فيما تنجح إسرائيل رويدًا رويدًا في تقويض النظام العربي التقليدي مع قرب توصلها لتفاهم رسمي كامل مع المملكة العربية السعودية -حسبما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف بينامين نيتانياهو في تصريحات لقناة العربية السعودية منتصف ديسمبر الجاري- يفتح بدوره الباب، حسب الرواية الإسرائيلية المدعومة سعوديًا على نحو غير مباشر، إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية حضر السودان على نحو متصاعد في هذه المقاربة الإسرائيلية ليعيد للأذهان دبلوماسية “منتجع البحر الأحمر” حيث غلف الحضور الإسرائيلي العسكري والأمني في السودان في فترة تهريب “اليهود الإثيوبيين” من بلادهم إلى إسرائيل (في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري) عبر منتجع سياحي سوداني بات شهيرًا وجودًا في الاستثمار السياحي ضمن بدوره تعاونًا إسرائيليًا سودانيًا برعاية أطراف دولية وإقليمية (في ظل إرهاصات اتفاقات السلام الإسرائيلية مع مصر وما تلاها) مقابل شرعنة للنظام السوداني ومنحه شهادة قوامة السلوك دوليًا.
البرهان ونيتانياهو: تفاهم مشروط
بدا، مع تجاوز الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني منذ أكتوبر 2021 الكثير من التحديات والعقبات الداخلية، أن القيادة السودانية قد أصبحت أكثر قدرة على الجهر بتقاربها مع إسرائيل وتعميق مشروع التطبيع السوداني الإسرائيلي، بل والاتساق الكامل مع خطط تل أبيب المعلن عنها قبل أيام بتوسيع نطاق اتفاقات إبراهيم الموقعة قبل أكثر من عامين مع الإمارات والسودان والبحرين والمغرب لتشمل بالأساس السعودية وما يعنيه ذلك من جر السودان للاصطفاف الكامل خلف هذا المشروع مستقبلًا؛ ولم يقتصر الأمر بطبيعة الحالي على تصريحات متفرقة للبرهان (كان آخرها في سبتمبر 2022 بإعلان استعداده لزيارة إسرائيل) بشأن مسار التطبيع، بل تمثل في حضور إسرائيلي ملفت في ديناميات المرحلة الانتقالية التي يشهدها السودان وتم تمديدها لعامين آخرين لتنتهي حسب المقرر مؤخرًا في مطلع العام 2025.
وكما كان اجتماع البرهان بنيتانياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية (فبراير 2020) ممهدًا لإلحاق السودان باتفاقات إبراهيم في العام نفسه فإن التفاعلات الأخيرة في المرحلة الانتقالية والحراك “الشعبي” الذي تمخض عن توقيع “الاتفاق السياسي الإطاري” (مطلع ديسمبر الجاري) ودخول عناصر محسوبة على قوى الثورة السودانية، مثل ياسر عرمان المعروف بصلاته بالاستخبارات الإسرائيلية منذ أكثر من عقد، على خط تبني أجندة “إماراتية- إسرائيلية” في السودان لاسيما فيما يخص ملف إعادة هيكلة القوات المسلحة السودانية يكشف عن عمق الانخراط الإسرائيلي في كافة مدخلات هذه المرحلة الانتقالية، مع الاحتفاظ بورقة هامة في المشروطية الإسرائيلية لضبط سلوك البرهان في السياسة الخارجية وهي التنسيق الكامل مع واشنطن كما تمثل في حرمان البرهان من زيارة واشنطن لحضور فعاليات قمة القادة الأمريكية الإفريقية بها (13-15 ديسمبر) على خلفية “قيامه بانقلاب عسكري” (بعد أن شارك بالفعل في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قبل نحو ثلاثة أشهر) ورهن إعادة إطلاق عملية دمج البرهان في السياسة الدولية بالالتزام بمسار المرحلة الانتقالية كما تراه بعثة الأمم المتحدة والأطراف الداعمة لها (لاسيما اللجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات والسعودية).
بأي حال فإن الارتباطات بين قادة السودان العسكريين وإسرائيل تظل دافئة رغم هذه المشروطية في ظل تمتع إسرائيل في ظل إدارة نيتانياهو المرتقبة بنفوذ مؤثر لدى واشنطن في ملف إعادة تاهيل السودان دوليًا وتظل إمكانية تكرار مساعي الخرطوم لدى إسرائيل كما تم قبيل انقلاب 21 أكتوبر من إرسال البرهان ومحمد حمدان دقلو مسئولين عسكريين وأمنيين رفيعي المستوى لإسرائيل لأهداف عدة من بينها إقامة علاقات استخباراتية وأمنية مشتركة وغلق مكتب حماس في الخرطوم وحث الأخيرة إسرائيل للضغط على واشنطن “لتقبل خطوات البرهان” وإعادة إطلاق مساعداتها المالية بقيمة 850 مليون دولار وكذا مسار إعفاء السودان من ديونه الخارجية.
