الآنين الاجتماعي يدوي في المكان وينذر بأخطار يصعب ردها، أو التحكم فيها، أو التعرف على ما بعدها.
إذا ما عجزت السياسة عن تصحيح أوجه الخلل الفادحة، فإن كل سيناريو محتمل وأي انفجار وارد.
المشكلة الحقيقية أن مصر لا تحتمل أي رهان على استقرار ما هو قائم من سياسات وأولويات، فهذا فوق طاقة الحقائق.. ولا يحتمل بالوقت نفسه أي رهان آخر على الفوضى العشوائية التي تحرق ما أمامها ولا تبقي حجرا على حجر.
الرهان الأول، تحليق في الوهم.
والرهان الثاني، إمعان في التخريب.
عند الطرق المسدودة تحتاج مصر أن تصارح نفسها بالحقائق حتى لا تداهمها الحوادث بما هو فوقها طاقة قدرتها على الحياة.
نحن أمام انسداد مزدوج اقتصادي وسياسي.
هذا بذاته مؤشر خطر على ما قد يحدث في مصر المأزومة.
بأثر ارتفاعات الأسعار لمستويات قياسية وتصدع قيمة الجنيه المصري بصورة غير مسبوقة وفشل المنظومة الاقتصادية في تلبية احتياجات الحياة العادية قد تفلت الأمور بعشوائية بمكان أو آخر، فإذا ما جرى استخدام العنف ضد أية احتجاجات من مثل هذا النوع فقد تتسع دوائرها ويصعب على الأمن تطويقها.
القضية سياسية وليست أمنية.
تحميل الأمن فوق طاقته مقامرة على المجهول.
بالاستنتاج الخاطئ، هناك من يعتقد أن الردع الأمني هو الذي أفشل ما أطلق عليها تظاهرات (11/11)، إذا ما حضرت قبضة الأمن فإن أي خطر مستبعد.
لم يكن ذلك صحيحا، كل ما جرى أن بعض المنابر الإعلامية في الخارج تبنت الدعوة وحرضت عليها دون أن تكون هناك قوى على الأرض تخطط وتنفذ، ولا كان الرأي العام مستعدا أن يتبع دعوات غامضة في التعبير عن غضبه الذي لا شك في مداه.
للغضب أسبابه وللأمن حدوده.
ليس من وظيفة الأمن أن يتحمل أخطاء السياسة.
العشوائية المحتملة لا يمكن توقع حوادثها.. أين ومتى وكيف؟
لا يعني انزياح الخطر مرة أن النتيجة نفسها سوف تتكرر كل مرة.
الخطر ماثل دون أن تكون هناك مراجعة على أية درجة من الجدية والوضوح للسياسات الاقتصادية الحالية، التي أفضت إلى الأزمة الخانقة، ولا جرت عمليات إصلاح سياسي وإعلامي في بنية النظام وطبيعته ينهي ملف معتقلي الرأي ويفسح المجال للتنوع الطبيعي وحرية الرأي والتعبير.
لم يكن هناك حوارا، أو شبه حوار على مدى ثمانية شهور من الإعلان عن “الحوار الوطني”.
لا تبدت مخرجات نفذت، ولا تكشفت توجهات أعلنت.
كان ذلك نوعا من الإجهاض العمدي لخروج آمن من الأزمة المستحكمة، التي قد تأخذ البلد كله إلى المجهول.
بدا لكثيرين أن فكرة الحوار الوطني استهدفت أن تقول للعالم إن هناك شيئا جديدا في مصر وأن هناك تحسينا بملف حقوق الإنسان.
توقفت الإفراجات المنتظرة عن بقية معتقلي الرأي، وعاندت بعض جهات الدولة في الإفراج عن أسماء بعينها رغم الأثر السلبي الذي ترتب على ذلك النوع من العناد.
الحوار الوطني فقد صدقيته والرهان عليه في بناء أوضاع جديدة أكثر إيجابية وقدرة على مواجهة التحديات.
هذه أزمة ثقة إضافية تتطلب إجراءات على أرض الواقع لا تصريحات في فراغ الاجتماعات.
لم يعد هناك كثيرون على أدنى استعداد لتصديق التعهدات الرسمية في الملف الحقوقي.
لم ينفذ تعهد واحد ورد في “الوثيقة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” رغم التوافق العام على توجهاتها خاصة ما يتعلق بمواد الحبس الاحتياطي حتى لا تكون عقوبة بذاتها.
المعنى هنا أنه قد تراجعت إلى حدود بعيدة أية رهانات على الحوار الوطني في أن ينقل البلد إلى أفق جديد، يصحح أوجه الخلل ويبني تماسكا وطنيا تحتاجه مصر في أوقاتها الصعبة الحالية.
فكرة الحوار نفسها تعرضت لضربة أخرى في “المؤتمر الاقتصادي”، الذي انعقد ولم يسفر عن أي تغيير جوهري، أو شكلي، في السياسات الاقتصادية الحالية.
الاستخفاف العلني بمخرجاته كان استخفافا بفكرة الحوار وبالمتحاورين أنفسهم، وبينهم صفوة الخبراء الاقتصاديين.
