ربما كان التوقيت محض مصادفة غير واعية، ذلك الذي جمع بين مشروع الصندوق الاستثماري التابع لهيئة قناة السويس، وحالة التوجس (حتى لا أقول الفزع) لدى الرأي العام من المشروع، وبين الذكرى السادسة والستين لجلاء قوات العدوان الثلاثي على مصر، التي جاءت لاستعادة شركة القناة بعد تأميمها في يوليو عام 1956 .

هذا الوعي الغائب بظرفي الزمان والمكان لذلك المشروع له معان تخيفنا من منهج التفكير والتخطيط السياسي السائد حاليا، لعل أبرزها الغياب شبه الكامل أيضا للذاكرة الوطنية والسياسية، وكأننا جميعا طلعنا نبتا شيطانيا بالأمس فقط من حصى الأرض، ولسنا منحدرين من أصلاب وأرحام رجال ونساء مصر، الذين كانت القناة مأساة وطنهم، ومأساة كل أسرة فيهم، بل ومأساة كل فرد منهم منذ أول فأس ضربت في مجراها، ثم أصبحت بهجة نفوسهم ومفخرة أجيالهم، حين استردوها بقرار التأميم المشهود، بكل كلفته وجوائزه المعروفة للكافة.

فضلا عن انعدام التمهيد السياسي -ومن ثم الإعلامي الجاد -من خلال حوار مجتمعي شامل حول المشروع الجديد، وهو ما أشار إليه كثير من من الزملاء المعلقين، خصوصا بعد أن انبرى رئيس مجلس النواب لنفي الشبهات المثارة حول مخاطره، ورئيس هيئة القناة للشرح والتوضيح والطمأنة، ثم مستشارون سابقون وحاليون… أقول فضلا عن انعدام ذلك التمهيد الذي كان يجب أن يكون سابقا وليس لاحقا، فإن أحدًا لم يكلف خاطره أن يتذكر تصريح وزير المالية (محمد معيط) في مؤتمر اتحاد المصارف الإسلامية بشرم الشيخ في يونيو الماضي، الذي قال فيه “إن البنك الدولي طلب منا إصدار سندات بضمان قناة السويس والسد العالي، ولكننا رفضنا، لأنه ليس معقولا أن أكون صاحب البيت، فأجد نفسي مبعدا منه في اليوم التالي”.

ومع أني لا أستطيع نفي أو تأكيد وجود رابطة بين ذلك المطلب المرفوض الذي أشار إليه وزير المالية وبين مشروع الصندوق الاستثماري المقترح، فإن أبجديات الفهم كانت تقتضي الانتباه إلى أن العقل الجماعي للمصريين سوف يربط تلقائيا بين ما قيل في يونيو، وبين ما أعلن في ديسمبر، بل إنه لا مفر من هذا الربط في العقل الجماعي بسبب احتدام أزمة الفجوة التمويلية بين الاستحقاقات الضخمة العاجلة للدائنين والمستوردين، وبين الموارد المتاحة والمتوقعة في أحسن حالاتها، وكذلك بسبب سابقة الإعلان عن نية بيع سبعة موان ضمن مشروع بيع عدد كبير من الأصول المملوكة للدولة لأجانب، وذلك قبل التراجع عن نية البيع والاكتفاء بالتأجير أو منح حق الإدارة أمام معارضة عارمة من رأي عام يتوجس خيفة على السيادة الوطنية، وعلى أصول الوطن الاستراتيجية، والسبب الأهم هو أنه منذ ذلك التصريح من جانب معيط، وحتى اليوم لم يقل أحد للمصريين مَن أولئك الذين طلبوا عن طريق البنك الدولي توريق سندات بضمان القناة والسد العالي، ولا متى طلبوا، ولا ماذا كانت مبرراتهم، ولم يقل لنا أحد هل أدى رفضنا المشكور لطلبهم إلى تخليهم عنه نهائيا؟ أم أنهم يتريثون حتى تحين فرصة أكثر ملاءمة لهم كالأزمة المالية الراهنة؟

قد يكون الصمت غير مقصود، وقد يكون حلقة من حلقات سوء الأداء السياسي السائد، ولكنه أيضا قد يفسر تفسيرا مريبا.

