أعلنت ألمانيا اعتزامها إطلاق استراتيجية جديدة، تستهدف إعادة هندسة علاقاتها المستقبلية مع الدول الإفريقية، سيعلن إطلاقها في يناير/ كانون الثاني المقبل. وذلك ضمن خطة بديلة لمشروع مارشال الألماني في إفريقيا، الذي انطلق منذ العام 2017.
هذه الاستراتيجية تمثل انعكاسًا مباشرًا للأزمات العالمية. وهي تبرز التحديات والمخاوف الأوروبية من سيطرة روسيا والصين على ساحة التنافس الإفريقي. كما أنها تؤكد سعي ألمانيا لتحقيق نفوذ تحتاج إليه وتخطط له في القارة السمراء.
يرى الدكتور عماد بحر الدين، الخبير بالشؤون الإفريقية بجامعة أم درمان، إن هذه الاستراتيجية، التي لم تعلن تفاصيلها بعد وإن كانت ملامحها بادية عبر استغلال أدوات التنمية وآلية المساعدات الموجهة إلى الدول الإفريقية، تشكل دافعًا لباقي الدول الأوروبية لإطلاق سياسات جديدة تجاه الدول الإفريقية. لاسيما الدول التي تعاني ندرة الوقود. خاصة مع تخلي أمريكا عن أوروبا. وهو ما يمكن استنتاجه من خلال هذا التغيير الجديد في السياقات والمقاربات العالمية.
مرتكزات الاستراتيجية
حددت مسودة الاستراتيجية آفاق رئيسية للتعاون، تتضمن:
المجال التنموي
تعد ألمانيا ثاني أكبر دولة مانحة في مجال التعاون الإنمائي عالميًا. وهي تعتمد على آلية تقديم المساعدة الإنمائية كوسيلة لمنع الأزمات، وتحقيق الاستقرار وبناء السلام. بينما تحتل إفريقيا مركزًا محوريًا لجهود ألمانيا كوجهة لأكثر من 30% من إجمالي إنفاقها على المساعدات، باعتبار الساحة الإفريقية، موطنًا لأكبر عدد من النزاعات المسلحة.
وفي ظل تفشي عدم الاستقرار السياسي، لاسيما مع توالي الانقلابات في منطقة غرب إفريقيا، إلى جانب سعي بعض القوى الدولية للاستحواذ على حصة الدول الأوروبية في إفريقيا، والشكوك التي أثيرت بشأن طبيعة السياسة الخارجية لألمانيا بعد رحيل المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ترى ألمانيا أن المساعدات أداة فعالة لإبقائها في السباق في إفريقيا.
اشتملت المسودة على أهمية تطوير العمل الإنمائي. وفي السياق، اقترح المدير الإداري لرابطة الأعمال الألمانية الإفريقية، كريستوف كانينجيسر، إعادة التفكير في سياسة التنمية لتأمين مشاريع ريادة الأعمال في البلدان النامية. كما يؤيد ممثلو الأعمال التجارية مقترح إعادة التخصيص الجزئي لمساعدات التنمية “صناديق التنمية” في إفريقيا.
استبدال “خطة مارشال”
كان أحد الانتقادات المركزية التي وجهت لـ”خطة مارشال الألمانية مع إفريقيا”، أنها تسعى لتحقيق الأهداف الألمانية ذاتها، في معزل عن مصالح الدول الإفريقية. وهو ما تحاول الاستراتيجية الجديدة علاجه بتقييم المنهجية السابقة وتعديلها بتضمين مفهوم جديد للتعاون، يقوم على مبدأ الربح للجانبين.
على سبيل المثال، تم التركيز على التعاون في مجال الطاقات المتجددة -لاسيما تنمية اقتصادات الهيدروجين- حيث تعمل ألمانيا بالفعل مع المغرب وتونس وجنوب إفريقيا والجزائر وكينيا في هذا المجال. كذلك تعهد وزير التنمية الألماني بتطوير “أدوات تمويل مبتكرة” لضمان الحد من مخاطر الاستثمار في الشركات الإفريقية.
الطاقة
تعتبر الطاقة ركيزة أساسية في التوجه الألماني نحو إفريقيا، وإحدى القواعد الرئيسية في الاستراتيجية الجديدة، إذ كشفت الحرب الروسية الأكرانية مخاطر الاعتماد على مصادر محدودة للطاقة، وهنا ظهرت أهمية الدول الإفريقية كمجال لتحول مسار النزاعات على النفط والغاز،
أيضًا، تمثل الطاقة المتجددة خيارًا يتناسب مع أهداف المناخ. وحسب بعض التقديرات، فإن الدول الإفريقية لديها إمكانات إنتاج حوالي 310 جيجاواط بحلول عام 2030. وهو ما يعد سببًا في رغبة ألمانيا تعزيز مجالات التعاون مع إفريقيا في مجال الطاقة.
وتستهدف ألمانيا تعزيز إنتاجها من الطاقة من الهيدروجين الأخضر وطاقة الشمس والرياح. وهو ما اتضح في زيارة وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك في ديسمبر/ كانون الأول الجاري إلى جنوب إفريقيا وناميبيا. حيث أعلن عن اعتزام ألمانيا تقديم 30 مليون يورو لمشاريع الطاقة من الرياح والشمس في ناميبيا.
وفى السياق نفسه، تبذل جنوب إفريقيا جهودًا بارزة لتخفيف الاعتماد على الفحم. لا سيما وقد أكد كجوسينتشو راموكجوبا، رئيس الاستثمار والبنية التحتية في جنوب إفريقيا، إن بلاده تبحث عن شركاء أبحاث وأسواق تصدير لتحقيق هدف أن تصبح دولة رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر.
