صدق البرلمان التركي على اتفاقية للتعاون العسكري مع تشاد، وتتضمن إطار عمل يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات المشتركة والتدريب واللوجستيات، وتأتي الاتفاقية في ضوء تنامي التعاون العسكري الواضح بين تركيا والدول الإفريقية في الفترة الأخيرة، إذ تعمل تركيا على ربط الدول الإفريقية من خلال إبرام اتفاقيات عسكرية وأمنية كما هو الحال مع ليبيا والسنغال وتوجو، وكذلك رفع معدلات تصدير الأسلحة على رأسها الدرونز التركية.
وتعكس التحركات التركية في هذا المدخل دلالات عدة بعضها يرتبط بالوضع الأمني في الدول الإفريقية “منطقة الساحل وغرب إفريقيا”، والبعض الآخر يتعلق بالأهداف التركية كقوة عسكرية ناشئة، وأخيرا حالة التنافس الدولي في القارة.
اقرأ أيضا.. تركيا تتخلى عن حلفائها (حماس والإخوان)
أبرز الرسائل
يرى محفوظ ولد السالك المختص في الشأن الإفريقي، أن تصديق البرلمان التركي على اتفاقية التعاون العسكرية بين أنقرة ونجامينا، رغم أنها تنص على “تعزيز العلاقات البحرية والتنسيق المشترك في مواجهة القرصنة” وتشاد معروف أنها دولة حبيسة، إلا أنه يمكن القول إن هذه الاتفاقية تأتي في سياق يتسم بتصاعد الرفض الشعبي داخل تشاد على غرار عدد من دول المنطقة ضد التحالف مع فرنسا، والحاجة إلى إبداله بشركاء جدد على غرار روسيا وتركيا وغيرهما، وبالتالي تستغل تركيا هذا الزخم الشعبي من أجل تعزيز نفوذها في منطقة الساحل، ولا شك أن البوابة الأمنية والعسكرية هي أفضل مدخل لذلك.
كما يضيف السالك، وفي السياق ذاته تلاحظ في الآونة الأخيرة تزايد إبرام الصفقات العسكرية بين تركيا وعدد من دول المنطقة، فقبل أقل من أسبوعين تم الكشف عن تسلم مالي طائرات من طراز “بيرقدار TB2” تركية الصنع، وقبلها بأشهر تسلمت النيجر وتوجو عددا من الطائرات المسيرة التركية، وينتظر أن تتسلمها لاحقا دول أخرى بينها أنجولا وإثيوبيا.
مدخل راهن للسياسة الخارجية
تحاول تركيا الاستثمار في نقاط ضعف الدول الإفريقية، وحيث إن أكثر ما تتسم به النظم الإفريقية هو تراكم الأزمات الاقتصادية وغلبة الأنظمة العسكرية والاضطرابات السياسية، فكان أمام تركيا إما الانخراط الاقتصادي وتعزيز الشراكات مع الدول الإفريقية وإما المقايضة على تقديم الخدمات العسكرية، وفي ظل التكالب الدولي على الوصول إلى المواد الخام التي تتمتع بها الدول الإفريقية، توجهت تركيا مؤخرا نحو التركيز على الجانب العسكري كمدخل لتدشين علاقات مع الدول الإفريقية، على سبيل المثال، قدمت تركيا لقوة الساحل المشتركة G5 مساهمة قدرها 5 ملايين دولار في عام 2018، ووقعت منذ ذلك الحين اتفاقيات تعاون عسكري مع النيجر ونيجيريا وتوجو والسنغال، وبنهاية يونيو/ حزيران 2022، أفادت التقارير بأن تركيا أرسلت ملحقين عسكريين إلى 19 دولة إفريقية، بما في ذلك المغرب ونيجيريا وإثيوبيا وغانا ومالي والجزائر وجيبوتي والسنغال وكينيا وجنوب إفريقيا، وكذلك تعتبر تشاد حلقة أساسية لعلاقات تركية إفريقية عسكرية على نطاق أوسع.