لذا فإني أتعجب من خبراء ومعلقين ومسئولين لم يجدوا سببا لمعارضة المشروع من جانب بعض الأحزاب السياسية وممثليها البرلمانيين، ومن جانب شخصيات عامة عديدة فضلا عن ثورة الرأي العام سوى سوء النية، والتربص بالحكومة، وذلك في وقت لم تتضمن فيه توضيحاتهم، وكذلك توضيحات المسئولين الرسميين مطالبات أو تعهدات بتعديل نصوص المشروع لسد ثغرات الصياغة، التي يتسرب منها الخوف إلى نفوس وعقول المعارضين، ومن أمثلة ذلك ضرورة النص القاطع الجامع المانع على فصل المجرى وعملية الملاحة الدولية فيه، وسياساتها المالية والأمنية عن الأصول التي يختص الصندوق بالتصرف فيها على أي نحو كان، وكذلك التحديد المحكم للنسبة التي ستقتطع من إيرادات الهيئة لحساب الصندوق، لاسيما وأنها في النهاية ستقتطع أصلا من الموازنة العامة للدولة، ثم هناك أيضا ضرورة النص على صيغة ملائمة لخضوع عمليات الصندوق للرقابة البرلمانية والمالية، بحيث لا تكون سلطة مجلس إدارته مطلقة بلا رقيب ولا حسيب، ثم إن المشروع لا يشير إلى طبيعة علاقة الصندوق بهيئة تطوير إقليم القناة، التي قيل وكتب الكثير عنها، وأنفق الكثر أيضا عليها، دون أن يصل إلى النهاية السعيدة الموعودة، وأخيرا ينبغي النص على كل الضمانات الكفيلة بمنع تطور دور الشريك أو الشركاء الأجانب على حساب الدور الوطني، في ظل حالة من نقص المناعة السياسية بسبب التردي الاقتصادي، واحتمالات الاضطرابات الاجتماعية.

بالطبع هناك فئة من الخبراء تعتقد أن هدف المشروع الحقيقي أبسط كثيرا من المعلن والمكتوب، وهو رغبة الحكومة في تجنيب جزء من إيرادات الدولة للإنفاق منه بعيدا عن شروط صندوق النقد الدولي المتمثلة في وقف العمل في أغلب المشروعات (الكبرى) التي لم تكتمل، أو المتعثرة، والتي لا تدر عائدا حاليا، ولا ينتظر أن تدر مثل هذا العائد قريبا، خاصة وأن النظام يرهن جزءا من مصداقيته بل ومن هيبته عليها، وهنا أيضا ما الضمانات لحسن استخدام هذه الأموال؟

خلاصة هذه الأطروحات والأطروحات المضادة أن الرأي العام المصري يرى في المشروع عرضا جديدا من أعراض الأزمة الاقتصادية ونقص المناعة السياسية، وضعف الذاكرة الوطنية ولا يراه مشروعا يطرح من موقف القوة، كما يقول المؤيدون، ولذا فإما الوضوح الكامل، والضمانات القاطعة، وإما سحب المشروع.

قد يكون من أسباب نقص المناعة وضعف الذاكرة فيما يتعلق بالموقع المحوري لقناة السويس في تاريخ مصر الحديث، ذلك الجدل الحاد ولكن العقيم الذي يندلع في كل عام سواء في ذكرى قرار تأميمها، أو في ذكرى هزيمة العدوان الثلاثي، وهو جدل محكوم بالاستقطاب السياسي حول نظام يوليو 1952، وحول جمال عبد الناصر على وجه الخصوص.

من المفهوم، بل ومن الواجب أن ننتقد، بل وندين كثيرا من سياسات الرجل، وميراثه الباقي معنا، وخاصة معادلة السلطوية القوية ضد المجتمع الضعيف والمحروم من حرية التنظيم والمشاركة، وكذلك القمع والاعتقال والتعذيب، وإجهاض الرأسمالية الوطنية الواعدة، وأيضا الاندفاع في حروب غير ضرورية وغير محسوبة، ولكن ليس من ذلك قرارات تحديد الملكية الزراعية، ولا تأسيس القطاع العام الصناعي، ولا التوسع في التعليم والتشغيل، ولا رعاية حركات التحرير الوطني، وبالطبع ولا تأميم قناة السويس، ومعركة السدالعالي، لأنه ليس صحيحا أن القناة كانت ستعود تلقائيا لمصر بعد انتهاء أجل الامتياز، الذي كان موعده عام 1968، إذ لم يُخرج لنا القائلون بهذا الدفع وثيقة واحدة من أوراق الشركة العالمية تشير إلى استعداد جاد لتسليمها إلى مصر، بل العكس هو الثابت، إذ تكونت في بريطانيا وفرنسا جماعات سياسية وبحثية تستعد للضغط على القاهرة لمد الامتياز، وظل الباحثون المصريون ممنوعين (بالبلطجة) من الاطلاع على أعمال ووثائق الشركة.

