“لا أريد أن أستفزك ولا أبحث عن إثارة غير أن تعليق ياسر عرفات على ما وصفته بأنه سلام أمريكي يدعو إلى التساؤل عما إذا كان هناك جانب شخصي؟”.
اقرأ أيضا.. “صندوق قناة السويس”.. بوابات الجحيم
بدأت أتلو على مسامعه نص تصريحات “عرفات”، التي نشرتها مجلة “المصور” صباح نفس اليوم.
وصف كتاباته بأنها “أتفه من أن يرد عليها”، وأنه “قرأها للتسلية”، واتهامات أخرى نالت من شخصه كالقول بأنه “يتعلق في حبال الوطنية من بعيد في أمريكا”!
ابتسم بثقة باديا أمامي رجلا قدراته الفكرية تسانده في ترتيب أفكاره وطرح حججه.
“أنا لا أفهم أين يكمن الاتهام في مقولة أنني أعيش في أمريكا.. أنا فعلا أعيش في أمريكا والكثير من الجهد المتواضع الذي قمت به لنصرة قضية شعبي قمت به منطلقا من موقعي كفلسطيني يعيش في المنفى، وهو وضع لابد أن عرفات يعلم أنه لا يقتصر علىّ وحدي بل يشمل القطاع الأكبر من الفلسطينيين”.. “أما عن قوله بتفاهة ما جاء في كتاباتي عن سلام أوسلو فإنني أترك للقارئ الحكم على قدرة كل منا على فهم النصوص وتفسيرها”.
في اختبار الزمن تأكدت صحة رؤيته ونبوءاته، كأنه كان يقرأ كتابا مفتوحا.
“هناك خلاف موضوعي وحقيقي بين قراءتي للتاريخ الفلسطيني وقراءته لهذا التاريخ”.. “ربما تصور عرفات أنه عقد صفقة، غير أني أتصور أن تلك الصفقة يروج لها بمغالطات وتزييف للحقائق مثل أن يقول أبو مازن إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الفلسطينيين التي يحكمون فيها أنفسهم!”.
“إن عملية تزوير التاريخ الفلسطيني لم تعد قاصرة على الإسرائيليين، بل أصبحنا طرفا في نفس عملية التزوير”.
بقوة الحقائق الماثلة فإن “أبو مازن” نفسه لا يستطيع الآن مغادرة رام الله إلا بموافقة إسرائيلية مسبقة على جواز سفره، على ما روى لي ذات مرة بحسرة شديدة.
إنه “سلام بلا أرض”.. هذه حقيقة لا يجادل فيها فلسطيني اليوم.
قال: “الحكم الذاتي أداة للاحتلال الإسرائيلي”.. وهو ما ثبتت صحته بصورة نهائية.
لم يستبعد احترابا أهليا، أو تفجيرا داخليا: “أنا لا أتمناه لكن واجبى يحتم على أن أواجه نفسي والآخرين بالحقيقة”.
هذا ما جرى لاحقا في الانقسام الدموي ما بين غزة ورام الله، فتح وحماس عام (2007).
وكان أسوأ ما جرى بعد أوسلو تقويض منظمة التحرير الفلسطينية وتفكيك وحدة الشعب والقضية والتوسع الاستيطاني بصورة أكثر شراسة على ما توقع.
هكذا تحدث المفكر الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد” أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية.
كان الجو السياسي ملبدا بعواصف التحولات والسؤال الرئيسي: ما مستقبل القضية الفلسطينية؟
لم يكن وحده من عارض اتفاقية “أوسلو” وارتفع صوته منتقدا نصوصها.. فقد ارتفعت أصوات كثيرة في العالم العربي تعلن رفضها غير أنه كان الأشد تأثيرا ورؤيته الأكثر إحكاما.
وظف حضوره الدولي المؤثر لصالح قضيته، فكل أكاديمي، أو مثقف غربي تأثر بدرجة، أو أخرى بإسهاماته في “الاستشراق” و”تغطية الإسلام” و”الثقافة والاستعمار” ويعرف قدره كأحد المفكرين الكبار في عصرنا.
