مشهد متكرر: أشرتُ لإحدى سيارات التاكسي من أجل مشوار قصير. أدفع عادة في هذا المشوار حوالي 20 جنيها. وكالعادة، أو كما في أغلب الحالات؛ العداد لا يعمل. يسألني السائق قبل أن يتحرك عن المبلغ الذي أدفعه في هذا المشوار؟ آخذ في الحسبان الزحام وتضخم الأسعار الأخير فأجيبه: ثلاثون جنيها. يقول: خلّيهم أربعين. أرفض، فهذا ضعف المقابل الحقيقي. أنزل من السيارة وأبحث عن غيرها. وأثناء نزولي أقول له: لو كنت قلت لك إني أدفع أربعين جنيها، لقلت لي “خليهم خمسين”، أليس كذلك؟ هز كتفيه وهو يقول شيئا لم أسمعه جيدا في ضجيج الشارع، ولكن أعتقد أنه كان شيئا على غرار “هذه سيارتي” و”إنت ما اشتريتنيش” أو كلام من هذا القبيل.

اقرأ أيضا.. بين الفشل والمؤامرة

قد يبدو مثل هذا الكلام، أو مثل تلك الشكوى، ليست أفضل ما يقال في التوقيت الحالي الذي نسمع فيه كلاما مغرضا في الإعلام يبرر كل المشكلات الاقتصادية بـ”جشع التجار” و”المضاربات”.. إلخ لتبرير التخبط الاقتصادي، لكني لا أؤمن بأن هناك وقت أفضل من غيره للحديث عن أي مشكلة، خصوصا إذا كانت مشكلة عامة، ومن اللافت جدا، حتى قبل التضخمات السعرية الأخيرة، بل حتى أيام “أبو علاء” و”الأنبوبة أم خمسة جنيه” أن مغالاة سائق التاكسي –كنموذج– في طلب مقابل خدمته، هي مشكلة تكاد تكون دائمة أو شبه دائمة، وبالطبع إذا كان الزبون الرجل يعاني منها قيراطا، فالزبونة المرأة تعاني منها ثلاثة قراريط، أما بقية قراريط المعاناة فتذهب بالطبع إلى السائح الأجنبي، الذي كثيرا ما يشكو من اضطراره لدفع مبالغ غير معقولة، لمجرد أنه لا يعرف الأسعار الحقيقية، فيتم “استحلاله” إلى أبعد مدى.

بالطبع  فإن الدولة، ممثلة في التطبيق المفترض للقانون، ينبغي دائما أن تكون الحاجز الأول أمام ممارسات كهذه، ومثل كل فعل آخر “يأمن من يمارسه العقاب فيسيء الأدب”، كما يقول المثل الشهير، تزداد الممارسات السيئة حين تغيب المحاسبة، وربما كان وجود إمكانية الشكوى في تطبيقات سيارات الأجرة الحديثة، والتي تتيح على الأقل تعويض الركاب ماليا عند تعرضهم لخبرات سيئة مع السائقين، هي ما يمنح مثل تلك التطبيقات ميزة نسبية عن سيارات التاكسي العادية، رغم ما تشهده من محاولات لبعض السائق لممارسة “الاستنصاح” على الركاب أحيانا وعلى الشركة نفسها أحيانا أخرى.

لكن ما أحاول تناوله هنا، بخلاف مسألة القانون والعقوبات والتعويضات، هو الثقافة العامة، قبل أشهر شاهدت مقطع فيديو لأحد السائحين الأجانب ممن يصورون مقاطع فيديو لرحلاتهم وينشرونها على موقع يوتيوب، في أحد شوارع القاهرة كان السائح  يحاول شراء حبة من التين الشوكي، لم يكن يعرف ثمنها “الذي لا يزيد عادة عن خمسة جنيهات”، أمام كاميرا السائح، شاهدنا البائع الشاب على عربته، يتقاضى خمسين – أو ربما  مئة جنيه حسبما أتذكر-  مقابل حبة التين الوحيدة! بالطبع، كتب مشاهدو الفيديو عشرات التعليقات يخبرون السائح أنه تم خداعه، البعض اعتذر منه والبعض أبدى اشمئزازه.

في كل مكان في العالم ثمة أسعار سياحية تزيد –بعض الشيء– عن أسعار أهل البلد، تتعلق تلك الأسعار عادة بوجود الباعة ومقدمي الخدمة في أماكن مرتفعة التكلفة تتطلب رفع السعر، أي أن ارتفاع السعر – المحسوب – يكون لتعويض التكلفة لا لتقاضي سعر أكبر لمجرد أنك أجنبي. لو اشتريت سلعة من محل في قلب مانهاتن بنيويورك أو على ضفاف نهر السين في باريس فإنك ستدفع السعر نفسه سواء كنت أمريكيا/ فرنسيا أو كنت أجنبيا من قارة أخرى، لن يقدم البائع سعرين مختلفين لأنه في “منطقة سياحية”، وكذلك الأمر لو أنك تشتري السلعة من محل في الضواحي البعيدة “غير السياحية”، حيث سينخفض سعر السلعة لكنه لن يختلف حسب جنسية المشتري. أما ازدواجية السعر، ومحاولة تحصيل أكبر مبلغ ممكن عن طريق “الفهلوة”، فهو بالإضافة إلى أنه يسبب مشكلات اقتصادية ويؤثر بالطبع على السياحة وعلى الدخل المنتظر منها، فإنه قبل ذلك ذلك مشكلة أخلاقية لا نعطيها القدر اللازم من الاهتمام.

على الرغم من أن القرآن يخاطب الناس “ألا تطغوا في الميزان”. إلا أن الناس عادة يفهمون ذلك بالمعنى الحرفي، فيفترضون أن المقصود ميزان البائع والنصف كيلو والربع كيلو، لكن “غش الميزان” مفهوم أوسع من ذلك، إنه سائق التاكسي الذي يحاول تقاضي ضعف المقابل العادل لخدمته، وبائع التين الذي باع بضاعته للسائح بعشرة أضعاف وربما عشرين ضعف ثمنها، وهو – بمواصلة الكلام عن السياحة – صاحب الأحصنة والجمال في هضبة الهرم حين يحاول تقاضي آلاف الجنيهات من السياح مقابل خدمة لا يتجاوز سعرها الرسمي – مع المجاملات والبقشيش والحلاوة والإكرامية – عدة مئات من الجنيهات. إن ذلك كما أسلفنا يعود بالسلب في النهاية على الاقتصاد كمن يطلق النار على قدمه، لكنه يبقى في العمق مسألة أخلاقية وفكرية، إذ يبدو أن أحدا لا ينتبه أن الربح  لا ينبغي أن يجور على حق المشتري فيظلمه ويخدعه، فذلك يحول التجارة حتى لو كانت في سلعة حلال إلى مكسب حرام. أو هكذا ينبغي أن نؤمن.

ولهذا فإن مشهد سائق التاكسي الذي يشغّل إذاعة القرآن طوال الطريق لكنه لا يشغل العدّاد هو مشهد شائع جدا في شوارعنا، إنه لا يشعر بأي تناقض، ولو قلت له إن تشغيل العداد أهم عند الله من تشغيل إذاعة القرآن لنظر إليك كأنك مجنون، أو في أحسن الأحوال كرجل يتكلم بلغة لا يعرفها.