فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته خلال العام 2022. تعويمان متتاليان خلال العام، أفقدا الجنيه الكثير، ورفعا من معدلات الفقر التي قد بدأت تتحسن وفقا لبحث الدخل والإنفاق الذي يعده دوريا الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ترافق مع كل ذلك ارتفعت معدلات التضخم لأرقام غير مسبوقة، حيث وصلت إلى 19% في أكتوبر الماضي وفقا لبيانات البنك المركزي. وقد عبرت الموازنة العامة للعام 22/2023 عن ذلك بجلاء، عندما سجلت للمرة الأولى أن 33% من نفقاتها مخصص لخدمة الدين، أي سداد أقساط المديونية التي تجاوز الدين الخارجي فيها 157.8 مليار دولار في مارس الماضي.

بالطبع صاحب ما حدث من تعويمين مرتبطين بتعليمات وشروط منفذة من صندوق النقد الدولي، تخفيض العملة المحلية، ومن ثم ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ما ساهم في زيادة الأعباء، لا سيما وأن البلاد تحتاج لثلثي غذائها من الخارج.

في كل مرة يتجه الجنيه للانخفاض تصير أزمة كبيرة في توافر الدولار الراكض أمام كل الباحثين عنه، لأن أهميته تكمن في دفع مقابل استيراد السلع المكدسة في موانئ مصر.

ورغم أن تعويم الجنيه في عهد الرئيس السيسي قد تم أكثر من مرة كان أولها في نوفمبر 2016، إلا أن ما يميز المرة الأخيرة في شهر أكتوبر الماضي أنها عملية أعقبتها أزمة غير مسبوقة في المضاربة على العملة التي أصبحت هدف أو سلعة وليست وسيلة. محلات الصرافة أغلقت أبوابها، وكل العملات الأجنبية التي يبحث عنها المصريين باتت نادرة، إلى الحد الذي أصبح الجنيه المصري في أسواق الصرافة خارج مصر تقريبا غير معترف به، ويتجاوز سعره مقابل العملات الأخرى داخل وخارج البلاد أكثر من 40% فوق السعر الرسمي بعد تعويم أكتوبر 2023 والمقرر بالنسبة للجنيه مقابل الدولار نحو 24.50جنيه.

في 22ديسمبر 2022، قرر البنك المركزي رفع سعر الفائدة على شهادات الإدخار. القرار على مفاجأته، ستكون له تبعات كثيرة:

أولها: أنه سيحد من حجم الاستثمار المحلي، لأن الكثير من الراغبين في الاستثمار، سيفضلون الاحتفاظ بمدخراتهم في البنوك، مقارنة بمخاطرتهم بالدخول في مشروعات استثمارية، قد لا يجلب الكثير منها هذا العائد الكبير. وبالتالي سيؤدي القرار إلى قلة التشغيل والحد من فرص تقليل معدلات البطالة.

ثانيها: أن العائد الكبير الناتج عن رفع سعر الفائدة، سيحمل موازنة الدولة كم كبير من الأعباء نظير سداد هذه المبالغ. وبالتالي سيزيد عجز الموازنة على زيادته أصلا.

ثالثها: أن القرار سيقضي على السوق الموازية، لأنه سيفضي إلى تحويل مدخرات المواطنين من الدولارات إلى الجنيه، ما سيزيد من عرض الدولار في الأسواق، ومن ثم يقل الطلب عليه. لكن يبدو أن الأغلبية العددية التي تمتلك مبالغ محدودة هي من سيغريها سعر الفائدة. لكن الأقلية التي تمتلك كما كبيرا من الدولارات، هي من سيحتفظ بالدولار بسبب رهانها على أن الوقت في صالحها، وهو على الأرجح موقف صحيح لو لم تتغير الظروف الراهنة.

على هذا الأساس ستكون قرارات البنك المركزي الأخيرة هدفها بالأساس ليس الحد من عجز الموازنة بل مواجهة السوق الموازية، وتلك المواجهة كما سبق ستنجح على المدى القصير فقط. لأن حجم الاستيراد كبير، ومن ثم الحاجة إلى الدولار ترتفع باضطراد، لذلك فعرض الدولار كبير اليوم، لكنه حتما ينحسر. والمؤكد أن المعروض سيزداد انحسارًا مع قرب قدوم كل موعد يخص سداد أقساط الدين الخارجي.