فلو كانت بريطانيا صاحبة النصيب الأكبر من الأسهم والمصلحة الملاحية الأهم في القناة بالذات مستعدة لتسليمها لمصر، فلماذا قادت غزوا شاملا لمنطقة القناة بالذات؟ ولماذا فقد أنتوني إيدن رئيس حكومتها صوابه لدى تلقيه نبا التأميم؟! ومنذ متى كانت الدول الاستعمارية مستعدة للتخلي عن احتكاراتها في مستعمراتها السابقة؟ ثم لماذا لا يتذكر أولئك الذين يدينون قرار تأميم القناة قسوة وبجاحة ما فعله الإمبرياليون لإجهاض قرارات الدكتور مصدق بتأميم شركة البترول الأنجلو أمريكية في بلاده؟!

سيقول المكابرون من الناس إن محنة مصدق ليست مقياسا، لأن الشاه كان أول المتواطئين، ولأن الولايات المتحدة كانت متداخلة في المصلحة وفي التآمر، ولكن ذلك تكرر من دولة صغيرة اسمها بلجيكا في الكونغو ضد لومومبا والذين معه، ومن قبله ضد الثورة الكوبية، ومن بعده ضد سلفادور الليندي في شيلي، والحقيقة أن الأمثلة تفوق الحصر .

لقد كان لدي كل من إسرائيل وفرنسا دوافع مختلفة أو إضافية للمشاركة في العدوان الثلاثي على مصر، على نحو ما يعرف الجميع، ولكن بريطانيا لم يكن لها غرض سوى استرداد القناة، والانتقام من ناصر فقط لا غير .

ثم يقولون إننا خسرنا المعركة عسكريا، ولكن من قال إن حسابات التأميم استندت إلى قدرة جيشنا على مواجهة جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل؟ فالثابت أن الحسبة العسكرية استندت إلى عدم توافر إمكانات عسكرية بريطانية قريبا من مصر تمكنها من شن العدوان فور التأميم أو بعده بقليل، مما يضعف احتمالات العمل العسكري مع مضي المدة، كما استندت إلى استحالة تواطؤ بريطانيا مع إسرائيل حفاظا على ما بقي لها من نفوذ في المنطقة، وعلى أن فرنسا المهزومة لتوها في فيتنام والمتورطة في الجزائر لن تغامر للعدوان على مصر دون مشاركة بريطانيا.

هنا أيضا سيقول المكابرون، ولكن هذه الحسابات كانت خاطئة بدليل حدوث العدوان، والحقيقة أن المعتدين هم الذين أخطأوا باستهتارهم بالحسبة المصرية الصحيحة، وبافتراضهم استسلام ناصر وبلده للإنذار بالغزو في اللحظة الأولى، وباستهتارهم باحتمالات المقاومة الشعبية، والتي كانت ستتسع أكثر وأكثر بالتأكيد لو لم يقبل المعتدون قرار وقف إطلاق النار مشمولا بالانسحاب، وتلك هي حيثيات أن معركة السويس لم تكن هزيمة لا سياسية ولا عسكرية لمصر، كما يدعي غير القادرين على فهم أن الموضوع هنا هو مصر، وليس جمال عبد الناصر .

أما النتائج السياسة غير المحدودة لتأميم القناة ومعركته في الداخل في الإقليم وفي العالم فقد يكون لها حديث آخر. ويكفي فقط الآن القول بأن معركة السويس هي التي أسست البداية الفعلية لنظام القطبية الثنائية في العلاقات الدولية، وأنها هي التي أطلقت تيار التحرير الوطني في العالم العربي وفي إفريقيا.

***

إذا كانت الظروف الاقتصادية المترتبة على خطايانا تضعف المناعة السياسية، فالذاكرة الوطنية هي الدواء الناجع لذلك النقص، وهذا ما يفسر رد الفعل الشعبي على مشروع القانون إياه، إلى أن تنجلي الحقائق وتعلن الضمانات.