تأتي الأزمة السياسية الحالية بلبنان والتي كان من أهم أسبابها غياب دور فاعل لمؤسسات الدولة المركزية ما أدى إلى انفراد كل منطقة/طائفة “بتدبير حالها”، في ظل متغيرات دولية وإقليمية استثنائية، وجد فيها البعض مجالًا لطرح أفكارٍ عن صيغ بديلة شديدة المرارة.

شخصيًا، لا أظن أن الظروف العامة الحالية تسمح بأي صيغة أخرى سوى صيغة الدولة المركزية القائمة مع تجديد حيويتها -نوعًا ما- بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون الذي شاب أداءه أثناء الحكم ترهل كبير وفشل ذريع أفضيا إلى الحراك الشعبي الكبير في أكتوبر 2019 وما تلى ذلك من مشكلات كان الحراك بريئًا منها.

وأظن أن صيغة الدولة المركزية “المُعدَلَة” قد توفر قدرًا من الاسترخاء يطلبه المجتمع الدولي تمهيدًا لتسوياتٍ محتملة بشأن قضايا كبرى، بالإضافة إلى كون العلاجات التفصيلية لأزمتي لبنان المُزمنتين الاجتماعية والاقتصادية، تقتضي بحُكم طبيعة أدوات مواجهة هاتين الأزمتين، ترسيخ مؤسسات دولة مركزية بما يدفع -موضوعيًا- لسرعة حسم الركن الأخير من معادلة الحكم اللبنانية وهو تسمية رئيسٍ للجمهورية ليكتمل مُثلَثُ الرئاسات: رئيس الجمهورية ولابد أن يكون مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الحكومة ولابد أن يكون مُسلمًا سُنيًا، ورئيس مجلس النواب ولابد أن يكون مُسلمًا شيعيًا.

وعلى الرغم من أن تلك التركيبة الثلاثية تعكس في جوهرها ترتيبًا طائفيًا واضحًا، إلا أنها رغم ذلك وفي ظل الظروف الحالية، قد فتحت الباب -ولو مُوَارَبًا- للتفاهمات في الأروقة المغلقة بين الفرقاء من القوى السياسية التي تسير على حَبْلٍ مشدودٍ تحيط به النيران من كل جانب على نحوٍ يضع الجميع في النهاية أمام خيار رئيسٍ “توافقيٍ” يتمتع بِصِلاتٍ إقليمية ودولية طيبة حتى يحوز قبول اللاعبين المؤثرين بالساحة اللبنانية كالسعودية وإيران من ناحية وكفرنسا وأمريكا من ناحية أخرى، وربما يُفَضَل ألا يكون له انتماء حزبي حتى يتسنى له التعاطي مع الأزمتين الاجتماعية والاقتصادية دون أن يكون مُحملًا بقيود سياسية تاريخية.

تُطرَح وفق هذا التصور قائمة أسماءٍ يأتي على رأسها اسمان أظن أن أحدهما سيكون له حظ الاختيار كي يلعب دورًا استثنائيًا في تاريخ بلاده: قائد الجيش العماد “جوزيف عون” والدكتور “جهاد أزعور” الرجل الذي يعرفه الاقتصاديون في مصر والأردن والسودان وتونس زائرًا مَكوكيًا وحاضرًا دائمًا، وكيف لا وهو مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.

تتبدى ملامح الأزمة الاجتماعية في أشكال متعددة شملت الانهيار شبه الكامل في مرافق التعليم والصحة والغاز والكهرباء ناهيك عن تفشي المخدرات والسرقة. أما الأخطر وهو شكلها الطائفي، فهو يتمظهر بصورة مُقلِقة بين الحين والآخر مُعيدًا للأذهان ذكريات الحرب الأهلية الأليمة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