تركيا كقوة عسكرية
تمثل الدول الإفريقية هدفا مناسبا لأجل الترويج للصناعة العسكرية التركية، على خلفية تنامي حركات التمرد في كل من شرق وغرب إفريقيا، وكذلك الصراعات الداخلية، وفي ذلك الإطار تزيد الحكومات من إنفاقها الدفاعي، وهنا تحاول تركيا إثبات نفسها كبديل موثوق لمصدري الأسلحة التقليديين، مثل روسيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة، وبالفعل شهدت صادرات الدفاع التركية إلى القارة معدل نمو يزيد عن 5 أضعاف، لتصل إلى 460.6 مليون دولار في عام 2021، مدفوعة بعدد الاتفاقيات العسكرية التي تبرمها تركيا مع عشرات الحكومات في القارة، كذلك تعتبر الدورنز التركية “بيرقدار” أهم منتجات تركيا الدفاعية بعد ان حققت نجاحا ملحوظا في الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك غي سوريا وليبيا وناجورنو كاراباخ وإثيوبيا.
وأشاد المساعد الإعلامي للرئيس النيجيري محمد بخاري، في بيان صدر أواخر عام 2021، بتكنولوجيا الدفاع التركية، قائلا إنها ستسرع الجهود لتخليص البلاد من جيوب الإرهابيين وخطر الخاطفين وقطاع الطرق.
ويعتمد أردوغان السياسة الدعائية للدرونز التركية، حيث صرح بعد زيارته إلى إفريقيا في عام 2021: “في إفريقيا، أينما ذهبنا، طلبوا منا طائرات مسيرة غير مسلحة ومسلحة”.
كما يؤكد أبيل أباتي ديميسي، الزميل المشارك في مركز الأبحاث البريطاني تشاتام هاو، إنه بالنسبة للحكومات الأفريقية، توفر تركيا وسيلة مناسبة لشراء المعدات العسكرية باعتبار إن الأسلحة التركية رخيصة نسبيًا وسريعة التسليم وبالإضافة إلى أهم عنصر وهي أنها غير مشروطة بأي عقبات مثل الأوضاع السياسية أو حالة حقوق الإنسان.
مقارعة الدول الأوروبية
تعتبر إفريقيا ساحة واعدة للتنافس الدولي في ظل الصراع بين القوى الكبرى على إعادة التموضع من خلال سن استراتيجيات تؤطر لعلاقات جديدة مع الدول الإفريقية، على سبيل المثال، تعتبر الصين اللاعب الرئيسي في إفريقيا في ظل معدل تبادل تجاري تعدى 256 مليار دولار بنهاية عام 2021، نتيجة عدد هائل من مشاريع البنية التحتية التي تعد حلقة رئيسية في المشروع الصيني الأكبر “الحزام والطريق”، كذلك أعادت الولايات المتحدة تقييم تفاعلها مع القارة في ظل التمدد الروسي والصيني، والذي انعكس خلال القمة الأمريكية الإفريقية المنعقدة ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حيث حاولت إعادة جذب الدول الإفريقية مرة أخرى.
كذلك من أبرز المتغيرات التي تحاول بعض القوى الإقليمية لاسيما تركيا استغلالها هو النفور الإفريقي الواضح تجاه التواجد الأوروبي لاسيما في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، والذي نجم عنه انسحاب القوات الفرنسية والبريطانية والألمانية من الساحل الإفريقي.
تأمين مصالحها في ليبيا
تعد التحركات التركية نحو تشاد ذات طبيعة خاصة، حيث بدأت بزيارة أردوغان إلى تشاد في ديسمبر/ كانون الأول 2017 كأول رئيس تركي يزور تشاد، ثم زار الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو، رئيس المجلس العسكري المكون تركيا في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وخلالها أكد الرئيس أردوغان على تقديم جميع أنواع الدعم إلى ديبي وأضاف أن تركيا مستعدة لتطوير تعاونها مع تشاد في المجالات العسكرية والدفاعية والأمنية، وأشار إلى أن حجم التجارة الثنائية بين البلدين بلغ 112 مليون دولار، بزيادة إجمالية قدرها 47%، بهدف الوصول إلى 200 مليون دولار ثم 500 مليون دولار.
تثير الاتفاقية المبرمة بين تركيا وتشاد تساؤلات بشأن طبيعة التواجد التركي في إفريقيا، حيث يتضمن الاتفاق تعاون بحري بين الدولتين في حين أن تشاد تصنف دولة حبيسة بلا سواحل، وهو ما قد يضمن عدة دلالات بعضها يتعلق بمصالح تركيا في غرب إفريقيا، والبعض الأخر يتعلق بليبيا التي تعتبر مركز تواجد رئيسي بالنسبة للمصالح التركية وغاز المتوسط، ومن هنا يمكن تفسير الاتفاقية في ضوء سعي تركيا إلى تأمين حضورها في ليبيا من خلال البوابة الجنوبية “تشاد” ومحاولات تطويق ليبيا في ظل انقسام المشهد السياسي بين حكومة تؤيد وأخرى تعارض استمرار تواجد القوات التركية.