فوجئ كثيرون بالنقد الجذري الذي قدمه لاتفاق أوسلو، فقد ظل لفترة غير قصيرة من أبرز مقربي الزعيم الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات”.
إنها مسألة ضمير مثقف يلتزم قضية شعبه قبل وبعد كل شيء.
اتسق “المغترب” كما عنون مذكراته مع ذاكرة شعبه وحقه في تقرير مصيره.
في يناير (1995) وصلت مساجلاته مع “عرفات” إلى ذروة حدتها.
عندما التقينا لإجراء حوار صحفي، كان مقررا ألا يزيد وقته عن ساعة بالنظر إلى حالته الصحية إثر إصابته بالمرض اللعين، لكنه امتد لخمس ساعات، فقد كانت قضية عمره على المحك.
“إذا أمعنت في قراءة نص أوسلو فسوف تجده يقول إن من حق القوات الإسرائيلية أن تدخل أراضي الحكم الذاتي لو اعتقدت، أو استشعرت أن مصالحها مهددة، وهو نص يكفل لإسرائيل من الناحية الواقعية فرض سلطة الاحتلال المباشرة في أي وقت تريد وممارسة حق القتل عندما تقرر ذلك”.
استخدمت إسرائيل بالفعل “حق القتل” في التخلص من عرفات نفسه وفي اغتيالات منهجية كثيرة لقيادات سياسية وعسكرية من منظمة التحرير الفلسطينية وداخل حركتي “حماس” و”الجهاد”.
ما يحدث الآن في الضفة الغربية من اغتيالات واقتحامات للبيوت واعتقالات وترويع للسكان المدنيين تأكيد على صحة رؤيته المبكرة.
“إن عرفات لم يعمل على فهم الإسرائيليين، أو لم يرغب في فهمهم على حقيقتهم، بتصوراتهم وأهدافهم ووسائلهم في التفاوض”.
“هناك حالة من التوقف عن الفهم، وهذه ليست قضية كفاءة أو عدم كفاءة فقط. هناك جوانب أخرى خطيرة في الموضوع”.
“- التواطؤ مثلا؟”.
“ممكن، ودعني أعطيك أمثلة: هل من المعقول أو من المقبول أن تقوم بصياغة اتفاقا مع إسرائيل، وتوقع عليه دون أن يكون معك مستشارا قانونيا!”.
“ما هو تفسير هذا السلوك إلا أنه استهتار بالمصير الفلسطيني يصل إلى حد التواطؤ عليه”.
كمثال آخر: “لم يكن المفاوضون الفلسطينيون في أوسلو، وأنا أعرفهم جيدا، يتقنون اللغة الإنجليزية التي يتفاوضون بها”.. “إذا كنت تريد أن تعقد اتفاقا مع إسرائيل فلابد أن تعرف أنها سوف تأخذ ما توقع عليه على محمل جاد ولن يمكنك التراجع إلا لمزيد من التراجع”.
“عليك أن تلاحظ أن اتفاق أوسلو لا توجد به جملة واحدة تشير إلى حق تقرير المصير الفلسطيني”.
كان مقتنعا إلى أبعد حد أننا بصدد هزيمة استراتيجية لا يصح أن تسوق كـ”إنجاز هام وانتصار يستحق الاحتفاء به” وأن أوسلو أقرب إلى خليط من “قلة الكفاءة” و”تواطؤ السياسة”.
بصياغة أخرى، تورط “عرفات” ومن معه في خديعة إسرائيلية كاملة، خدعت نفسها بأكثر مما خدعها الإسرائيليون.
“إذا سألتني إذا ما كان بمقدور هذه القيادة أن تبلور رؤية جديدة، أو أي رؤية للمستقبل أقول لك على الفور بالقطع لا”.. “إن خطأ القيادة الأساسي أنها قبلت بالمرحلية دون تحديد للنهايات، بمعنى أنها قبلت مشروعا مرحليا دون إرساء الأسس، أو السياق العام للحل النهائي. وهو الأمر الذي أدى عمليا إلى إلغاء الطموحات الفلسطينية”.
