لا يجب التعامل مع تجربة الرئيس التونسي، قيس سعيد، بأنها فقط تمثل انتقاصا من الديمقراطية ولا قيدا على حركة الأحزاب السياسية ولا دستور جديد فيه مواد تكرس الحكم الفردي، ولا أنها عرفت انتخابات تشريعية قاطعتها معظم الأحزاب، وبلغت فيها نسبه المشاركة حوالي 11%، إنما هي جزء من أزمة أعمق تمثلت في رفض السياسة والأحزاب والنخب، وعرفتها أكثر من خبرة عربية، فظهرت في مصر 2013، والعراق منذ حراكها الشعبي قبل جائحة كورونا، وتبلورت في تونس في مشروع الرئيس الحالي.
والحقيقة، أن ما ميز خطاب قيس سعيد إنه كان أكثر وضوحا من كثيرين، واعتبر أن السياسة والأحزاب السياسة لا تنجز ولا تعمل لصالح الوطن إنما لمصالحها الضيقة ولمكاسب قادتها، وإن البلاد في حاجة إلى منقذ أو مخلص لن يستطيع أن يقوم بمهامه، إلا إذا قال”كفاية سياسة”، وعلينا أن نؤسس لحكم مركزي قوي يدافع عن مصالح الشعب ويحقق الإنجازات المطلوبة، ويطوي صفحة ثرثرة السياسيين والأحزاب.
والحقيقة، أن ما فعله الرئيس التونسي منذ قراراته الاستثنائية في 25 يوليو من العام الماضي كان مغلفا بمشروع “كفاية سياسة” وحان وقت إنقاذ البلاد.
وقد بدأت الأزمة السياسية في تونس في نوفمبر 2011 في ظل حكم قادته حركة النهضة مع حزبين مدنيين أقل قوة وتأثيرا، ثم كتبت النخب والأحزاب السياسية دستورا هجينا أقرب للنظام البرلماني ظل مصدرا لأزمات سياسية كثيرة.
وجاءت انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية وأسفرت عن عدم حصول أي حزب على أغلبية، ودخلت البلاد في مكايدات سياسية وحزبية بصورة جعلت النطام عاجزا عن الفعل والإنجاز.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية واكتسحها الرئيس قيس سعيد، إذ حصل على حوالي 75% من أصوات الناخبين، وبدت البلاد وكأنها على أعتاب مرحلة استقرار بعد إتمام الاستحقاقات الانتخابية.
ولم تدم هذه اللحظة المبشرة كثيرا، حيث دخلت تونس في أزمات متتالية نتيجة ضعف الصلاحيات الممنوحة للرئيس المنتخب من الشعب، وتنازعها مع صلاحيات رئيس الوزراء المنتخب من البرلمان، وأصبحت السلطة التنفيذية برأسين: رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية مما أصاب النظام بالشلل والعجز.
والحقيقة، أن شعور قطاع واسع من الشعب التونسي بعجز منظومة الحكم الدستورية والسياسية على تلبية احتياجاته دفعته لدعم قرارات الرئيس سعيد الاستثنائية في 2021، ثم تصويت حوالي 27% من الشعب التونسي في شهر يوليو الماضي لصالح الدستور الجديد، حيث بلغت نسبة المؤيدين حوالي 94% من إجمالي المصوتين، وجاءت الانتخابات التشريعية في هذا الشهر لتشير إلى تشكك الناس في مشروع الرئيس (إلغاء السياسة)، حيث بلغت نسبة المشاركة ما يقرب من 11% وشهدت فوز 10 مرشحين بالتزكية لعدم وجود منافسين.
مسار الأعوام الخمسة الأخيرة في التجربة التونسية يقول إن هناك أزمة عميقة في أداء الأحزاب السياسية، وأن هناك أزمة أخرى بسبب محاولات حركة النهضة الهيمنة على النظام السياسي، وهناك عجز في حل مشاكل الناس كل هذا المشهد دفع البعض أن يقول إن الحل في إلغاء السياسة.
والحقيقة، أن الصورة التونسية ربما تكون أكثر وضوحا من تجارب أخرى وأكثر سلمية. كما أن الرئيس الذي رفع شعار “كفاية سياسة” و”كفاية أحزاب” لم يغلق المجال السياسي، ولم يطارد الأحزاب التي يكرهها وينتقدها كل يوم، إنما ظل قادتها ينتقدون الرئيس ويتظاهرون ضده ويصف بعضهم إجراءته بـ”الانقلابية”.
خطاب “كفاية سياسية” رفع أيضا في مصر في 2013 وعقب معاناة قطاع واسع من الناس من الفاعليات الثورية والمظاهرات اليومية وخطر الفوضى والمواجهات الأهلية مع حكم الإخوان. فكان التعثر الاقتصادي والانقسام السياسي هو طريق الناس لتقبل مشروع “إلغاء السياسة” وتهميش الأحزاب وفرض قيود صارمة على المجال العام والسياسي.
تعثر حكم السياسيين يجعل البعض يتصور أن الحل في إلغاء السياسة وإنهاء دور السياسيين، وأن هناك مخلص سينقذ البلاد مما هي فيه برفض السياسة والسياسيين، فيكتشف الجميع أن هذا المخلص الذي قال “كفاية سياسة” يمارس السياسة فيضع دستورا جديدا (سياسة)، ويقترض من صندق النقد لدعم اختياراته الاقتصادية (سياسة)، ويجري انتخابات باهته معروف نتائجها سلفا (سياسة)، ويرفض الحوار مع الأحزاب والنقابات (سياسة)، أي أن من قال إنه سيلغي السياسة لصالح “إنقاذ الوطن” سيكتشف الجميع إنه ورط الوطن، فلا يمكن أن يتخيل أحد أن بلد شهدت ثورة ملهمة مثل تونس وحياة سياسية صاخبة تشهد انتخابات برلمانية لا يشارك فيها مايقرب من 90% من المواطنين، وفق النتائج الرسمية.
نظرية إلغاء السياسة لصالح المنقذ كذبة كبرى؛ لأن أي مشروع إنقاذ هو في ذاته سياسة، وهذه “النظرية” سرعان ما تتحول إلى تحصين لقرارات وانحيازات هي في قلب السياسة.
وربما تكون أهمية التجربة التونسية في فرصتها الكبيرة والقريبة في العودة للسياسة الشرعية والديمقراطية، فهي من ناحية واجهت مشكلة دستور هجين أصاب البلد بالشلل ووضعت دستور رئاسي وارد تعديله ليصبح دستور نظام رئاسي ديمقراطي، كما أن الأحزاب والقوى السياسة لم تشطب ولم يعتقل قادتها، بما يعني أن بعضها يمكن أن يقدم مرشح رئاسي في 2024 وربما يفوز على الرئيس الحالي. كما أن هناك الاتحاد التونسي للشغل الذي لديه قاعدة اجتماعية حقيقية، وله دور حاسم في إخراج البلاد من كثير من أزماتها السياسية.
إلغاء السياسة وهم كبير وقد يكون غطاء لإخفاء أخطاء سياسية فادحة، وتبرير الاستبداد. وكما كانت هناك مبررات لمشاريع إلغاء السياسة في العالم العربي فإن هناك مبررات أقوي لعودتها.