تطور العلاقات التركية الإفريقية
اكتسبت العلاقات التركية مع البلدان الإفريقية زخمًا واسعا، خاصة بعد إعلان عام 2005 “عام إفريقيا”، كذلك عقدت أول قمة للتعاون بين تركيا وإفريقيا في عام 2008، وعملت تركيا على نشر سفاراتها في معظم الدول الإفريقية بحيث بلغ عددها 43 سفارة في جميع أنحاء القارة، على سبيل المثال، تم إنشاء 27 سفارة في البلدان الإفريقية بين عامي 2009 و 2014.
كثفت تركيا تحركاتها في إفريقيا من خلال أدوات القوة الناعمة وعلى رأسها الدبلوماسية الثقافية ودبلوماسية المساعدات، ويمثل معهد يونس إمري (YEE) الذراع الرئيسي المسئول عن نشر الثقافة التركية بواقع 10 مراكز ثقافية في 8 دول أفريقية، مع تقديم المنح الدراسية التركية، زاد عدد الطلاب الأفارقة الذين يدرسون في مؤسسات التعليم العالي التركية بأكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2012، من ناحية أخرى، تقدم وكالة التعاون والتنسيق التركية (TIKA)، مساعدات تنموية في عدة مجالات، لا سيما في التعليم والصحة والزراعة والتدريب.
ثم عززت تركيا التكيف مع المتغيرات في القارة، فاتجهت نحو اعتماد الدمج بين أدوات القوة الناعمة والقوة الصلبة، وفي عام 2021، بلغ حجم التبادل التجاري مع الدول الإفريقية حوالي 25 مليار دولار، واعتبارًا من عام 2022، وسعت شركة الخطوط الجوية التركية شبكة رحلاتها برحلات إلى 61 وجهة في 40 دولة أفريقية.
وبالنسبة للتعاون العسكري، لفت افتتاح مرفق التدريب العسكري التركي معسكر تركسوم في الصومال عام 2017، الانتباه نحو الإمكانات العسكرية التركية، كذلك يعتبر الدور التركي في ليبيا عبر اتفاقية التعاون العسكري مع حكومة الوفاق الوطني في عام 2019، ذروة التعاون العسكري التركي مع أي دولة إفريقية، فيما أفادت تقديرات غير رسمية أن تركيا لديها 37 مكتبا عسكريا في أفريقيا، كما قامت بتدريب ثلث جيش الصومال، كذلك خضع العسكريون النيجيريون لتدريب على كيفية استخدام طائرات بدون طيار في تركيا، كما تقوم أنقرة بتدريب ضباط الشرطة الكينيين منذ عام 2020.
وخلال القمة التركية الإفريقية الثالثة التي عقدت في ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي في اسطنبول بمشاركة 16 رئيس دولة وحكومة، بجانب 102 وزير إفريقي، جرى استعراض أطر التعاون التركي ال‘فريقي بين عامي 2015 و 2020، بالإضافة إلى وضع خطة عمل خمسية، ومن خلالها حاولت تركيا كيل الاتهامات إلى منافسيها في القارة (الصين وفرنسا)، وانتقدت تواجد القوات الأجنبية، كما أعادت تعريف تركيا على أنها دولة أفرو-أوراسية من خلال ربط هويتها بإفريقيا.
ويشير محفوظ ولد السالك، أن المجال العسكري بات أحد الميكانيزمات الرئيسية لعلاقات تركيا بدول الغرب الإفريقي، ومن خلال “دبلوماسية الطائرات المسيرة” تسعى البلاد لتعزيز حضورها في المنطقة، وأن هذا الحضور ورغم تزايده إلا أنه لم يصل بعد للدرجة التي يمكن الحديث فيها عن أن تركيا أصبحت لاعبا قويا في المنطقة، وتشكل منافسة للقوى التقليدية، ولكنها مع ذلك تبحث عن تعزيز حضورها بشكل لافت.