الألم هو الاختبار المثالي في الوعي الجمعي عموما للإرادة، تحمل الألم الجسدي أو النفسي وتخطيه وتجاوزه هو طريقة فعالة جدا لإثبات قوة الإنسان وقدرته على التسامي على ماديته بل وإخضاع جسده لإرادته. ربما نشأ هذا الاعتقاد من التجربة الطويلة للبشر مع الألم فكل المجتمعات البشرية تعاملت مع الألم منذ فجر التاريخ بأساليب شتى، وكل المجتمعات البشرية تدمج الألم في نظرتها للعالم وفي ثقافاتها وموروثها وهي دائما ما تبحث له عن معنى وقيمة خاصة بها وتبتكر الوسائل لعلاجه ومداواته أو على الأقل للتفاوض معه ومناورته.

في الميثيولوجيا اليونانية على سبيل المثال مكانة الألم كإثبات على ضعف الإنسان في مواجهة الآلهة كما نرى في أسطورة العذاب الأبدي لبروميثيوس بأن يعلق بين جبلين ليأكل الرخ من كبده كل يوم وينبت له كبد جديد في الليل كعقاب على محاولته سرقة النار (سر الآلهة المقدس).. الألم المستمر هنا كان عقاب من الآلهة على خطيئة البشر وتجاوزاتهم يتقبله البشر ببطولة ورباطة جأش.

أما في الفلسفات الشرقية فنجد الألم مرتبطا في البوذية مثلا بالوجود ككل ونتاجا طبيعيا عن الجهل البشري، (النيرفانا) في البوذية وهي أعلى مرحلة يمكن أن يصل لها البشر هى متاحة للجميع لكنها لا تتحقق إلا عبر بوابة (الكارما) العادلة إذ يتطلب كل فعل جيد ثواب وكل فعل سيء عقاب.. هنا مفهوم وتصور أكثر تطورا عن الألم ورؤية يقترب فيها الألم من مفهوم العدل

في الأديان الكتابية نجد المسيحية تعطي المساحة الأكبر والمعنى الأوضح والأكثر شمولا للألم.. الألم في المسيحية لإثبات الوجود ودليل على المحبة فهو فداء وتخلص من الآثام، فالفكرة المركزية عند المسيحية وهي موت عيسى على الصليب فداءً وتكفيرا لآلام البشر تدل على محبة الإله للبشر ورغبته في تخليصهم من الإثم ولو على حساب ألم صلب وتعذيب المسيح نفسه، نرى أيضا في رسائل بولس الرسول وتوما الأكويني وتعليمات القديس يوحنا ذهبي الفم في كتاب الألم.

وتعتبر المسيحية من أهم الرؤى الكونية التي تنضوي على أدبيات ونصوص تحتفي بالألم بشكل واسع كوسيلة للخلاص والتطهر.. أما في الإسلام فنجد قيمة الصبر على الألم باعتباره مقدرا من الله وليس فقط لعقاب الإنسان، بل تبدو فكرة الابتلاء بالألم والمعاناة كما في قصة أيوب التي يرويها القرآن بطريقة مختلفة تماما عن الرواية اليهودية في سفر أيوب، فأيوب في القرآن شخصية أكثر نضجا ونبلا ليس فقط في احتماله لآلام المرض بل وفي تسليمه بقضاء الله ومحاولة بحثه عن معنى آخر للألم غير كونه عقاب وتقبله فكرة أن يصاب رجل مستقيم وبعيد عن الآثام بالمرض والابتلاء لاختبار قوة إيمانه فأصبح مثالا عند المسلمين على الصبر.

يبرز اسم نيتشه كفيلسوف ما بعد حداثي يمتلك تصورا مختلفا تماما عن الألم.. الألم عند نيتشه مرحب به.. الألم واللذة مرتبطان معا عنده على نحو يصعب الفصل بينهما، يرى نيتشه أن الألم يعطي للمتألم العظمة والقوة والنضج العقلي والروحي السليم الذي يمكنه من تغيير الواقع وهو السبيل الوحيد لمواجهة الألم، والقيمة الحقيقية للألم أن يكون دافعا للتغيير في الحياة، وينتقد موقف المسيحية التي تدعو إلى احتمال الآلام في الدنيا وانتظار النعيم في الحياة الأبدية.

