أتابع هذا الأسبوع قراءة كتاب تجارب التحول إلى الديمقراطية حول العالم، حوارات مع القادة السياسيين، والذي ضم عددًا من المقابلات التي قامت بها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في الفترة ما بين يناير 2012 إلى العام يونيو 2013، مع ثلاثة عشر رئيسا ورئيسا للوزراء من تسعة بلدان (البرازيل وتشيلي والمكسيك، وغانا، وجنوب إفريقيا، إندونيسيا، والفلبين، وبولندا وإسبانيا) من أجل الإجابة على سؤال واحد، كيف تمكنت تلك الدول من التحول من أنظمة استبدادية إلى أنظمة حكم ديمقراطية مستدامة لا يمكن التراجع عنها.

صدر الكتاب بالعربية عن دار الشروق في عام 2016.

بدأت بعرض تجربة البرازيل في مقالين متتالين، أحاول هذا الأسبوع استعراض تجربة تشيلي في التحول الديمقراطي.

**

في عام 1970، كان معدل الدخل في تشيلي يعد ثالث أعلى معدل في أمريكا اللاتينية، واعتبر مجتمع شيلي مجتمعا متقدما سياسيا؛ مما انعكس في نظام الأحزاب السياسية المتطور فيها، والمنقسم إلى أثلاث متساوية، يسار، يمين، وسط.

كان لليسار حزبان ماركسيان لينينان، أكبرهما الحزب الشيوعي الموالي للاتحاد السوفيتي كثالث أكبر حزب شيوعي في العالم الغربي بعد الحزبين الموجودين في إيطاليا وفرنسا، أما تيار الوسط، فقد هيمن عليه الحزب الديمقراطي المسيحي الذي كان أقرب لليسار من نظرائه في أوروبا، ويشبه في أهيمته الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا وألمانيا، أما أحزاب اليمين، فكانت أفضل تنظيما من نظرائها في دول أمريكا اللاتينية، وكانت القوات المسلحة تحت سيطرة مدنية صارمة.

مهدت تلك الظروف لفوز سلفادور أليندي من حركة الوحدة الشعبية في انتخابات الرئاسة عام 1970 بنسبة 36% من الأصوات، على الرغم من أن حزبه كان أقلية في مجلسي النواب والشيوخ، وأثار خشية الولايات المتحدة من تمدد نموذج التشيلي الديموقراطي إلى غيرها من الدول في فترة السبعينيات، التي ضجّت بأفكار الاشتراكية وتأييد اليسار حول العالم.

تدخل بعدها الجنرال بينوشيه بانقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة انتهى بالإطاحة بالليندي ومقتله عام 1973.

قتل ما يقرب من 3000 شخص في الأيام الأولى، غالبيتهم أعدموا دون محاكمة، وامتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين، ونفي ما لا يقل عن 100 ألف شخص، وفصل عشرات الآلاف من وظائفهم، وأصبح التعذيب أداة أساسية للنظام.

حلت الحكومة البرلمان والنقابات والأحزاب السياسية وعين ضباطا عسكريين كرؤساء للجامعات، وأغلقت الصحف التي لم تمنح الحكومة دعما غير مشروط، وكرست الرقابة على الصحف والمطبوعات وفرض حظر التجول لأكثر من عقد.

على الرغم من أن بلدا لديه سجل ديمقراطي مثل شيلي كان من المتوقع أن يثير انقلابا بهذا المستوى الوحشية رفضا شديدا داخله، إلا أن هذا لم يحدث، بسبب الاستقطاب وتغلغل الكراهية السياسية والاجتماعية والاضطرابات، ورأى جزء كبيراً من السكان في الانقلاب العسكري عودة إلى النظام مانحين إياه دعمهم غير المحدود، فتغاضوا عن انتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك دعمت طبقة رجال الأعمال الانقلاب بفضل عودة الشركات التي سيطرت عليها الدولة، وتطبيق سياسية اقتصادية نيو ليبرالية متشددة جدا.

قادت وحشية الانقلاب وانتهاكات حقوق الإنسان الديمقراطيين المسيحيين الذي كان يعارض الليندي معارضة نظام الحكم، فنزع عنهم بينوشيه الشرعية، وصادر ممتلكاتهم ومكاتبهم، لكن ذلك لم ينه الداء بين الحزب الديمقراطي المسيحي وتحالف الاشتراكيين والشيوعيين، وانخرطا في جدال عقيم بشأن المسؤول عن انهيار الديمقراطية، لكن منظمات حقوق الإنسان بدأت في الإبلاغ عن جرائم الحكومة.

ورغم سيطرة الحكومة على الجامعات إلا أن مؤسسات الفكرة والرأي المعارضة تمكنت من حشد جزء كبير من المثقفين، ورغم أن الحكومة شكلت “حركة نقابية صفراء” بعد حل النقابات العمالية، إلا أنها لم تستطع التخلص من تأثير قادة العمال، وحافظت الأحزاب رغم القمع الشديد على جزء من هياكلها.

وفي عام 1980، صارت المعارضة أكثر تنظيما، خاصة بعد توقف الجدل بشأن المسئولية عن انهيار الديمقراطية، واعترفت الأحزاب بأخطائها، وبدأت مرحلة توافق بين الأطراف التي ناضلت ضد النظام العسكري وتجاوز خلافاتها التي تعود إلى حقبة الستينات والسبعينات، في سبيل العمل الجاد لإنقاذ الأرواح وشجب الانتهاكات وتنظيم المظاهرات وإطعام أسر العاطلين عن العمل.

في عام 1980، دعا النظام إلى استفتاء لإقرار دستور جديد دون رفع حالة الحصار ودون قوائم ناخبين أو نقاش أو دعاية، ورغم أن المعارضة نددت بالعملية برمتها بوصفها احتيالاً، لكن تلك المبادرة قدمت في الواقع فرصة للأحزاب للعمل معا وإعادة الاصطفاف، بل تطوير أفكار الأحزاب نفسها، وأسست معا التحالف الديمقراطي والتجمع المدني.

وضع التحالف ميثاقا مشتركا، وأسس اتفاقا اجتماعيا بين النقابات المهنية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية وتجمعات المصالح التجارية الصغيرة.

وفي عام 1985، دعت الكنيسة إلى وفاق وطني، ضم حتى بعض ممثلي اليمين اللذين تعاونوا سابقا مع الديكتاتورية، ونظمت أغلب هذه المبادرات من أجل برنامج معتدل يمكن أن يفوز بأكبر دعم ممكن من المجتمع.

وفي النصف الأول من الثمانينيات حققت المعارضة مكاسب كبيرة، لكنها تستطيع إخفاء إخفاقين كبيرين؛ الأول تمثل في عدم قدرتها على دمج قطاعات كبيرة من اليمين، الذي حل محله بعد انقلاب 1973 مزيج من العسكريين المدنيين والأصوليين الكاثوليك الذين لم يثقوا بالديمقراطية.

أما الإخفاق الثاني فهو الصدام بين استراتيجيات التحالف الديمقراطي والشيوعيين الذين واصلوا المطالبة بشرعية أشكال النضال كافة بما فيها العنف، فكان خطاب الاعتدال والدعوة إلى حل سلمي تناقضه باستمرار أعمال عنف ومحاولات اغتيال، واشتباكات مع الشرطة أدت إلى تدمير كبير ومقتل شباب ينتمون عادة إلى الشرائح الأكثر فقرا، وكان رد الحكومة وحشيا، إذ نفذت اغتيالات بحق شخصيات منها رئيس نقابة العمال.

واصلت المعارضة المعتدلة عملها في التعبئة الاجتماعية ضد تيار الاستقطاب والعنف، ومنيت استراتيجية الحزب الشيوعي بهزيمة كبيرة بعد فشل محاولة اغتيال لبينوشيه.

في عام 1987، وصلت الحكومة والمعارضة إلى نقطة توازن مبدئي.

ميزت المعارضة التشيلية أن قيادتها كانت جماعية، ولا ترتكز على شخصيات كاريزمية، وكانت الأحزاب رغم أنها غير قانونية، إلا أنها كانت منظمة بالقدر الكافي الذي يمكنها من الدعوة إلى مظاهرات وحشد الآلاف، وكذلك اعتمدت المعارضة على منظمات مستقلة عن الدولة كالنقابات والكنائس والمنظمات الطلابية والمهنية والنسائية والجمعيات الأهلية وتضامن الرأي العام الدولي.

قررت القيادة السياسية للمعارضة خوض الاستفتاء الذي نص عليه بينوشيه لخلق مواجهة حاسمة، كان التصويت بنعم يعني استمرار الديكتاتورية لثماني سنوات والتصويت بلا يقضي إجراء انتخابات.

نظمت المعارضة بعد ذلك حملة “لا” التي انتصرت بحصولها على 56% من الأصوات، لتبدأ انتخابات مفتوحة نجح فيها باتريسيو أيلوين أحد رموز المعارضة وصار رئيسا للبلاد.