يبقى السؤال كيف يستعيد الجنيه عافيته، أو كيف تستقر القوة الشرائية له؟

بداية، يلاحظ أن أية دولة تتسم عملتها بالاستقرار أمام العملات الأخرى، طالما تتمتع بواحدة أو أكثر من المؤشرات الاقتصادية التي تبرهن على وضعها الاقتصادي المتميز. إذ قد تكون تلك الدولة ذات مناخ جاذب للاستثمارات الأجنبية في قطاعات متعددة، كما يعمل ميزانها التجاري لصالحها على طول الخط، بمعنى أن صادراتها تفوق وارداتها، بما يشير إلى وجد فائض وليس عجز في ذلك الميزان. وربما تكون لهذه الدولة قدرات صناعية كبيرة أو متوسطة، ومن ثم يكون بالإمكان أن تكون صادراتها مصنعة وليست مجرد مواد خام تستفيد منه الدول المستوردة في صناعات يعاد تصديرها لذات الدولة المصدرة وغيرها. إضافة إلى ذلك، فإن الدول التي تستقر عملتها في الأغلب الأعم تكون نشاط الأفراد بها كبير، ليس فقط عبر الاستثمارات وانخفاض مستويات البطالة وارتفاع معدلات التشغيل، ولكن أيضا من خلال وجود عديد المقاصد السياحية المتميزة.

في حالة مصر، من المهم أن نبحث في عدة أمور رئيسة حتى تستقر الأوضاع المصرفية في البلاد:

الأمر الأول، البحث عن الطرق الهادفة إلى الحد من الواردات الترفية، والإبقاء فقط على الوردات الضرورية التي لا غنى عنها في التصنيع، أي التي لا غنى عنها للبنية التحتية، أو ما شابه. والاعتماد بالأساس على دعم قطاع الصادرات، خاصة في الأمور التي لمصر فيها ميزة نسبية كالمنسوجات القطنية والمنتجات الزراعية التي تشتهر بها مصر كالحمضيات والموالح على سبيل المثال.

الأمر الثاني، وبالتوازي مع ما سبق، من الأهمية بمكان التوقف تمامًا عن تصدير أية مواد خام، والاعتماد على تصدير المصنوعات منها. هنا نذكر تحديدًا بتصدير القطن الخام الذي كانت مصر تقوم بتصديره في صورته الأولية لعقود طويلة.

الأمر الثالث، وبالتواكب مع البند السابق، من المحتم اهتمام الدولة بإعادة افتتاح المنشآت الصناعية المغلقة منذ عدة سنوات، وتذليل كافة المعوقات الهادفة إلى إعادة تشغلها، خاصة تلك التي تهتم بالصناعات غير الغذائية، والتي يمكن أن يكون هدفها الأول هو الإنتاج بغرض التصدير. وهنا يمكن أن تطرح مبادرة مهمة، وهي طالما أن الناس في مصر يهتمون بالمبادرات الرئاسية، وطالما أن الرئاسة المصرية لديها الرغبة في طرح مشروعات قومية، فليجعل رئيس الدولة همه الأول هو افتتاح مصنعين على الأقل يوميًا، حتى لو كانت تلك المنشآت الصناعية يملكها القطاع الخاص.

هنا سيكون العائد من كافة تلك الأمور الثلاثة السابقة هو جلب العملات الأجنبية القادرة على استقرار السوق المصرفي، وإعادة التوازن بين العملة المحلية والعملات الأجنبية الأخرى.

