مع بدايات عام 2023 يبدو المشهد الثقافي في مصر به فتور وفقدان للحيوية، هذا في الصورة التي يراها البعض على خشبة المسرح الثقافي في مصر، هذا يأتي من غياب الحيوية من المسرح الذي تدير خشبته مؤسسات الدولة الثقافية، التي دخلت إلى نفق مظلم فيه غياهب لا يبدو في الأفق مخرج منها، أو تجمدت وتكلست عند أدوات عمل لم تعد هي الفاعلة في السياق الذي نعيش فيه.
وزاد الأمر صعوبة هو أنه مع نهاية عام 2021 غيب الموت القدير الدكتور جابر عصفور، ومع نهاية عام 2022 غيب الموت الدكتور صلاح فضل، قد يختلف كثيرون معهما ومع مواقفهما كل حسب وجهة نظره، لكنهما كانا آخر جيل من المثقفين ممن يمتلكون نفوذا واسعا في الحياة الثقافية العربية، هذا ما كان ينعكس إيجابا على سياسات وتوجهات الدولة المصرية. وكثيرون -حتى في السلطة- لا يدركون أهمية هذا الدور الذي يقوم به المثقف، فهو فضلا عن دوره الفكري والثقافي المؤثر في بلده فإن دوره الممتد يعطي للدولة تأثيرا في أوساط صناعة القرار في العديد من الدول، فضلا عن التأثير في الرأي العام.
هذا ما وظفه جمال عبد الناصر، وكان هو ونظام حكمه مدركين له بقوة، وعانى منه الرئيس السادات فاستوعب الدرس حسني مبارك، ونظر البعض إلى الوزير فاروق حسني حين كان وزيرا للثقافة أن مهمته تدجين المثقفين المزعجين وإدخالهم الحظيرة، وأن الحظيرة رأى البعض أنها المجلس الأعلى للثقافة الذي أداره الدكتور جابر عصفور والذي كانت له مواقف من السلطة أدت لاعتقاله في أحداث ستمبر 1981.
لكن في حقيقة الأمر أن تولي فاروق حسني حقيبة وزارة الثقافة كانت انقلابا على الحياة الثقافية التقليدية في مصر لاستيعاب جيل بدء يعبر عن نفسه في صور شتى، ثم جاء تولي الدكتور جابر عصفور المجلس الأعلى للثقافة كرمز لهذا الجيل واختبار لقدراته وهو ما نجح فيه بامتياز، فجرى إدماج المثقفين في الدولة بصورة قوية، ونجح جابر عصفور في إعادة الحياة للثقافة المصرية ثم في إعادة المثقفين العرب للقاهرة بعد سنوات من المقاطعة، وهذا الدور قام به الدكتور صلاح فضل أيضا بدءا من رئاسته لدار الكتب المصرية.
إن القول بأن هناك مثقفا مستقلا، نعم مستقل في رأيه وتفكيره وإبداعه، وهذا شرط لكي يظل له دور، لكن الأهم أن تدرك الدولة أن المثقف له دور في خدمة قضايا وسياسات بلده، سواء عبر المشروع الثقافي للدولة أو عبر تعبيره عن بلده بقناعاته الشخصية دون أن تتحول العلاقة بين المثقف والسلطة لعلاقة سلبية أو عدائية بها توتر مستمر، خذ على سبيل المثال دور عدد من المثقفين في الكويت في بناء مشروع ثقافي لها بدءا من مجلة العربي إلى سلسلة عالم المعرفة إلى مجلة عالم الفكر، ثم استعانتهم بخبرات من خارج الكويت خاصة من مصر ثم الآن يقود هذا المشروع مثقفون في الكويت، وهو الآن أكثر المشاريع الثقافية تأثيرا، في الوقت الذي صارت فيه العلاقة بين المثقف الحقيقي في مصر والدولة علاقة سلبية أو بها روح من العداء أو التجاهل أو الإهمال، فالأجيال الجديدة من شباب المثقفين تتراوح مواقفها بين كل ما سبق، فصار حديثها عن مصر البلد في الداخل إما سلبيا وإما صامتا حفاظا على السلامة الشخصية أو يأخذ مسافة بعيدة حتى في التعبيرات الأدبية.