إسرائيل في ساحل البحر الأحمر السوداني: الوصلة الإماراتية
لم يكن السودان بموارده الطبيعية الثرية ومقدراته الجيوسياسية بالغة الأهمية للمصالح الاستراتيجية الإسرائيلية بمنأى عن التقارب الإسرائيلي الإماراتي المتسارع على نحو غير مسبوق، وتبلورت في زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى (مثل زيارة الرئيس الإسرائيلي اسحاق هيرتزوج لأبو ظبي في مطلع ديسمبر الجاري، وزيارة قرينته ميشال هيرتزوج للعاصمة الإماراتية 21 من الشهر نفسه لمناقشة سبل تعزيز التعاون بين البلدين وقضايا الاهتمام المشترك)، وارتفاع حجم التبادل بين البلدين في العام الجاري حتى نهاية نوفبر إلى 2.36 بليون دولار (مع استبعاد قطاع البرمجيات الذي يشهد حراكًا هائلًا تمثل في منتصف ديسمبر الجاري في عقد قمة “القبة الحديدية السيبرانية” في البحرين بحضور إسرائيل والإمارات والمغرب والبحرين ومشاركة مسئولين من الكويت وعمان)، وضخ الشركات الإماراتية استثمارات هائلة في السوق الإسرائيلي في قطاعات التأمين والطاقة والبيئة والتجارة الرقمية بهدف رفع التجارة البينية بينهما إلى 10 بليون دولار أو أكثر “في غضون خمسة أعوام”.
ولا يمكن فصل مسار توقيع السودان منتصف ديسمبر على اتفاق بقيمة 6 بليون دولار مع كونسرتيوم بقيادة مجموعة موانئ أبو ظبي وانفيكتوس للاستثمار Invictus Investment لتطوير ميناء ومنطقة صناعية جديدين على سواحل البحر الأحمر (تحديدًا ميناء أبو عمامة شمال ميناء بورسودان الرئيس للسودان) عن الخطط الإماراتية الإسرائيلية لتطوير تعاونهما الاقتصادي، لاسيما أن المشروع يشمل إقامة منطقة صناعية ومطار دولي ومنطقتين زراعية وتجارية على مساحة تتجاوز 400 ألف آكر (1620 كم مربع) ويتضمن بنية أساسية لنقل البترول من جنوب السودان عبر الميناء لتصديره بمساهمة كبرى شركات القطاع الخاص في السودان “دال جروب” (المملوكة لرجل الأعمال أسامة داود عبد اللطيف)، وفي سياق الرؤى الإقليمية والدولية الراهنة لمستقبل حوض البحر الأحمر بالكامل كمنطقة اقتصادية “فرعية”.
كما لا يمكن فصل نفس المسار عن القمة الاقتصادية “العربية- الإسرائيلية” التي أعلن عن قرب اكتمال الاستعدادت لعقدها مطلع العام المقبل برعاية واشنطن وستضم جميع الدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل في أجواء توتر “إقليمي” مكتوم كشف عنه تقرير أخير لموقع Axios الأمريكي المعروف بصلاته الاسخباراتية (21 ديسمبر 2022) حول تحفظات مصرية لتطبيق “اتفاق تيران وصنافير” على نحو متشابك (ضمن اعتبارات أخرى) مع السياسات الأمريكية والإسرائيلية -وبدرجة أقل السعودية- في البحر الأحمر، حسب التقرير. وربما تشير قراءة المشهد الحالي، بما في ذلك إطلاق الخرطوم وأديس أبابا (التي تتمتع حكومتها بعلاقات استراتيجية وطيدة مع كل من أبو ظبي وتل أببب) مفاوضات جادة للتعاون الاقتصادي لاسيما في قطاع النقل والبنية الأساسية لربط البلدين في توقيت ملفت بإثارة الأخيرة مجددًا تصريحات حول ملء بحيرة سد النهضة، إلى توجه سوداني أكبر نحو “معسكر التطبيع الجديد” وإعادة ترتيب سياساته الإقليمية نحو تعاون أوثق مع إسرائيل (ستتضح ملامحه بعد أسابيع قليلة عقب بدء حكومة نيتانياهو مهامها بعد إعلانه قبل نهاية ديسمبر الجاري اختتام مشاورات تشكيلها بالفعل)، ومشروعات التعاون الاقتصادي الإقليمية (في البحر الأحمر) في ظل توفر دعم استثماري خليجي غير مسبوق للسودان منذ عقود في واقع الأمر، ومؤشر إلى مرحلة مقبلة مغايرة تمامًا في الحضور الإسرائيلي في السودان -وسواحله بشكل خاص- على البحر الأحمر.