إدارة الديون
تمثل الصين بوصلة هامة في استراتيجية ألمانيا الجديدة في إفريقيا. حيث تدور أغلب أهدافها حول السيطرة على التمدد الصيني في الدول الإفريقية. ذلك عبر تقديم أدوات مساعدة تحيد حضور الصين، التي استغلت أزمات القارة الاقتصادية المركبة، ورسخت تواجدها بها من خلال سياسة القروض وتعظيم الديون الإفريقية.
هنا، تضع ألمانيا خططًا لإدارة أزمة الديون الإفريقية. وبحسب صحيفة “Handelsblatt“، فإن الحكومة الفيدرالية تدرس تمويل مشاريع التنمية في مقابل إعفاء من الديون.
الهجرة
تخطط ألمانيا لدعم خيارات الهجرة القانونية من البلدان الإفريقية في السنوات المقبلة. ولهذا الغرض، سيتم تحويل مراكز المشورة في البلدان الإفريقية إلى مراكز الهجرة والتنمية. ذلك بهدف التركيز على الهجرة المنتظمة للعمال إلى ألمانيا وأوروبا، فضلًا عن توجيه الجهود نحو تطوير تنفيذ قانون هجرة الكفاءات.
أبرز الدلالات
تكشف الاستراتيجية عدة دلالات بعضها يرتبط بألمانيا ذاتها والآخر بالدول الإفريقية، وأخيرًا الموقف الإقليمي والدولي:
دعم نظام متعدد الأقطاب
في ظل المتغيرات العالمية الأخيرة ومحاولة بعض القوى الدولية فرض هيمنتها، ترى ألمانيا ضرورة ترسيخ مبادئ عالم متعدد الأقطاب. وكان خطاب المستشار الألماني أولاف شولتز الأخير أمام البرلمان الألماني في 15 ديسمبر/ كانون الجاري، يحمل هذا المعنى. إذ قال إن القرن الـ 21 لن يكون عالمًا به مركز قوة أو مركزان قويان فقط.
وأضاف أن تحقيق ذلك يرتبط بتنويع العلاقات، وتدشين شراكات وثيقة مع الدول الناشئة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
وهو ما يراه عماد بحر الدين الخبير بالشؤون الإفريقية بجامعة أم درمان، ضمن سياقات تشكُل نظام عالمي جديد، تحاول خلاله مختلف الدول، إطلاق إمكاناتها لتأمين مكانة لها. كما اعتبر أن استراتجية ألمانيا ليست خارج هذا المشهد، والذي قد يدفع دولًا أوروبية لإطلاق استراتيجيات جديدة مع الدول الإفريقية.
الأهمية الاستراتيجية للقارة
تمثل العلاقات بين إفريقيا وألمانيا، خلال الفترة القادمة، اختبارا لإدارة شولتز، والتي تحاول إظهار حسن النية ومد يد العون للدول المتأزمة في إفريقيا. حيث أعلنت ألمانيا خلال القمة الأوروبية الإفريقية في بروكسل فبراير/ شباط الماضي، عن خارطة طريق للسياسة الأوروبية تجاه إفريقيا، ترتكز على سياسة التنمية والطاقة. وصرح شولتز: “لقد أدرك الآخرون منذ فترة طويلة هذه الأهمية المتزايدة لإفريقيا”.
وتخطط ألمانيا لاغتنام فرص الاستثمار الخاص في إفريقيا لتلعب دورًا رائدًا بين دول الاتحاد الأوروبي. لاسيما في مجالات البنية التحتية والطاقة.
ونظرًا لتعطل سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم وتباطؤ الاقتصاد العالمي، قال معهد BDI، إن ألمانيا بحاجة إلى إفريقيا كشريك استراتيجي. كما أكد رئيس اتحادات التجارة الفيدرالية الألمانية (BGA)، ديرك جاندورا، أن “القارة الإفريقية هي قارة الفرص، وتتزايد أهميتها كشريك تجاري موثوق وطويل الأجل لألمانيا وأوروبا.
احتواء الصين والآخرين
ارتكزت الاستراتيجية الصينية في إفريقيا طويلًا على مشاريع البنية التحتية وتأمين الوصول الأول إلى المواد الخام، وفقًا لبحث أجرته صحيفة The New York Times أواخر عام 2020، فإن 15 من مناجم الكوبالت الـ 19 في الكونغو مملوكة أو ممولة من قبل الشركات الصينية. بينما لم يحقق الاقتصاد الألماني نفس القدر من التقدم، واقتصر على حوالي 1 % فقط من جميع الاستثمارات الأجنبية الألمانية إلى إفريقيا في عام 2018.
وتحاول ألمانيا الحفاظ على مصالح شركاتها في إفريقيا. حيث أعلن شولتز في 18 فبراير/ شباط الماضي أنه من المقرر استثمار حوالي 20 مليار يورو سنويًا في إفريقيا لخلق حوافز للاستثمارات الخاصة.
ويحظى التأثير الجيوسياسي لروسيا والصين باهتمام أكبر في الاستراتيجية. إذ تراقب ألمانيا القفزة التي حققتها الاستثمارات الصينية والتركية والإيطالية والهندية في الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة.
لذلك حددت مسودة استراتيجية ألمانيا الجديدة تركيا وكذلك الصين وروسيا كدول منافسة بفعل استثماراتهم في البنية التحتية.