فلنأخذ العاصمة بيروت التي تبلغ مساحة تجمعها الحضري نحو 26 ميلًا مربعًا مثالًا، إذ تنقسم إلى ثلاث مناطق جغرافية: المنطقة الشرقية وتسكنها أغلبية مسيحية من طوائف متعددة، والمنطقة الغربية وتسكنها أغلبية مُسلمة سنية، والمنطقة الجنوبية وتسكنها أغلبية مُسلمة شيعية، ويحيط تلك المناطق حِزام من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون حياة في غاية البؤس والشقاء، وحِزام آخر من مخيمات اللاجئين السوريين الذين يتزايد عددهم بشكل كبير -رغم عودة بعضهم مؤخرًا إلى بلدهم- بسبب زيادة المواليد بما يؤثر على التركيبة الديموجرافية والاقتصادية للمدينة خصوصًا مع الزيادة المضطردة في معدلات هجرة اللبنانيين إلى الخارج.

وأنت إن أخذت بالاعتبار ظاهرة انتشار السلاح بأغلب بيوت بيروت وإرهاصات استعادة الميلشيات الطائفية لقدراتها العسكرية تحت عناوين أمنية كحماية أهالي المناطق، سَتُدرِك حجم الأزمة وملامحها المُرعبة التى تضع المجتمع اللبناني برمته على صفيحٍ ساخن ترتفع درجة حرارته يومًا بعد يوم.

في أكتوبر 2021، وقعت اشتباكات بمنطقة “الطيونة” جراء احتكاكات بين متظاهرين منتمين إلى حزب الله وحركة أمل كانوا قد توجهوا صوب قصر العدل للمطالبة بإقصاء القاضي “طارق البيطار” الذي كان يتولى التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت التي مازالت تحمل الكثير من الألغاز والإشارات بلا حسم حتى يومنا هذا، وبين بعضٍ من أهالي المنطقة تصاعدت مُسفرةً عن سقوط سبعة قتلى وعدد كبير من المصابين من الجانبين برصاص قناصة قيل كلام عن انتمائهم لحزب “القوات اللبنانية” وهو ما استوجب من السلطات القضائية استدعاء “سمير جعجع” قائد الحزب رسميًا لسماع أقواله، ثم تمت لملمة التحقيقات.

منذ أسابيع، حدثت احتكاكات شبيهة بمنطقة الأشرفية التي تسكنها أغلبية مسيحية، حين توجهت مجموعة من الشباب من خارج تلك المنطقة تحمل أعلام المغرب وفلسطين وسورية احتفالًا بفوز الفريق المغربي في مباراة بكأس العالم إلى إحدى ساحات الأشرفية التي تعج بمجموعة من أهالي المنطقة أثناء احتفالهم بعيد الميلاد المجيد ليحدث تلاسن بين المجموعتين تطور إلى عراك بالأيدى أسفر فقط عن بعض الإصابات.

المثير في الاحتكاكات الأخيرة أنها كشفت عن تَشكيلَين تنظيميين من أهل المنطقة تم تأسيسهما بدعوى الأمن الذاتي وحماية الممتلكات الخاصة يرتبط أحدهما ويسمى “الملائكة الحراس” بصلات مع “نديم الجميل” زعيم حزب “الكتائب”، بينما قيل بأن الآخر ويسمى “جنود الرب” يرتبط بصلاتٍ مع حزب “القوات اللبنانية” ويرتدي أعضاؤه السواد حاملين الصلبان الضخمة والأسلحة البيضاء ويعتنقون أفكارًا تُعادي الشيوعية والعلمانية والمثلية الجنسية والإجهاض والزواج المدني ويدعون لمقاطعة تعاطي المخدرات.

والحاصل على هذا المستوى أن العصب الطائفي العاري الذي ما يزال مشدودًا قد أخذ منحى أكثر خطورة في ظل غيابٍ فِعليٍ لمؤسسات الدولة المركزية التي كان يتعين عليها ممارسة مهمة الردع بإجراءاتِ رقابةٍ استباقيةٍ مَانِعةٍ وذلك للحيلولة دون وقوع أي انفلات مُحتمَل وبحيث لا يقتصر دورها على مجرد إجراءاتِ تحقيقٍ لاحقةٍ.

