أفسحت الجمهورية الجديدة من 2014 وما بعدها المجال واسعًا أمام إرادة الفرد على حساب الإرادة العامة، سمحت بحكم فردي مطلق الإرادة بصورة غير مسبوقة منذ تأسست الدولة الحديثة قبل أكثر من قرنين وكذلك منذ تأسست الجمهورية قبل سبعين عاما، الحكم الفردي المطلق الذي مارسه كل من محمد علي باشا ثم جمال عبدالناصر لم يتم بين يوم وليلة، تم بالتدريج لأنه وجد نوعا من المقاومة من الداخل ونوعا من العرقلة من الخارج، أما الحكم الفردي المطلق في عهد الجمهورية الجديدة فقد ولد مكتمل الأركان قبل عام من تأسيس الجمهورية ذاتها، ولد مكتملا مع تصدر وزير الدفاع -رئيس الجمهورية الجديدة فيما بعد- المشهد السياسي في الثالث من يوليو 2013، وما حدث على مدى ما يقرب من عشر سنوات لم يكن غير ترجمة وتفسير لمعنى ذلك المشهد الذي يتصدره ويتوسطه ويعلوه وزير الدفاع في كامل حلته العسكرية.
حكمت الجمهورية الجديدة بقبضة من حديد ونار، فاستطالت إرادة الحكم الفردي المطلق وتقزمت الإرادة العامة، فإرادة الحكم الفردي المطلق تمارس العسف بلا قيود وتمارس الخسف بلا حدود، بينما الإرادة العامة تقابل ذلك بعجز يفوق الخيال، عجز عن الكلام، عجز عن التفكير، عجز عن الحركة، عجز شامل وكامل أنبته الخوف وأنتجه القمع، عجز ضار أكثر من ضرر الموت ذاته، فالموت ينهي الحياة بينما العجز يحولها إلى قطعة من الذل والهوان وعذاب الروح والضمير.
فرضت الإرادة الفردية كلمتها -بعلم ودون علم وبدراسة ودون دراسة وبتعجل لا تمهل فيه ولا أناة معه- في كل القضايا المصيرية من كيف نختار الرئيس إلى كيف ننتخب البرلمان إلى كيف نشكل الحكومة؟ ومن بناء العواصم إلى بناء الكباري إلى هدم المقابر وإزالة المساكن، ومن كيف نتفاوض مع الإثيوبيين حول ماء النيل إلى تبطين الترع إلى إزالة الأرصفة إلى تقطيع الأشجار العامة، ومن توجيه الإعلام للدعاية المباشرة للحاكم إلى فرض خطاب ديني حكومي إلى التدخل في الأمور الشخصية مثل الطلاق والزواج، الإرادة الفردية لها قول في كل شيء سواء كان في اختصاص الحاكم أو خارج اختصاصه المنصوص عليه في الدستور، فالإرادة الفردية لا تعمل في إطار الدستور، تعمل خارجه، متحررة من ضوابطه، مستعلية على وجوده من الأصل، الإرادة الفردية تحكم وليس في حسابها دستور، فقد تجاهلته ثم تجاوزته ثم عدلته ثم أفقدته الحد الأدنى من معناه وجدواه. وإذا نجح الحكم الفردي المطلق في تجاوز الدستور فإن الإرادة العامة تفقد سندها وظهرها ويسهل ضربها على بطنها ومدها على قدميها.