نعم هناك من يتعاون منهم أو يسعى إلى الدولة بصورة أو أخرى، لكن هؤلاء ليسوا هم المؤثرين الذين يسمع لهم، وبالتالي من لديهم قوة التأثير والرأي بينهم وبين الدولة فجوة، لنرى في المستقبل جفوة بين المثقفين والسلطة، وهذا ما لا يخدم البلد الذي نرى أن الجميع يجب أن ينخرط في خدمته.
من قال إن المثقف ليس جزءا من مشروع الدولة من أجل التحديث والتنمية والقوة هو من يرى أنه لا معنى لوجود الدولة أصلا، لكن على الجانب الآخر يجب على الدولة أن يكون لها استراتيجية ثقافية تطبق عبر عدد من البرامج والمشاريع، ودون هذا لن يكون هناك مثقفون حقيقون متحققون يصطفون مع هذه الدولة، وهذا لا يعني أنه مطلوب من كل المثقفين أن يصطفوا مع هذا المشروع لأنه بدون التباين والاختلاف فلن يكون هناك نقد وتطور للحياة الثقافية وللإنتاج الفكري في مصر.
إن كل دول العالم على تباين اتجاهاتها السياسية تعي هذا جيدا، أما في مصر فقد اكتفينا بيافطة الثقافة على بعض المؤسسات التي أصابها خواء، حتى صارت أشبه بالجسد الذي نزعت منه الروح، وفقدت بالتالي دورها وتأثيرها، وعزف عنها الشباب حتى صارت الأنشطة الثقافية تمارس عبر الوسائط المتاحة عبر شبكة الإنترنت.. نمت هناك حياة ثقافية ومثقفون وكتاب صاروا هم الأكثر تأثيرا في مصر وخارجها.. صار لدينا حياة ثقافية موازية لتلك الظاهرة على خشبة المسرح الثقافي الرسمي في مصر.. لدينا أجيال تتحدث وتعبر وتؤثر لديها أبطالها ومفكروها.
هؤلاء هم المستقبل، وإذا لم تدرك الدولة ذلك سيكون بينها وبين هذه الأجيال وطرق تفكيرها فجوة تتسع يوما بعد يوم، بل لن تكون هذه الدولة بكل أدواتها وسلطاتها مقنعة لهم، بل ستكون بالنسبة لهم غير معبرة عنهم، فقوة الدولة تأتي من قوة تعبيرها عن الشعب وهويته وآماله وتطلعاته عبر عدد من المشاريع والأدوات ومنها الثقافة بكل أبعادها.
هذا ما أدركته مصر بعد ثورة 1919 وبعد ثورة يوليو 1952 فكانت الثقافة جزءا من مشروعها ومشروعيتها، هذا ما غاب عن مصر في السنوات الأخيرة، فصار المغرب بمشروعه الثقافي يحصد الجوائز الثقافية العربية، وصار العراق يتسعيد حضوره الثقافي العربي، فدار المأمون للترجمة صارت أهم ناشر عربي للكتب المترجمة، وصارت السعودية تسعى لأن تكون القوة الأكبر في النشر الورقي والرقمي عبر المكتبة الرقمية السعودية، ولا مجال هنا للحديث عن غياب مصر عن الحراك الثقافي الدولي فهي غائبة منذ سنوات، بل أصبح مثقفو المهجر لهم مواقف يجري حولها نقاش سلبي عن مصر، هذا كله يتطلب مراجعة شاملة، وهذا ما يضع تساؤلات عن غياب الثقافة كمحور أساسي في السيسات العامة، بل هُمش في الحوار الوطني، وكأن القائمين على الحوار متفقون على أن مصر صارت فعلا ثقافيا في الماضي وليس في الحاضر والمستقبل.