فماذا عن التحفظات والاعتراضات التى تساق لتبرير أنه ليس للديموقراطية مكانا فى مصر؟ بداية، فإن القول بأن الديموقراطية تتطلب مستوى معين من التعليم والوعى لم يتوفر فى مصر بعد، يعكس تصورا مخالفا لمفهوم الديموقراطية، باعتبارها عملية فكرية لا يشارك فيها إلا المؤهل لها، لا باعتبارها منهج عملى لإشراك كل مواطن فى صنع السياسة، من خلال تمكينه من التعبير عن مصالحه هو، بحيث تتشكل السياسات العامة من مجموع مساهمات كل المواطنين، ليس فقط لأنه حقهم كمواطنين، وإنما أيضا لأن هذا هو ما يصنع المواطن الناضج الذى يتحمل مسئولية اختياراته، والذى يشعر أن له مكانته وقيمته فى المجتمع، فيكون منتجا ومتلزما وإيجابيا. أما استبعاد المواطن من العملية السياسية فيترتب عليه عواقب ضارة بالاستقرار والتنمية، ليس فقط بسبب القمع الذى يرتبط بذلك بالضرورة، إنما أيضا لأن تهميش المواطنين يؤدى إلى شيوع الاقتناع بأن السياسات العامة لا تراعى مصالحهم وإنما مصالح الحكام وحلفائهم، وينشئ علاقة معقدة وغير صحية بين السلطة والمحكومين، تجعل من السهل أن يغضبوا على أى قرارات صعبة باعتبارها قرارات الحاكم وليست اختياراتهم. كما أن هذا ينتج مواطنا سلبيا لا يشعر بالانتماء ولا يحترم القانون أو النظام أو مقتضيات السلوك القويم.
اقرأ أيضا.. هل مصر مؤهلة للديمقراطية؟ (1-2)
بجانب ذلك، فإن امتلاك المواطنين والقوى السياسية الخبرة والحنكة فى التعامل مع أدوات الديموقراطية بكفاءة وفاعلية أمر لا يأتى إلا بالممارسة، لأن الديموقراطية ليست معارف ومعلومات تأتى بالتعلم، بقدر ما هى تقاليد وخبرات تُكتَسب وتنضج بالتجربة. وقد أثبت التاريخ عدم واقعية فكرة القبول بحكم استبدادى انتقالى بغرض تجهيز الوطن للديموقراطية، سواء فى مصر أو فى غيرها. فما من حكم امتلك سلطات استبدادية إلا وكانت أولويته الأولى هى ترسيخ هذه السلطة وزيادتها، وتحقيق مكاسب للتحالف الضيق الذى يحميها، على حساب حقوق باقى أبناء الوطن، وعلى حساب كفاءة الإدارة وعدالتها ونزاهتها، فينتشر فى ظلها الفشل والظلم والفساد، وتتآكل فرص بناء نظام ديموقراطى كفء عادل نزيه. ومن الهام هنا إيضاح أن هذا أمر مختلف عن مفهوم التحول الديموقراطى الذى تمر به الدول التى أصبحت ديموقراطية بشكل سلمى، والمتعلق بالعملية الضرورية لوضع أسس النظام الجديد وتثبيت دعائمه، من قواعد وإجراءات ومؤسسات، وإحلالها محل النظام الاستبدادى بشكل منظم ومنضبط يحد من أسباب الاضطراب ويحفظ للمجتمع استقراره (وهو موضوع مستقل ويوجد بشأنه رصيد كبير من التجارب والدراسات).
كذلك، فإن الحديث عن أن الديموقراطية ليست أولوية ملحة للأغلبية، التى يهمها أساسا لقمة العيش وفرص العمل وتوافر السلع والرعاية الصحية وما إلى ذلك من احتياجات، يخلط بين الغاية والوسيلة. فالديموقراطية ليست مطلبا غرضه إشباع حاجة إنسانية، وإنما هى وسيلة لإشباع هذه الحاجات، وآلية ينظم المجتمع من خلالها كيفية تنصيب السلطة الحاكمة، وتحديد الأولويات، وتوزيع الموارد بين فئات المجتمع، وصنع السياسات التى تحقق ذلك وتطبيقها، ومراقبة أداء السلطة الحاكمة وتغييرها ومحاسبتها إذا استدعى الأمر. بهذا المعنى فإنها لا تقارَن بالاحتياجات التى يشار إليها، وإنما بأنظمة الحكم الاستبدادية مثل الدكتاتورية والدولة الدينية وحكم الحزب الواحد أو الطبقة الواحدة وما يشابهها. بعبارة أخرى، فإن معاملة الديموقراطية باعتبارها رفاهية لا يجوز لها أن تزاحم المطالب الأكثر إلحاحا، يعنى ضمنا، وبالضرورة، اختيار طريق الاستبداد سبيلا لتحقيق هذه المطالب.