كان دستور 1923 البلورة الأولى الأوضح للإرادة العامة في مواجهة الحكم الفردي المطلق الذي اتسمت به أكذوبة الدولة الحديثة، لكن الملك فؤاد ثم من بعده نجله الملك فاروق لم يدخرا جهدا في سبيل استبقاء الحكم الفردي على حساب الإرادة العامة وقد نجح الملكان في مهمتهما، فأجهضت التجربة الدستورية، وسقطت الملكية بكاملها. ثم جاء الضباط الأحرار فألغوا الملكية، لكنهم احتفظوا بالحكم الفردي المطلق، فكانت جمهورية ملكية مطلقة أسوأ من الملكية التي ألغوها، فملكية أحفاد محمد علي باشا كان الإنجليز يلعبون بها ومعها، وكانوا هم -أي الانجليز- من يهندس الساحة السياسية وكانت لهم مصلحة في إضعاف الملك، ثم إن ثورة 1919 وهي الامتداد الناضج للثورة العرابية 1881 – 1882 قد أحيت الإرادة العامة تحت قيادة الوفد بما أضعف من سطوة الملك، هذان القيدان على الحكم الفردي المطلق للملوك من أحفاد محمد علي باشا لا وجود لهما في حالة الحكم الفردي المطلق للملوك من ضباط الجيش في ظل الجمهورية الملكية المطلقة، فلا استعمار يقلص من سطوتهم، ولا ثورة مجيدة مثل ثورة 1919 تمكن الإرادة العامة من فرض نفسها عليهم.
ضباط الجيش خلعوا الملك فاروق الأول، ثم جاء نجيب ليكون الملك فاروق الثاني، ثم جاء عبدالناصر ليكون الملك فاروق الثالث، ثم جاء السادات ليكون الملك فاروق الرابع، ثم جاء مبارك ليكون الملك فاروق الخامس، ثم جاءت ثورة 25 يناير المجيدة لتعيد تذكير التاريخ أن على هذا الجزء من خريطة الأرض شعبا مازال يعيش على قيد الحياة اسمه الشعب المصري يحس ويشعر ويعتز بإنسانيته ويفكر ويغضب ويحتج ويثور ويملي إرادته ويعزل حكامه، ثم لم تكن الثورة غير فاصل قصير، عادت بعده طبعة أشد قسوة من الملكية الجمهورية المطلقة، عادت تحت اسم الجمهورية الجديدة، عادت بوجه مخيف لا أمان معه لمؤيد ولا معارض ولا حليف ولا خصيم ولا غني ولا فقير ولا بشر ولا شجر ولا حجر، حيث الإرادة الفردية المطلقة تعتسف كما تشاء دون حساب لأي عواقب وحيث الإرادة العامة يسوق الخوف خطاها من عجز إلى عجز إلا ما كان غضبا كامنا أو احتجاجا صامتا أو همسا غير مسموع.
دستور 1923 كان يحمي جزءا من الإرادة العامة، إرادة الطبقة الارستقراطية ومعها طبقة الأفندية الوسطى الصاعدة، وقد تبلورت الطبقتان في المساحة بين سلالة محمد علي باشا والاحتلال، لكن الطبقتين لم تحفلا بالطبقة الثالثة من فلاحين وعمال، ثم لم يكن الاحتلال يعنيه إرادة عامة بقدر ما يعنيه التلاعب بكل المصريين، ثم أحفاد محمد علي باشا لم يدركوا أن ما كان يجوز لجدهم المؤسس لا يجوز لهم بعد مرور قرن ونصف من الزمن تغير فيه الشعب الذي كان جدهم يحكمه بالكرباج.
أما دساتير الملوك من ضباط الجيش من الجمهورية القديمة حتى الجمهورية الجديدة فهم من يكتبونها وهم من يعدلونها وهم من يتلاعبون بها، وكان إنجازهم الأكبر في التاريخ هو تجديد وإحياء الحكم الفردي المطلق بأسوأ مما كان قبل ميلاد الجمهورية الملكية المطلقة في 23 يوليو 1952.
ومثلما تخلصت مصر من ملكية أحفاد محمد علي باشا فإنه بات يلزمها التخلص من الجمهورية الملكية المطلقة التي تداول عليها ضباط الجيش 1952 – 2022 ومازالت مستمرة مستقرة، مصر لم تعرف من الجمهورية غير اسمها فقط دون المضمون والمحتوى، وبات يلزمها أن تتحول من جمهورية شكلية إلى جمهورية فعلية، من جمهورية الضباط إلى جمهورية الشعب، من جمهورية الحكم الفردي المطلق إلى جمهورية الإرادة العامة، من جمهورية الحاكم والذين معه إلى جمهورية مؤسسات، من جمهورية الرئيس إلى جمهورية الدستور والقانون والمؤسسات، هذا هو التحول الأكبر والأخطر الذي مصر بصدده منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ولم تكن ثورة 25 يناير 2011 المجيدة غير إشارة من بعيد لبوصلة الأحداث على مدار القرن الحالي بأكمله.