ملاحظات خاصة عن الألم من واقع تجربة السجن

كيف نتعامل مع الألم:

*وعينا الجمعي في عمومه يكره الألم ويلعنه لكننا نقدس المتألم ونمنحه مكانة كبيرة قد تدفع البعض إلى تمني الألم أو محاولة تزييفه فقط لاكتساب نفس التعاطف والقيمة.. على سبيل المثال يمنح البعض درجة من الرومانسية والعذوبة لتجربة السجن مثلا باعتبارها تكسب صاحبها بالضرورة الحكمة والقوة وهو غير صحيح في معم الأحيان.

ليس هناك أى نوع من البطولة في الألم.. علينا تجنبه بكل الوسائل ولكن إذا فرض علينا فعلينا أن نحاول أن نتعامل معه بدون خوف أو لوم للنفس وبدرجة من النضج تسمح لنا أن نعي أن الألم هو عملية مستمرة يتعرض لها جميع البشر بدرجات متفاوتة وردود أفعالهم عليها مختلفة ولكل منا طاقة وقدرات خاصة ومختلفة عن الآخر.. البعض ينجح في الاختبار والبعض لا ينجح.. فلنلتفت لما بين يدينا ونترك الحكم على الناس.

*السياق الاجتماعى للهزيمة والضعف يفرض علينا وجود تجارب عديدة ومتنوعة للألم ويفرض علينا كذلك أن نولي عناية خاصة للمتألم.. ربما نوعا من معاقبة الذات أو بحثا عن مشهدية غائبة أو تمثلا لفكرة الفداء والخلاص

*تجربة الألم والتعامل معها هي عملية سلبية وإيجابية في نفس الوقت.. سلبية لأنها معركة خاصة جدا قد يختار البعض أن يخوضها بمفرده دون أن يشرك من حوله في المعاناة أو النتائج ولكنها قد تكون إيجابية إذا استطاع الفرد تجاوزها مستفيدا من آثارها الطيبة في نفع من حوله ومن المثير للتأمل في واقعنا في مصر حاليا أن معظم أبطالنا هم ضحايا للألم بشكل ما.

*التفنن والإغراق في وصف الألم والمعاناة لا يعني حلها والتوحد مع المتألم لن يساعده.. علينا لو اخترنا أن نكون نافعين أن نبحث عن وسائل أكثر إيجابية لمساعدته.. الألم يغير الإنسان للأسوأ والبطولة الحقيقية هي أن ننجح في تجاوز التجربة والخروج منها أقوى أو على الأقل بأقل قدر من الخسائر.

*الإيمان بعقيدة أو بقيمة أو بمعنى هو أكثر ما يعطي للانسان قوة في مواجهة الألم ويمكنه من احتماله وتجاوزه.. رأيت هذا وعايشته في السجن.. الأشخاص الذين يمتلكون هدفا أو معنى أو حياة خارج السجن كانوا أكثر ثباتا وقوة.. الإسلاميين في عمومهم مثلا (تتفق أو تختلف مع توجههم السياسي.. هذا ليس موضوعنا) أكثر قدرة من غيرهم على احتمال السجن وتجاوز تجربته أسرع من غيرهم.

* نميل دائما إلى تحميل معاناتنا لأسباب غيبية.. نعلق أخطاءنا وتخاذلنا على شماعة القدر أو الحظ.. الرواية السائدة في الأغلب لدى الجنائيين مثلا أن السجن هو لتكفير الذنوب وأن الله اختار لهم السجن ليكفروا عن خطاياهم (وليست جرائمهم نفسها هي سبب وجودهم عدالة، أو ظلما بشريا لو كانوا مظلومين).