في ذلك اليوم البعيد توقع أن يحدث شللا في القيادة الفلسطينية، وأنه من الصعب للغاية أي فصل بين رئاستي السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية على ما كان يدعو وقتها عدد من الرموز الفلسطينية”.
هذا ما حدث بالضبط.
“كيف تنظر لمستقبل حماس، وهي تيار عريض، وله شعبية وحضور مقاوم؟”.
“حماس فعلا حركة مقاومة ضد الاحتلال، وحركة احتجاج فلسطيني.. لكن إن سألتني كمواطن فلسطيني، إذا ما كانت تمثل بديلا حقيقيا على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية أقول لك فورا وبلا تردد: لا”.
“السبب هو أنني لا أعرف لحماس رؤية فلسطينية، أو قراءة للتاريخ الفلسطيني، خارج العموميات”.
“إنهم شجعان ولديهم إرادة غير أن قضية تمثيل الشعب الفلسطيني بأكمله، أو بناء تيار رئيسي ديمقراطي.. أهم وأبعد مما تحتمله حماس، أو أي فصيل بمفرده”.
كانت تلك نظرة بعيدة أثبتت صحتها في اختبار الزمن.
“أسمح لي يا دكتور سعيد ألا ترى مفارقة بين موافقتك في دورة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر (1988) على قرار الاعتراف بدولة إسرائيل وبين معارضتك لأوسلو؟”
قال: “كيف؟”.. أجبته: “عندما تقرر بإرادة منفردة ودون تفاوض أن تعترف بإسرائيل.. فعليك أن تتوقع عندما تبدأ المفاوضات بموازين القوى التي تتحكم فيها أن تقدم تنازلات أخرى أفدح”.
صمت قليلا قبل أن يطلب وقتا للتفكير، وأنه فور عودته إلى نيويورك سوف يكتب إجابته ويرسلها لي.
كانت الإجابة نموذجا لاستقامة المفكر الموسوعي وقدرته على المراجعة بروح نقدية لا تبرر، أو تلف وتدور حول موضوعها.
كتب نصا: “ربما كان على أن أمتنع عن التصويت على قرار دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، ولكنى على الرغم من موافقتي على هذا القرار أبديت معارضتي العلنية للعديد من التطورات اللاحقة.. فقد أعلنت عدم موافقتي على ما قام به عرفات في ديسمبر 1988 عندما نطق في جينيف بالعبارات التي طلبتها منه الولايات المتحدة كشرط لقبول التحدث مع منظمة التحرير.. وأبديت معارضة أشد له عندما أعلن بباريس في مارس 1989 أن الميثاق الوطني الفلسطيني أصبح باليا”.. “لكن هذا الذي أقوله الآن مردود عليه بأنه من السهولة أن نعيد التفكير فيما مضى ونستغرق في تفكيك وإعادة بناء التاريخ على النحو الذي يتفق مع رغباتنا النفسية خاصة إذا ما كان هذا التاريخ قد مضى في الاتجاه الخطأ.. أنا على أية حال احترم نفسي والتاريخ بالقدر الذي يجعلني منتبها لسذاجة هذا الأمر”.. “أنا عندما صوت في الجزائر موافقا على مشروع الدولتين لم أكن اتصور إمكان حدوث ما جرى، ولكنني الآن على ضوء ما تكشف لاحقا أتقبل تماما مراجعة العديدين لما حدث عام 1988 ولا أجد غضاضة في الاعتراف بأنني قد أكون أخطأت بتصويتي آنذاك وأن ما كنت أراه صوابا لم يكن كذلك”.
رغم المراجعة الشجاعة لرجل في مثل مكانته بدا متسقا مع نفسه في تأكيد مرارته السيكولوجية من ضياع الهدف القديم لمنظمة التحرير في إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين.