يعتبر البعض أن الكرة في البرازيل أهم من السياسة، وأن ولع البرازيليين بالأولي يفوق الثانية، وأن متابعتهم لمسيرة لاعبيهم وتفاصيل حياتهم اليومية وبصمتهم الفنية والإنسانية مثل “بيلية” وغيره قد تفوق متابعتهم لرموزهم السياسية حتى لو كانوا بوزن الرئيس الجديد “لولا دا سيلفا” الذي أعيد انتخابه لولاية ثالثة وتسلم مهام منصبه يوم الأحد الماضي.

ومعروف أن فريق البرازيل في كرة القدم لا يزال مصنف الأول عالميا، وهو ليس الحال في باقي المجالات غير الكروية (الصناعية والتكنولوجية). كما أنها الدولة الوحيدة في العالم التي وصلت لكل بطولات كأس العالم، وفازت بها 5 مرات، وفي كل مرة يرشحها النقاد والناس للفوز بالبطولة.

وكرة القدم في البرازيل ليست مجرد لعبة إنما هي نمط حياة وثقافة مجتمع يعيش مع الكرة منذ الطفولة، وتعتمد على المهارة الشديدة واللاعب “الحريف” وتميل إلى اللعب القصير والمثلثات السريعة القادرة على اختراق أقوي الدفاعات لأقوي الفرق.

والحقيقة أن خسارة البرازيل في دور الثمانية على يد فريق كرواتيا، أصابت الشعب البرازيلي بخيبة أمل وإحباط وطني عام كما يحدث مع أي خسارة في كأس العالم، فهم يعتبرون وصول فريقهم لكأس العالم بديهي وفوزه بالبطولة طبيعي.

وقد استقبل الفريق بعد هزيمته في قطر وعودته إلى البرازيل بالحجارة والشتائم والهتافات الصاخبة، وتكرر سيل الاتهامات على لاعبي الفريق البرازيلي المحترفين في أكبر الأندية الأوروبية بأنهم غير مخلصين لبلدهم وأنهم يركزون أكثر مع انديتهم حيث المال والحضور العالمي.

الحزن في الكرة عوضه فوز في مشهد آخر تمثل في عبور اللحظة الأصعب والاختبار الحقيقي لأي ديمقراطية وهي لحظة “تداول السلطة” بين المترشحين المتنافسين. وهو ما حدث في البرازيل حين فاز المرشح اليساري “لولا دا سيلفا” والذي يبلغ من العمر 77 عاما بولاية ثالثة (حكم البلاد لمدتين متتاليتين عامي 2003 و2010) وانتصر على منافسه الرئيس السابق “جائير بولسونارو” اليمني المتطرف.

والحقيقة أن انتصار “لولا” في جوهره ليس مجرد انتصار لليسار في مواجهة اليمين أو الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية، إنما انتصار للديمقراطية والعدالة والعلم في مواجهه التطرف والكلام الفارغ وتهديد الديمقراطية وهو في ذاته انتصار كبير يعوض وأكثر خسارة كأس العالم.

فالرئيس السابق كان نموذجا لا يدرس في الفشل الاقتصادي والسياسي وسوء الآداء، وبسبب سياساته الحمقاء عرفت البرازيل أثناء جائحة كورونا أكثر من 800 ألف حالة وفاة. وهو ثاني أكبر بلد من حيث عدد الضحايا بعد الولايات المتحدة في عهد ترامب.

فقد قلل “بولسونارو” من مخاطر الإصابة بالفيروس. وقال: “يجب الحفاظ على الوظائف، ودخل الناس، لذلك يجب على جميع البرازيليين العودة إلى طبيعتهم”. وقال إن المسنين هم الأكثر عرضة للإصابة، “لماذا يجب إغلاق المدارس؟”. وهو الذي قال “ألا ترون البرازيلي يغوص في مياه الصرف الصحي ثم يخرج منها دون أن يصيبه شيء!”. وندد بـ”الهستيريا” حول “إنفلونزا طفيفة”.

وقد أظهر “بولسوينار” بطولة زائفة في قضية ترتبط بالمهنية والعلم وليس الشعارات. وهو ما أدى إلى انهيار الوضع الصحي بصورة غير مسبوقة، إلى جانب استخفافه بالأخطار البيئية المترتبة على عدم حماية غابات الأمازون، رغم مخاطر ذلك على البشرية كلها. ما جعل تداول السلطة في البرازيل رسالة نجاح واطمئنان لكل بلاد العالم، بأن دول الجنوب قادرة على أن تؤسس نظام ديمقراطي، وأن تحدث تداول للسلطة يقبله المنافس حتى لو لم يكن يؤمن تماما بالديمقراطية مثل الرئيس السابق.

أما الجانب الآخر الذي ربحته البرازيل فيتعلق بتحقيق العدل ولو بعد حين، وهي رسالة مهمة للعالم كله وخاصة دول الجنوب، فمعروف أن الرئيس “دا سيلفا” سبق وحكم عليه بالسجن بتهمه الفساد ثم عادت المحكمة العليا وألغت هذا الحكم لعدم كفاية الأدلة، وتم استجواب القاضي الذي حكم عليه واعتبر متحيزا ضده، خاصة أن “بولسونارو” عينه وزيرا للعدل في دلالة على كيدية التهم التي وجهت له، وتم الإفراج عن “داسيلفا” بعد 18 شهرا قضاها في الحبس وأسقطت كل التهم التي وجهت إليه واستعاد حقوقه السياسية وقام بالترشح للرئاسة وأصبح رئيسا للبلاد، وبات واضحًا أن الاستهداف وتغييب العدالة لو انتصر في جولة لن يربح المعركة و”لا يصح إلا الصحيح”.

ربحت البرازيل أيضًا في السياسة حياد مؤسسات الدولة، فرغم أن بعض أنصار الرئيس الخاسر ذهبوا إلى معسكرات الجيش وطالبوه بالتدخل لمنع تنصيب “لولا” رئيسًا، في تحريض واضح على نتائج الانتخابات وقواعد الديمقراطية. وهو ما لم تستجب له هذه المؤسسات وحافظت على حيادها متمثلة في الجيش والقضاء والشرطة والجهاز الإداري، والتزموا جميعًا بالدستور ونتائج الانتخابات ولم يختلف موقفهم هنا عن موقف نظرائهم في بلد أكثر تقدمًا هو الولايات المتحدة، حين التزمت المؤسسات بالدستور ونتيجة الانتخابات ولم تسير خلف دعاوى ترامب الكاذبة.

يقينا الديمقراطية ودولة القانون لا تطلب فقط انتخابات حرة وأحزابًا قوية إنما أيضًا مؤسسات محايدة ونزيهة قادرة على أن تواجه التطرف والشطط والكلام الأهوج لأي متطرف سواء جاء من أقصي اليمين أو اليسار، بصرامة تطبيق القانون.

سيقي أمام الرئيس الجديد والديمقراطية التي ربحت في البرازيل تحديات كبيرة في ظل التدهور الذي أصاب البلاد في عهد سلفه فيما يتعلق بمحاربة الفقر ومستوي التعليم والخدمات الصحية والإشكاليات البيئية التي اثارها فيما يتعلق بغابات الأمازون ومحاربة الانبعاث الحراري.

خسرت البرازيل العام الماضي كأس العالم ولكنها ربحت في نفس الوقت نظام ديمقراطي يتعمق كل يوم، وأن عوده “لولا دا سيلفا” للرئاسة بعد التهم الباطلة التي وجهت إليه ثم براءته يؤكد أن “العدل أساس الملك”.