كانت ثورة 25 يناير من نقص الخبرة وحسن النية بحيث تصورت الحل في إحلال حاكم محل حاكم وإحلال دستور مكان دستور وإحلال طبقة حكم بدل طبقة، الحل لم يكن كذلك، ذلك كان ومازال، صورة الحل وشكله وبروازه فقط، لكن الحل هو إحلال الإرادة العامة محل إرادة الحاكم الفردي المطلق، لأن ذلك ببساطة يعني إحلال المصالح العامة محل مصالح الحاكم والذين معه، ولأن ذلك ببساطة يعني تمكين الشعب من السيادة بالفعل، ليكون الشعب سيد نفسه بالفعل، وليكون الوطن سيدا بالفعل لا خاضعا للحاكم، بل الحاكم خاضع لمطامحه وأغراضه، فرغم مرور أكثر من قرنين على ما يسمى الدولة الحديثة، ورغم مرور مائة وخمسين عاما على ثورات المصريين من أجل الحكم الدستوري، رغم هذا وذاك، مازالت السيادة لغير الشعب، كانت للباشا وسلالته قبل يوليو 1952 ثم صارت للرؤساء من الضباط حتى يومنا هذا، لو كانت السيادة للشعب، ولو كان الشعب سيدا، ما كانت الجمهورية الجديدة نجحت في إحياء الحكم الفردي المطلق في صورته الأشد قسوة، وما كانت الإرادة العامة قد تقلصت إلى هذا الحد بحيث تقابل العسف من الحاكم بالعجز من الشعب.
***
– إحياء الإرادة العامة يلزمه حصون تحميه، أول هذه الحصون هو الجمهورية ذاتها، جمهورية الشعب لا جمهورية الحاكم، جمهورية الدستور والقانون لا جمهورية كل من يعتقد في ذاته زعيما ملهما وقائدا متفردا، جمهورية الرئيس فيها ينتخبه الشعب دون تزوير وينتقده دون خوف و يراقبه ويحاسبه، ولو شاء الشعب -بالدستور- أن يحاكمه أو حتى يعزله، لا جمهورية الرئيس فوقها وتحتها وعن يمينها وشمالها يحيط بها ويتحكم فيها ويسيطر عليها ويكتم صوتها ويفرغها من كل صوت مختلف ومن كل منافس ممكن أو محتمل، جمهورية لا يتفرغ الرئيس لوأد كل فضيلة فيها وقصقصة ريش كل رجل له معنى وتحطيم قامة كل رجل له قيم.
– ثم ثاني هذه الحصون دستور يستدعي الشعب للحضور من الغياب، يستدعي الشعب ليستخدم الحق الانتخابي في اختيار رئيس الجمهورية والبرلمان. دستور يحمي استقلال القضاء، فبدون قضاء مستقل ينعدم الحديث الجاد عن الإرادة العامة. كذلك دستور يحمي كافة الحريات من العقيدة إلى التعبير إلى الصحافة والإعلام إلى التظاهر والإضراب إلى حرية الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادي وكافة أشكال الإرادة العامة. وللاسف الشديد فإن الجمهورية الجديدة قررت أن تمضي على العكس من كل ذلك، فتحت شعار صحيح وهو “الحفاظ على الدولة وتثبيتها “تبنت سياسات خاطئة استأصلت من الشعب روح الاحتجاج والثورة ثم وأدت في الأفراد المروءة والشجاعة ثم أضعفت مناعة المجتمع ثم أطفأت روح الحياة في قلوب الناس، فهي أقرب ما تكون إلى ما وصف به المؤرخ محمد صبري السوربوني 1890 -1878 عهد الخديو عباس الأول 1849 – 1854 في ص 35 من الجزء الأول من كتابه “الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل” حيث وصفه بالقول “لقد كان عهده هو عهد الصمت، أشاع عباس الفزع والرعب في جميع أرجاء البلاد، وخنق كل شعور بالحرية، ذلك الشعور الذي كان قد بدأ يبزغ في روح المصريين”.
