وكأنها لم تشيد بالإسمنت. وحين بدأت أعمال رفع الأنقاض، أعلنت الحكومة المكسيكية عن خمسة آلاف قتيل، ثم صمتت. غطت الجثث الأولى التي انتشلت من بين الحطام أرض ملعب للبيسبول. أودى الزلزال بحياة الآلاف وشرد أكثر منهم، وكشف عن مظالم اجتماعية عميقة في المجتمع المكسيكي.

كانت آثار الخراب التي خلفها الزلزال، هي المشاهد التي رآها سقراط وزملاؤه في مكسيكو سيتي وعلى شاشات التليفزيون هناك. في وقت لاحق، صرح سقراط بأن هذه المشاهد كانت هي الدافع الرئيسي وراء قراره استغلال كأس العالم الذي يشاهده العالم بأسره في لفت الأنظار إلى بعض القضايا الاجتماعية الهامة في الواقع.

قال سقراط في مقابلة صحفية أنه استوحى فكرة أن يستخدم عصابة الرأس كوسيلة للتعبير من مشهد طفلة مكسيكية تخرج من بين الأنقاض وكأنها ترتدي تاجا على رأسها. صنع من جورب قديم عصابة رأس، وكتب عليها “المكسيك لا تزال صامدة”. كانت رسالته بسيطة تعنى الأمل وتحرض على المقاومة. لفتة ذكية ركزت الضوء على كارثة الزلزال التي أصابت البلاد بجروح عميقة، وكسب بها عقول وقلوب الملايين في المكسيك والعالم.

كان سقراط يساريًا، وقف ضد الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، ودافع عن حرية الرأي والتعبير والديموقراطية والمساواة. لا نشهد مثل هذا كثيرًا في ملاعب كرة القدم حاليًا لا في أمريكا الجنوبية ولا في العالم، لذلك لا يزال سقراط محبوبًا داخل وخارج البرازيل. يقول معجبوه أنه “كان رجلًا متجاوزًا لزمانه، وأن أفكاره وآراؤه في القضايا الاجتماعية والسياسية والقيم التي تبناها، ألهمت الكثير من المعجبين في كورنثيانز والبرازيل والعالم.

وسط اهتمام الأندية الإيطالية بضمه، وفي لحظة هامة وفارقة في حياته الحافلة، وقف على خشبة المسرح أمام حشد كبير من الأنصار والمتظاهرين في ساو باولو، ووعدهم بأنه لن يغادر البرازيل إذا تم إقرار تعديل دستوري يفتح الطريق لانتخابات حُرّة. لكن التعديل الدستوري المأمول لم يتم وتعطل مؤقتًا، فغادر سقراط البرازيل، وذهب إلى نادي “فيورنتينا” في إيطاليا.

تقول القصة أنه عندما وصل إلى هناك، سُئل ما إذا كان من المعجبين بأي من نجوم الدوري الإيطالي، مثل ساندو مازولا وجياني رافيرا مثلا، فرد ببساطة: “أنا لا أعرفهم”. “أنا هنا لقراءة جرامشي باللغة الأصلية ودراسة تاريخ الحركة العمالية.”
في كأس العالم 1968 خرجت فرنسا من ربع النهائي بركات الترجيح أما فرنسا، وأهدر سقراط ركلة الجزاء الترجيحية. وكانت تلك هي آخر مباراة رسمية شارك فيها.

مارس الطب بعد اعتزاله الكرة، فضلًا عن الكتابة والنقد وإلقاء المحاضرات، واستمر في الدفاع عن الاشتراكية، وكان من مؤيدي الرئيس لولا دا سيلفا، الذي كان مشجعًا لنادي كورنثيانز وعضوًا قياديًا في حركة “الانتخابات الحرة الآن”. سئل سقراط عن رأيه في حكومة دا سيلفا الأولى فقال إنها الأفضل في تاريخ البرازيل، لكنها ليست عشرة من عشرة، عليك أن تغير كل شيء مرة وللأبد، لذلك أقول سبعة أو ثمانية”.

عاش سقراط حياة غير روتينية، وغير صحية على ما يبدو، كان يدخن ويشرب الكحول، ووصف نفسه ذات مرة بأنه “مناهض الرياضيين”، لكنه كان مدركًا لحجم موهبته في كرة القدم، وعلى وعي بأن كرة القدم هي المنصة التي يعبر من خلالها عن آرائه وأفكاره ورسائله إلى الملايين. وفي عام 2011، توفي سقراط عن عمر ناهز السابعة والخمسين، بعد معاناته من إدمان الكحول، في نفس اليوم الذي حصل فيه نادي كورينثيانز على لقب الدوري البرازيلي.

أصبح المنتخب البرازيلي رمزًا للانقسام السياسي في البرازيل. ففي سياق الحملة قبل الانتخابات العامة التي أجريت في أكتوبر / تشرين الأول الماضي، شجع الرئيس السابق “جاير بولسنارو” واليمين المتطرف أنصارهم على ارتداء القميص الأصفر الشهير الكناري اللون الذي يرتديه المنتخب الوطني في المباريات. في المقابل، ونتيجة لذلك، توقف أنصار لولا دا سيلفا تمامًا عن ارتداء نفس القميص في مؤتمراتهم واجتماعاتهم العامة.

وانقسم اللاعبون، فمنهم من أعلن صراحة عن تأييده ودعمه لبولسنارو، ومن أبرزهم نيمار، وعلق لولا داسيلفا بقوله إن لاعب باريس سان جيرمان يساند بولسنارو لأسباب تتعلق بالضرائب!

في المقابل، أعلن العديد من اللاعبين الحاليين والسابقين تأييدهم للولا، من أبرزهم كاساجراندي صديق سقراط القديم، وشقيقه الأصغر راي، الذي تحدث في حفل عام قبل جولة الإعادة، مؤيدًا للولا دا سيلفا، وقائلًا: “كلنا جميعًا نعرف إلى أي جانب سينحاز سقراط”.

في ضوء ما يحدث في البرازيل، وفي عالم كرة القدم عمومًا، يظل سقراط شخصية هامة وملهمة. يقول أندرو داوني، الصحفي ومؤلف كتاب دكتور سقراط: إن شخصية سقراط بالنسبة للبرازيليين هي تذكير بأن اليمين المتطرف لن يحتكر أبدًا تاريخ وتراث المنتخب الوطني. عندما أعلن نيمار تأييده لبولسنارو، سمعت الكثير من الناس يتحدثون عن افتقادهم لرجل مثل سقراط: الذي دافع عن القضايا الاجتماعية وحقوق الإنسان والديموقراطية والمواقف التقدمية… كان رجلًا دافع عما يعتقد أنه صواب”.

ولأن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، وتلعب دورًا هامًا في حياة الناس، نحتاج إلى أن نحافظ على روح سقراط حية إلى الأبد.