عشية الذكرى الرابعة والأربعين للثورة الإسلامية، يبدو أن النظام الإيراني غير قادر على التعامل مع جذور الاحتجاجات التي تدخل شهرها الرابع. في الوقت الذي لم ينجح فيه المحتجون -حتى الآن- في تشكيل تهديد كبير وفوري للنظام. ضاق نطاق التظاهرات العنيفة، ولم تنضم قطاعات اجتماعية مهمة إلى الاحتجاج، ولا دليل على حدوث انقسامات داخل النخبة السياسية، أو قوى الأمن والقمع بقيادة الحرس الثوري.

لذلك، يرى راز تسيمت، الخبير في شؤون إيران في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS، إلى أن انزلاق إيران إلى حالة ثورية مستمرة يشكل تحديًا كبيرًا للنظام الإيراني، لا سيما في ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. وأن الهوة الآخذة في الاتساع بين مؤسسات الدولة والجمهور، وخاصة جيل الشباب، ستستمر في تغذية المزيد من مظاهر الاحتجاج. بل ومفاقمتها.

خامنئي يتفقد قوات الباسيج التابعة للحرس الثوري- أرشيفية

يقول: لم ينجح الاحتجاج في خلق بديل للنظام السياسي الحالي. في الأسابيع الأخيرة، كان هناك انخفاض ملحوظ في نطاق المظاهرات العنيفة في جميع أنحاء البلاد، على ما يبدو بسبب الإجراءات القمعية من قبل النظام، وصعوبة الحفاظ على احتجاج مستمر لفترة طويلة، وظروف الطقس في فصل الشتاء، وربما -أيضًا- كأس العالم.

ويشير إلى أنه في الفترة من 5 إلى 7 ديسمبر/ كانون الأول، كانت هناك زيادة مؤقتة في عدد الاحتجاجات، على خلفية الدعوات إلى ثلاثة أيام من التظاهرات والإضرابات بمناسبة “يوم الطالب”، الذي يُقام في إيران كل عام في 7 ديسمبر/ كانون الأول. حتى هذا الارتفاع كان معتدلاً نسبيًا مقارنة بالشهرين الأولين للاحتجاج.

اقرأ أيضا: تعليق شرطة الأخلاق الإيرانية.. مناورة أم انتصار للمتظاهرين؟

ويلفت إلى أن الأسابيع الأخيرة شهدت عددًا أقل بكثير من مراكز الاحتجاج، حيث شارك فقط عشرات إلى مئات المتظاهرين.

حتى في المناطق التي يقطنها الأكراد -في شمال غرب البلاد- والبلوش -في الجنوب الشرقي- تستمر الاحتجاجات على نطاق أوسع. ولكن حتى هناك يظل نطاقها محدودًا، على ما يبدو، بسبب القمع الفعال من قبل السلطات.

تشكيلة احتجاجية

يوضح تسيمت أن الاحتجاج الواسع الذي عصف بالبلاد لم يقتصر على عدم انضمام قطاعات اجتماعية واقتصادية مهمة فقط، مثل العاملون في الصناعات والخدمات الرئيسية. ولكن، أيضًا، تراجعت بشكل ملحوظ المظاهرات الطلابية في الجامعات، والتي كانت مكونًا مركزيًا في المراحل الأولى من الاحتجاج.

ويشير إلى أنه “في هذه المرحلة، لا يبدو أن المتظاهرين قادرون على التطور من احتجاجات عفوية إلى قوة منظمة بخطة استراتيجية للمستقبل”.

إضافة إلى ذلك، لا يوجد دليل على انشقاقات بين النخبة السياسية الحاكمة، أو قوى الأمن والقمع، بقيادة الحرس الثوري، الذين لا يزالون موالين تمامًا للنظام.

في أوائل ديسمبر/ كانون الأول، أفاد تسريب من قبل مجموعة Black Reward المتسللة بأنه تم القبض على ما لا يقل عن 115 جنديًا من الجيش النظامي بعد مشاركتهم في مظاهرات الاحتجاج.

لكن، يشير المحلل الإسرائيلي إلى أنه “حتى لو كان لهذا التقرير أساس، فإنه لا يعكس ظاهرة منتشرة في صفوف الجيش والحرس الثوري الذي يبلغ تعداده مئات الآلاف من الجنود والضباط”.

ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن النظام الإيراني قد نجح في قمع الاحتجاج، وأن الوضع يمكن أن يعود إلى ما كان عليه قبل اندلاع التظاهرات في أعقاب مقتل مهسا أميني منتصف سبتمبر/ أيلول 2022.

المأزق

انتشرت مظاهر متفرقة من العصيان المدني استمرت منذ اندلاع الاحتجاج، بما في ذلك ظهور نساء بلا حجاب في المجال العام، ورسومات جرافيتي وهتافات مناهضة للنظام من المنازل، وشباب يزيلون العمائم عن رؤوس رجال الدين في شوارع المدينة، وتجمعات غير عنيفة، بعد إعدام اثنين من معتقلي الاحتجاج في النصف الأول من ديسمبر/ كانون الأول، وأحداث الحداد لإحياء ذكرى قتلى الاحتجاجات.

علاوة على ذلك، فإن استمرار الاحتجاج -حتى لو كان على نطاق محدود- يضع النظام في مأزق. فإنه يخشى أن يُنظر إلى الرغبة في الاستجابة لمطالب المحتجين وإجراء تغييرات في السياسة الرسمية على أنها إظهار للضعف، مما قد يزيد من المطالبة بمزيد من التنازلات بشأن الحريات المدنية والسياسية الموسعة، ويوفر دعمًا إضافيًا للاحتجاج.

كذلك، فإنه يشك بشدة فيما إذا كان الرد الجزئي على مطالب المتظاهرين سيخفف من حدة غضب المواطنين المحتجين على وجود النظام ذاته.

ومن ناحية أخرى، فإن تجاهل مطالب المتظاهرين والاستمرار في الاعتماد على إجراءات القمع العنيف قد يؤدي إلى مزيد من تصعيد الموقف.

يقول تسيمت: تنعكس المعضلة التي تواجه النظام الإيراني في عدم اتساق السلطات فيما يتعلق بالتغييرات المحتملة في الزي الإسلامي الإلزامي.

ويورد تصريح النائب العام محمد جعفر منتظري في مطلع ديسمبر/ كانون الأول، بأن المجلس الأعلى للثورة الثقافية شكل لجنة مشتركة لفحص السياسة الخاصة بهذه القضية. بعد أيام قليلة، رد منتظري على سؤال صحفي بخصوص وقف محتمل لأنشطة “شرطة الأخلاق” بالقول إن أنشطة الشرطة ليست من مسئولية القضاء، وأن قوات إنفاذ القانون هي التي تعين أو تلغي. فسر هذا البيان على أنه نية من جانب السلطات لإلغاء “شرطة الأخلاق”، على الرغم من أنها سارعت لنشر نفي في هذا الشأن.

يضيف: حتى لو كان هناك الكثير من الشك حول قدرة السلطات على استئناف الأنشطة المعتادة للشرطة، خوفًا من تفاقم الاشتباكات، فليس مستبعدا تجديد تطبيق قواعد اللباس في المستقبل بوسائل أخرى. ولا تقدم الخطب الأخيرة التي ألقاها المرشد الأعلى علي خامنئي أي دليل على استعداد الدولة لتقديم تنازلات.

جرافيتي الفتاة الإيرانية مهسا أميني في شوارع إيران

اقرأ أيضا: الجامعات الإيرانية.. عندما يصبح الطعام “المختلط” فعل مقاومة

تفاقم التحديات

في خطابه يوم 26 نوفمبر/ تشرين الثاني بمناسبة أسبوع الباسيج -قوات تعبئة الفقراء والمستضعفين وهي قوات شعبية شبه عسكرية تابعة للحرس الثوري-  ألقى خامنئي مسئولية الاحتجاج مرة أخرى على أعداء إيران الذين يريدون تغيير النظام، وأشاد بقوات الباسيج لقمعها “المشاغبين”.

وفي إشارة إلى دعوات منتقدي النظام للاستماع إلى صوت الشعب، أوضح المرشد الأعلى أن “صوت الشعب قد سُمع بوضوح في التظاهرات الموالية للنظام، وفي جنازة قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الذي اغتيل في يناير/ كانون الثاني 2020.