ما قبل عباس الأول كان ديكتاتورية، ديكتاتورية جده محمد علي باشا ثم عمه القائد إبراهيم باشا، لكن ديكتاتورية عباس الأول كانت من النوع الغبي الكئيب التي ترجمت وزنه الشخصي ومواهبه القيادية بالمقارنة مع جده وعمه. كذلك ما قبل الجمهورية الجديدة ديكتاتورية مستقرة من 1952 لكن ديكتاتورية الجمهورية الجديدة تقف في تناقض حاد مع روح الشعب وضميره وليس فقط مع مصالحه وطموحه، ديكتاتورية عابسة الطلعة وقاتمة الطلة وثقيلة الروح تكفهر منها النفسية السوية والذوق العام.
– ثالث هذه الحصون هو التفكيك – بالعمل الدستوري الديمقراطي – لركائز الحكم الفردي المطلق باعتباره العائق الأكبر الذي يصادر الإرادة العامة ومن ثم يلحق الأضرار بالمصالح العامة، فمنذ تأسست الدولة الحديثة عند مطلع القرن التاسع عشر وحتى تأسست الجمهورية الجديدة 2014، والحكم الفردي المطلق يقوم على عدة ركائز: رجل قوي، يضع يده على موارد البلاد، يقضي على المنافسين سواء كانوا من دائرته أو من خارجها، ثم يقضي على المجال العام وينزع السياسة ويحول المواطنين إلى كائنات بيولوجية غير مسيسة، ثم يضع يده على المؤسسات، ثم يزرع رجاله في كل مكان، ثم يحكم من خلال رجاله، مع منع تعدد الولاءات داخل النظام، واستئصال أي مركز قوة نابت أو بازغ. هذا ما فعله الباشا وذريته من بعده حتى 1952، ثم هو هو ما فعله ومازال يفعله الحكام من ضباط الجيش.
الخطر على ركائز الحكم الفردي المطلق يأتي من ثلاث مصادر: ضغط من الخارج، أو فقدان السيطرة على الرجال، أو من أخطاء الحكم الفردي المطلق في كيفية إدارة شؤون البلاد. لنأخذ عدة نماذج:
1- محمد علي باشا جاءه الضغط من الخارج، بقصد تفكيك امبراطوريته ونجحوا في ذلك، ثم بقصد نزع سيطرته عن موارد البلاد التي كان يحتكرها ولم ينجحوا في ذلك، لسبب بسيط هو أنه لم يفقد السيطرة على رجاله وقد كانوا من مماليك أعتقهم أو أقارب استعان بهم أو أجانب يدينون له بالنعمة، ساعده على استمرار السيطرة ما كان له من هيبة، فبقي حتى مات لم يمثل عليه خطرا غير أقرب الأقربين وهو نجله الذي انتزع الحكم من أبيه فلم يحكم غير ستة أشهر ثم مات قبل أبيه الذي لحقه في العام ذاته.
2 – الخديو إسماعيل جاءه الضغط من الخارج بسبب اضطراب سياسته المالية، ثم فقد السيطرة على رجاله، فخلعوا الواحد تلو الآخر الولاء له، وانضموا للضغط القادم من الخارج، فتم التزاوج بين الخارج والداخل بنجاح، فتم نزع أملاكه، ثم تقليص سلطاته، ثم عزله بصورة نهائية.
3 – الرئيس جمال عبدالناصر جاءته الضغوط من تكرار الهزائم في حرب 1956 ثم فشل الوحدة مع سوريا 1961 ثم فشل الحرب في اليمن 1962- 1967 ثم الهزيمة الماحقة في 5 يونيو 1967، كل ذلك كان يكفي لتفكيك نموذج مثالي للحكم الفردي المطلق، لكنه احتفظ بالسيطرة على موارد البلاد، ثم أمكنه السيطرة على رجاله بالتخلص من عبد الحكيم عامر ورجاله في الجيش والمخابرات العامة ومؤسسات الدولة، ثم أمكنه ممارسة أعلى درجات القسوة في مواجهة الاحتجاجات سواء من القضاة أو من الطلبة أو من غيرهم، كانت الهزائم دافعا لتجديد قسوة الحكم الفردي المطلق، ونجح في ذلك حتى آخر يوم في حياته.