الأمر الرابع، هو دعم منح الأولويات في الإنفاق لإقامة المشروعات المختلفة. هنا وبعد ان استكملت البنية الأساسية حدها الأدني، خاصة في مجال النقل والمواصلات عبر تأسيس شبكة متميزة من الطرق  والكباري والإنفاق والمحاور المرورية، من المهم العناية بتقليل الإنفاق البذخي والاهتمام بالحد من المصروفات التي غرضها الترف. هنا يطرح الكثيرين الحاجة إلى الاهتمام بقطاعي الصحة والتعليم، وتفعيل ما جاء بالدستور من تخصيص نسب 2% و3% و1% للتعليم الجامعي والصحة والبحث العلمي على الترتيب من الناتج القومي الإجمالي. وهذا الأمر رغم كونه لا علاقة له مباشرة بالأزمة المصرفية، إلا أنه لا يخفى على الكثيرين أهمية تربية جيل من المثقفين والمتعلمين والأصحاء، لأنه هو القادر على التغلب على أزمات البطالة والاستثمار وغيرها.

الأمر الخامس، العمل الدوؤب على جلب الاستثمارات الخارجية للبلاد، لما في تلك الاستثمارات من سمات مهمة، لجلب العملة الأجنبية، وزيادة فرص العمل أمام الشباب، خاصة إذا ترافقت تلك الاستثمارات مع احتياجات البلاد، وإذا ما تماشت مع شروط للحد من تصدير مخرجات تلك الاستثمارات إلى الخارج، أو بيع الأصول مستقبلا للصهاينة أعداء البلاد التقليديين. ولا مرأ أن المناخ المهيء للاستثمار هو بالأساس الحد من المعوقات البيرقراطية وغيرها من وسائل التي جرى العرف على تسميتها بحوافز الاستثمار الضريبية وغير الضريبية، ودون أن يعنى ذلك على الإطلاق بيع ممتلكات الدولة من المشروعات الرابحة للأجانب كما يحدث.

الأمر السادس، وهو يتصل بما سبق، وهو فتح المجال العام. هنا قد يقال ما دخل المجال العام بأوضاع الاقتصاد المصري، وبالعملة المحلية. الإجابة أن فتح المجال العام هو من أكبر الأمور المحفزة لجلب الاستثمار الأجنبي. بمعنى أن المرء قد يظن أن من أكبر مسهلات الاستثمار دعم شبكة النقل والمواصلات، لكن هذا الأمر على صحته، إلا أنه ينقصه أمر آخر لا يقل أهمية للمستثمر الأجنبي، وهو فتح المجال العام أمام المصريين. إذ إن المستثمر الأجنبي لن يأت للاستثمار في دولة يشارك رئيسها في تعيين رؤساء الهيئات القضائية، لأن القضاء ربما يحتاجه المستثمر حال وقوع خلاف بينه بين الدولة، يتم رفعه للقضاء. كما أن المستثمر بالتأكيد سيحجم عن القدوم في بلد استقراره السياسي محل نظر، بسبب كبت الحريات العامة وتحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة. بلد يكون نظام انتخابات نواب برلمانه (الموكول له إعداد القوانين المعنية بالاستثمار) بالقوائم المطلقة المعيبة، التي تؤسس لبرلمان خانع وجاثي أمام السلطة التنفيذية، خالي من المعارضة، ينفد كل ما تطلبه منه السلطة التنفيذية والجهات الأمنية.

الأمر السابع، تشجيع المصريين العاملين بالخارج على استقبال تحويلاتهم من العملات الأجنبية، وهي العملات التي تدعم السوق المصرفي، وذلك من خلال سلة من الحوافز. غنى عن البيان أن تلك التحويلات تعادل أربعة أضعاف ما تمثله قناة السويس للبلاد، ويفوق مجموعها ما تجلبه القناة والصادرات والسياحة مجتمعة.

أخيرا وليس آخرا، من الضروري التأكيد على الأمر المقتول بحثًا والمقترح سلفا والموصي به من كل المناحي، وهو الاهتمام بقطاع السياحة. ليس فقط من خلال الاهتمام بسياحة الشواطئ، فتلك السياحة على أهميتها، منتشرة في كافة بقاع المعمورة، لكن المهم هو العمل على ما تتميز به مصر وتنميته واستغلاله أفضل استغلال، وهو السياحة الثقافية في بلد يملك ثلث آثار العالم.

د/عمرو هاشم ربيع باحث وكاتب مصري