يرى المحلل الإسرائيلي أنه في ظل هذه الظروف، يبدو أنه في حين أن النظام لا يملك القدرة على منع استمرار الاحتجاج والعودة إلى الحياة الطبيعية، فإن المتظاهرين لا يملكون أيضًا القدرة على زعزعة استقرار النظام.

يقول: على الرغم من أن الاحتجاجات في إيران ليست ظاهرة غير عادية، يجب ملاحظة بعض الاختلافات المهمة بين الاحتجاجات الحالية وحركات الاحتجاج السابقة. وعلى رأسها المدة غير المسبوقة، وتحدي المحتجين لوجود النظام ذاته.

ويوضح أن انزلاق إيران في وضع ثوري مستمر يشكل تحديًا كبيرًا للنظام الإيراني. حيث يخلق واقعًا متفجرًا قد يتحول مرة أخرى إلى مواجهات عنيفة -خاصة حول أحداث مثل الاحتفال بالأعياد الوطنية- وعمليات الإعدام الإضافية لمعتقلي الاحتجاج، وموت السجناء السياسيين في السجن، وما إلى ذلك.

أيضا، قد يتيح للحركة الاحتجاجية وقتًا للتنظيم على الرغم من جهود النظام المضادة، على الرغم من أن النظام قد يستخدم الوقت أيضًا لتحسين استعداده وجاهزيته. بالإضافة إلى ذلك، تستمر الأزمة الاقتصادية في التفاقم، والتي تجلت بالدرجة الأولى في تضخم بلغ نحو 45%، وعجز حاد في الميزانية، واستمرار تآكل سعر العملة المحلية، الذي وصل مؤخرًا إلى مستوى متدنٍ غير مسبوق بأكثر من 400 ألف ريال للدولار.

وأكد تسيمت أن تفاقم الأزمة الاقتصادية “أدى إلى تفاقم الشعور بالإحباط بين الجمهور، وقد يدفع قطاعات اجتماعية أخرى للانضمام إلى الاحتجاجات”.

خلق ظروف ثورية

في الآونة الأخيرة، حذر عالم الاجتماع والصحفي الإيراني حميد رضا جلائي بور من انزلاق البلاد إلى انعدام الأمن المنهجي وخلق ظروف ثورية، رغم أنه قدّر أن النظام لا يزال لديه القدرة على منع الثورة.

في مقابلة مع صحيفة اعتماد الإصلاحية، قال المفكر الإصلاحي، إنه في ظل عدم وجود استعداد من جانب النظام للموافقة على الإصلاحات، مثل تعزيز مؤسسات المجتمع المدني، والاعتراف بالتغييرات العميقة الجارية في المجتمع الإيراني، لن يكون من الممكن النجاة من الأزمة الحالية، وستزداد قوة الراديكاليين.

ومع ذلك، تشير التجارب السابقة إلى وجود إحجام كبير من النظام عن تعديل مواقفه وسياساته، لا سيما في ظل السيطرة المطلقة للمتشددين في جميع مؤسسات الدولة. وفي السنوات الأخيرة، حذر معلقون ومفكرون وأكاديميون إيرانيون بارزون من تفاقم اليأس وفقدان ثقة الجمهور بالسلطات.

هكذا، قال المعلق السياسي والصحفي أمير محبيان -المرتبط باليمين المحافظ- بعد أحداث الشغب بسبب الوقود في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، إن المجتمع الإيراني “يقف على قنبلة اجتماعية يمكن أن تنفجر في أي لحظة”.

ويختتم تسيمت: يبدو أن النظام الإيراني غير جاهز -وربما لا يكون قادرًا- على معالجة جذور الاحتجاج، التي تكمن في الفجوة المتسعة التي لا يمكن ردمها بين الدولة والجمهور، وخاصة جيل الشباب. ستستمر هذه الفجوة في تأجيج مظاهر الاحتجاج، التي أصبحت أكثر تكرارا وأكثر راديكالية وجذرية في السنوات الأخيرة، حتى لو لم تشكل في هذه المرحلة تهديدًا مباشرًا لبقاء النظام.