هذا البلد يحتاج أن يأخذ قضاياه بجدية.
الحوار يعني الحوار- أن تفتح الملفات كلها دون قيود، أن يجري الاتفاق والاختلاف بحرية.
العودة مرة بعد أخرى إلى المربع الأول باسم الحوار دون أن يكون هناك حوارا يستحق هذا الاسم فيه تفريط بالفرص المتاحة أمام البلد لتجنب أية انهيارات غير مستبعدة.
في الانسداد المزدوج تعاود السياسات الاقتصادية، التي ثبت فشلها، والأولويات الخاطئة التي أغرقت البلد في شرك الديون الخارجية إنتاج نفسها.
لا أحد مستعد أن يسمع ويصحح، والأصوات المختلفة التي ظهرت على وسائل الإعلام عند إعلان الحوار الوطني اختفت تقريبا.
رغم الاعتراضات الواسعة على الأحوال الاقتصادية المتردية يجري المضي قدما في فكرة الصناديق، لكل قضية صندوق، للأسرة صندوق، ولقناة السويس صندوق، ولكل قضية تطرأ صندوق.
يجري التوسع فيها كما لو أنها حلا سحريا، فيما هي تضرب في وحدة موازنة الدولة وتشكك في سلامة التصرفات المالية ومدى خضوعها للجهات الرقابية.
إننا لا نتعلم شيئا من تاريخنا الحديث حين دفعت مصر ثمنا باهظا من استقلالها نفسه على عهد الخديو “إسماعيل” على خلفية وقوعه في شرك الديون الأجنبية، ولا من تجاربنا القريبة حين اقترح وزير الاستثمار الدكتور “محمود محيي الدين” في نوفمبر (2008) استصدار تشريع جديد ينشئ جهازا لإدارة أصول الدولة لا يترأسه الوزير يقسم قطاع الأعمال العام إلى ثلاث فئات؛ الأولى، استراتيجية لا تمس وتحصن تشريعيا من البيع مثل مصانع “كيما” و”الحديد والصلب” و”غزل المحلة”. والثانية، تملك الدولة (15%) على الأقل من أسهمها وتديرها. والثالثة، توضع كاملة في برنامج الخصخصة وتعرض للبيع وفق قواعد من الشفافية. وأن يصحب ذلك إنشاء صندوق خاص لأجيال المستقبل على نمط الصندوق الكويتي.
لم يتسن لهذا المشروع أن يجد طريقه، فقد هوجم بضراوة من جمهرة الاقتصاديين والسياسيين وسقط بأول الطريق لكنه عاود صلب فلسفته بصيغ أسوأ مما جرى طرحه.
حيوية المجتمع وقتها أسقطت المشروع، وكان دور الصحافة الحرة حاسما.
في ظل القيود الحالية يصعب الاستماع إلى الرأي الآخر، أو الاستجابة لمنطق المصلحة العامة إذا ما أقيم الدليل عليها.
هناك من يحاول أن يرد الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى الحرب الأوكرانية وحدها.
باليقين هذا جانب من الحقيقة، لكنه ليس الحقيقة كلها.
إذا لم يكن هناك اعترافا بمسؤولية السياسات والأولويات والرجال فلا أمل في أي إصلاح اقتصادي، أو غير اقتصادي.
باعتراف الدكتور “محيي الدين” فإن خططنا في الاستثمار معيبة، و”أن المستثمرين الأجانب عندما يأتون إلينا لا يجدون أمامهم بيئة ترشدهم لأوجه الاستثمار الإنتاجي، وأن العيب فينا قبل أن يكون في الآخرين، فلو أن هناك خططا إنتاجية لشاركوا فيها، عندما يجدوننا نلعب ورقا على مائدة قمار فإنهم سوف يشاركوننا اللعب عليها”.
الحقيقة أننا الآن نلعب ورقا على مائدة قمار جديدة، ولا تعلمنا شيئا من تجاربنا المريرة.
كان أخطر ما في قصة صكوك “محي الدين” ما تبدى من خشية أن تذهب نسبة كبيرة منها إلى مستثمرين أجانب، أو أن تسقط بضربة واحدة قلاع القطاع العام، ويمضي قطار الخصخصة إلى محطته الأخيرة، التي قد تتحول إلى مدفن جماعي للاقتصاد الوطني المصري.
معاني مقاربة في أوضاع اقتصادية أصعب تحدث الآن.
أخطر ما في الانكشاف المزدوج الاقتصادي والسياسي تمدده إلى الدور المصري في إقليمه وعالمه.
إنه الانكشاف الاستراتيجي في لحظة إعادة تمركز وتعريف أدوار للقوى الفاعلة في الإقليم.
الأزمة الاقتصادية تدعو بطبيعتها إلى الانكفاء الداخلي.
عندما تنكفئ تفقد دورك الطبيعي في إقليمك ويصبح قرارك مرهون لإرادة آخرين ويضيع أمنك القومي على نواصي التقاطعات والمصالح.
هذا أخطر انكشاف محتمل، لا تطيقه مصر ولا تحتمله نظرتها إلى نفسها.