4 – الرئيس حسني مبارك جاءته الضغوط من الخارج حيث فقد الأمريكان في استمرار رعايته وكفالته، ثم فقد السيطرة على رجاله في الداخل، حيث غضب الجيش من التوريث، وحيث أدرك الحرس القديم أن التوريث يعني الاستغناء عنهم لصالح الشباب من الحرس الجديد في لجنة السياسات، وحيث كان الحرس الجديد لا سلطة فعلية له على الأرض إلا مجرد الالتفاف حول نجل الرئيس، وحيث لم يقف معه -ساعة الخطر- غير الشرطة من غير حماس ولا همة ولا نفس فأعطت ظهرها للثائرين ثم تركته يسقط إلى الأبد.
****
في حالة الجمهورية الجديدة الوضع يختلف بالكلية، فهي تحتفظ بالسيطرة على موارد البلاد، بل تزداد سيطرتها كل يوم حتى في ظل أزمات اقتصادية محلية ودولية تأخذ بخناق الناس، ثم هي قضت قضاءً مبرما على كل المنافسين سواء مدنيين أو عسكريين وسواء من داخل جهاز الدولة أو من خارجها، ثم هي مكونة -في جوهرها- من عدد محدود جدا من الرجال، يرتبطون بالولاء الشديد جدا للحاكم، وغير وارد فكرة الانقسام أو تعدد الولاءات أو بزوغ مراكز قوى داخل عصبة الحكم، ثم لا يوجد ضغط له معنى من الخارج، فلا ضغط إقليمي ولا ضغط دولي، بل أنجزت تسويات لصالحها مع بؤر توتر سابق مثل قطر وتركيا، وهمشت موضوع السدود الإثيوبية في الفضاء العام، وقضت بنجاح كامل على العنف والإرهاب، وصادرت المجال العام مصادرة كاملة فلا خرم إبرة يمر منه صوت معارض له مصداقية أو له قيمة.
المشكلة في الجمهورية الجديدة ليست فقط في كونها ديكتاتورية، فتاريخنا كله ديكتاتورية، وليست فقط في كونها جاءت بحكم فردي مطلق فتاريخنا مليء بالحكم الفردي المطلق، ولا حتى مشكلتها في مصادرة الإرادة العامة، لكن مشكلتها الكبرى التي تميزها عن غيرها من ديكتاتوريات ومن نماذج الحكم المطلق هو أنها -عن عمد وقصد- تسير عكس الإرادة العامة، عبد الناصر ومن بعده من الضباط كانوا يصادرون الإرادة العامة لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم نوابا عنها وممثلين لها وكانوا يفترضون في أنفسهم أنهم جزء غير منفصل وغير منعزل وغير مستعل عن مجموع الناس، كانوا -نجيب وناصر والسادات ومبارك قبل أن يتقمص دون وعي دور جلالة الملك الوراثي- كانوا يفترضون وشيجة قربى وصلة رحم تربط بين السلطة والناس. الجمهورية الجديدة تتحدى وتتصدى للإرادة العامة وتصدمها في كل عزيز عليها وتسير عكسها بصراحة ووضوح ودون أدنى مواراة أو مواربة. هذا التحدي ثم التصدي ثم الصدام من جانب الجمهورية الجديدة مع الإرادة العامة خلق في أقل من عشر سنوات واقعا كابوسيا على الارض – واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مخيف – بحيث أصبحت الإرادة العامة محشورة بين خوفين:
الخوف من الجمهورية الجديدة.
ثم الخوف مما بعد الجمهورية الجديدة لو كان هناك بعد لها.
***
باختصار شديد: الإرادة العامة بين خوف من بطش ما هو قائم ورعب ما هو قادم. وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى لو كان في الأجل بقية.