أما القول بتعقد شئون الحكم والظروف المحيطة بمصر، بما يجعل “العامة” غير مؤهلين لأخذها فى الاعتبار عند ممارسة آليات الديموقراطية، فهو لا يعكس الواقع كما هو فى الدول الأخرى التى أقامت نظما ديموقراطية فى ظروف وفى مواجهة تحديات لا تقل تعقيدا عن حال مصر. فدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والهند وكوريا الجنوبية وألمانيا قبل وحدتها وبعدها، تدير سياسات خارجية معقدة ومليئة بالتفاصيل الحساسة، إلا أن نظامها الديموقراطى لم يقف عائقا أمام ممارسة القدر الكافى من السياسة السرية، والعمل على تحقيق مصالحها وأمنها القومى بكل السبل وبفاعلية كبيرة. والحقيقة أن الشعوب تعطى حكومتها هامش حركة واسع للغاية فى قضايا الأمن القومى، بما فى ذلك الشعب المصرى، الذى لديه ثقة عميقة فى مؤسسات بلاده فى هذه القضايا.
كما أن القول بأن هناك نظما ديموقراطية فشلت ونظما استبدادية نجحت هو قول خادع، لأن الحالات التى يصدق عليها هذا القول هى استثناءات تقابلها غالبية كاسحة من الدول الديموقراطية الناجحة والدول الاستبدادية الفاشلة، فنكون كمن يدعو لعدم الالتزام بقواعد السلامة فى قيادة السيارات لأن الحوادث تحدث أيضا مع بعض من يلتزمون، أو كالقول أن المرء يمكنه القفز من الدور السادس، لأن هناك من قفز وبقى على قيد الحياة. كما أن الاستثناءات التى شهدت ديموقراطيات فاشلة أو نظم استبدادية ناجحة جميعها لها ظروف خاصة لا يمكن القياس عليها، وكثيرا منها تغير حالها مع مرور الزمن واكتمال تأثير نظامها السياسى. صحيح أن تاريخ الإنسانية شهد امبراطوريات ناجحة دون أن تكون ديموقراطية، لكن هذا كان قبل العصر الحديث، الذى تغيرت فيه ظروف حكم الدول وطبيعة علاقة الحاكم بالمحكومين، وأصبح ما كان يصلح فى الأزمان السابقة لا يصلح فى هذا الزمان.
كما أن هناك عنصرا لا يقل أهمية فى هذا الصدد، وهو أن الديموقراطيات بطبعها تملك قدرة فائقة على اكتشاف الأخطاء وتصحيحها نتيجة رسوخ مبدأ حرية الرأى وانتظام تداول السلطة، على عكس النظم الاستبدادية، التى لا تتاح فيها مساحة لكشف الأخطاء والمحاسبة عليها، كما لا يتم فيها تصحيح المسار من خلال تغيير منضبط ومنظم للقائمين على الحكم.
ختاما، فقد نُسِب إلى بعض المصريين مقولة أصبحت شعارا معتمدا فى مواجهة أى دعوة للتغيير السياسى، وهى أن “مصر ليست مؤهلة للديموقراطية”. إلا أن من يقولون بذلك لا يقصدون أن هناك مانعا ماديا من تطبيق الديموقراطية فى مصر، وإنما يعتقدون أن مصر ليست مؤهلة لتطبيقها بشكل فعال وآمن ومثمر على نحو ما يحدث فى الديموقراطيات الناجحة. المشكلة هى أن مصر لم تختبر -حتى اليوم- الديموقرطية بشكل حقيقى وجاد لفترة معقولة حتى يمكن إصدار هذا الحكم عليها. لكن الحقيقة الأخرى التى يعرفها كل من درس تاريخ مصر السياسى أو اقترب من جهاز الدولة فيها وتأمل فى آليات عمله، هى أن السياق المصرى يتميز بقدرة فائقة على سرعة منح الحاكم المستبد كل أدوات الفساد، وتشجيعه على الاستمرار فى اختياراته مهما كانت غير ملائمة أو ضارة، ودعم نزعاته للظلم ولمنع أى رأى مختلف، فيتمادى فى أخطائه حتى تنتهى التجربة بأسوأ نتيجة على الوطن. وهة ما يعنى -فى حقيقة الأمر- أن مصر أثبتت أنها غير صالحة لتطبيق الاستبداد بشكل فعال وآمن ومثمر على نحو ما يحدث فى الدول الاستبدادية الناجحة، بل أن التجربة أكدت أنه هو الخطر الأكبر على البلاد والعباد، أو، بعبارة أخرى، أن مصر ليست مؤهلة للاستبداد.