إسرائيل والمرحلة الانتقالية: “مبدأ نيتانياهو”
بعد لقاء نيتانياهو بالبرهان في عنتيبي، التي شهدت مقتل شقيق الأول في عملية كوماندوز إسرائيلية ضد مختطفي طائرة أير فرانس في يوليو 1976، بدا واضحًا أن دبلوماسية نيتانياهو في السودان قد نجحت تمامًا في تحقيق الاختراق المطلوب في واحدة من أبرز دول “الممانعة” العربية من جهة ربط ملف تطبيع العلاقات بينهما بمسارات داخلية وخارجية أبرزها الضغط لدى واشنطن (التي توسطت بدورها في تقريب رؤى تل أبيب والخرطوم) لرفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وضمان سلاسة المرحلة الانتقالية (بدعم سياسي واضح لقيادة المرحلة الانتقالية حتى في ذروة إرهاصات الانقلاب أكتوبر 2021)، وما تكشف لاحقًا من ضغط إسرائيل على بعض وجوه “المعارضة السياسية” وقوى الحرية والتغيير لتمرير أجندة تمديد المرحلة الانتقالية ريثما يتم ترتيب الأوضاع الإقليمية الراهنة، وتوجيه الزخم الثوري بمجمله لصالح هذا التمرير.
ويتوقع مع إحكام نيتانياهو قبضته على الحكومة المقبلة داخليًا، وما تشير له مؤشرات راهنة من حصوله على دعم إقليمي ودولي قوي مثلما يتردد راهنًا عن مساعي إدارة جو بايدن اقناعه بشمول السلطة الفلسطينية في “القمة الاقتصادية” الإسرائيلية العربية المرتقبة في الربع الأول من العام 2023، أن يعمق الأول نفوذ بلاده في السودان على كافة المسارات الاقصادية والسياسية والأمنية والعسكرية (التي تشهد بالفعل تطورات ملموسة منذ منتصف العام 2021).
ويساعد نيتانياهو في ذلك خطط التعاون الاقتصادي مع الإمارات التي يتوقع أن تشهد قفزات هائلة ربما تتجاوز الأرقام المستهدفة حال قدرتهما على دمج السودان، بمقدراته الطبيعية والجيوسياسية بالغة التنوع والأهمية، في هذا المسار؛ وتعاظم أهمية السودان لدى الولايات المتحدة وأبرز شركائها الإقليميين في ملفات مواجهة الإرهاب والاضطراب السياسي ومواجهة النفوذ الروسي في وسط إفريقيا وإقليم الساحل وإلى حد ما في القرن الإفريقي، الأمر الذي تسعى إسرائيل –وفق مبدأ نيتانياهو المجرب في إفريقيا بدمج الأدوار الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بمصالح الولايات المتحدة المباشرة في اقليم- لتوظيفه وضمان إلتزام النظام السوداني الكامل بمقتضياته.
ويتيح الامتداد الزمني الراهن للمرحلة الانتقالية (المقرر مبدئيًا وفق الاتفاق السياسي الإطاري أن يمتد حتى مطلع العام 2025 الذي يصادف نهاية إدارة جو بايدن) دورًا إسرائيليًا فاعلًا في هذه المرحلة؛ وقدرة أكبر على “الاحتواء المزدوج” للمكون العسكري وبعض المنتسبين لقوى الحرية والتغيير (مع توقع عودة الدور الإثيوبي) في ظل عدم ممانعة عربية لهذه المساعي الإسرائيلية. كما أن ملف الديون السودانية ومساعي الخرطوم إعادة إطلاق مسار إعفائها من نحو 50-60 بليون دولار ديونًا سيتطلب تنازلات سودانية كبيرة للغاية في العلاقات مع إسرائيل عوضًا عن استكمال خطوات المرحلة الانتقالية بالتوازي مع خطوات أكثر وضوحًا ومؤسساتية في عملية “التطبيع” الإسرائيلي السوداني.
خلاصة
فيما يشهد “إقليم البحر الأحمر” تطورات سياسية واقتصادية مهمة تبرز فيها إسرائيل كقوة فاعلة وواضعة لأهم محدداتها فإن الدور الإسرائيلي في السودان يحقق اختراقات غير مسبوقة على الأرض بفضل تشابك المصالح مع أطراف خليجية عوضًا عن الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، وخفوت دور شركاء آخرون للسودان رغم حساسية المرحلة الراهنة. ويتوقع -بشكل كبير- أن تشهد رئاسة بنيامين نيتانياهو لحكومة بلاده في أوائل العام المقبل إسراعًا وتوسعًا غير مسبوقين في التطبيع مع السودان وتجسيدا عمليا لمقولة نيتانياهة الساخرة عشية إطلاق عملية التطبيق قبل أكثر من عامين بأن اللاءات السودانية الثلاث الشهيرة تحولت إلى “نعم ثلاثية للسلام”، وأكثر دلالة على قرب تحقيق مشروع إقامة نظام إقليمي فرعي في حوض البحر الأحمر يهمش دولًا ويعظم من شأن أخرى بما يتجاوز حدودها التقليدية.