جرت تلك الأحداث وسط أزمة اقتصادية استثنائية لم يشهد لبنان لها مثيلًا في تاريخه الحديث لَخَصَت ملامحها رسالة تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام، كان طفلًا اسمه “جو” قد كتبها خلال مشاركته باحتفالات الميلاد المجيد في كنيسة الوردية بقرية “ذوق مصبح” بجبل لبنان موجهًا إياها للسيد المسيح الذي لم يجد سواه مُخلِصًا من آلامٍ لم يسمح له عُمره بمعرفة سواها: “يسوع، أنا بَدي إنه ماما ما بقى تبكي كل ليلة لأن ما معها مصاري تعمل لنا عَروس جِبنة* أنا وإخوتي على المدرسة”.

ومن المؤكد أن “جو” لا يعرف شيئًا عن التحويلات المالية الهائلة التي أجراها بعض زعماء الطوائف منذ شهور لبنوك خارجية تحت سمع وبصر محافظ بنك لبنان المركزي -الذي سيخضع لتحقيق دولي هو وبعض مديري البنوك اللبنانية خلال أيام لاتهامات تتعلق بأعمال غسل للأموال واستغلال نفوذ وتضارب مصالح- مما ساهم في استفحال أزمة الدولار الذي ارتفع سعره وقت كتابة هذه السطور إلى ما يقرب من 45 ألف ليرة بالسوق السوداء أي ما يعادل نحو 740 جنيها مصريا، ومن المؤكد كذلك أن “جو” لا يعرف أن معدل التضخم ببلاده قد ازداد بنسبة 186% في أول عشرة أشهر من هذا العام مقارنةً بذات الفترة عن العام الماضي.

ومن المؤكد أيضًا أن “جو” لم يَطْلِع على تقرير البنك الدولي الصادر في نهاية نوفمبر 2022 عن بلاده والذي جاء في مُلخصه التنفيذي نَصًّا: “تجاوزت الخسائر المالية 72 مليار دولار أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي في عام 2021، وتنبع الخسائر المجمعة عن قطاع عام متعثر في سداد ديونه وبنك مركزي لديه أكبر مركز احتياطي سلبي في العالم، ونظام مصرفي متضخم وفي حالة إعسار. إن الانكماش الذي شهده لبنان في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي على مدى أربع سنوات قد قَوَّض بالفعل ما تحقق من نمو اقتصادي على مدار 15 عامًا، بل ويضعف قدرة البلاد على التعافي. إن عمق الانكماش الاقتصادي التراكمي يجعل أزمة لبنان المستمرة من بين أسوأ الأزمات منذ خمسينات القرن التاسع عشر”.

من المؤكد أن “جو” -الذي ربما يكون شخصية خيالية لا وجود حقيقي لها إذ حاول بعض أهل الخير بلبنان البحث عنه ولم يجدوه حتى هذه الساعة- لا يعلم شيئًا عن تلك الحقائق وهذه الأرقام، إلا أن رسالته -حتى ولو كانت مُختَلَقَة- قد أتت تعبيرًا صادقًا عن واقع مُعاشٍ بالغِ البؤس وشديدِ الإيلام يعانيه اللبنانيون جميعًا بغض النظر عن مكانة كل منهم بالتركيبة الطبقية هناك.

مرهونةٌ هي حلول الأزمتين الاجتماعية والاقتصادية بحل الأزمة السياسية التي تبدأ باختيار اسم صاحب المقام الرفيع الذي يكتمل بوجوده مُثلث الرئاسات المُتعثر والذي تقع على عاتقه مهمة قاسية للغاية وإن كانت ممكنة، لتلبية مطالب مستقبل لبنان فيُخرِجه من أزمته الاقتصادية المُزرية ويعيد له تماسكًا اجتماعيًا يحسبه البعض مُستحيلًا.

*شطيرة خبز بالجبن