في نهايات شهر ديسمبر من العام المنصرم 2022 أعلنت غانا بشكل رسمي توقفها عن الوفاء بفوائد الديون على سنداتها الدولية والمقدرة بـ 13 مليار دولار، وطالبت بالتفاوض مع الدائنين في ذات التوقيت الذي تستعد فيه للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي يصاحبه برنامج إصلاح مالي يساعدها على التعافي من هذا التعثر.

تعثر غانا لم يكن بالمفاجئ، فهي ضمن مجموعة من الدول النامية التي تنبأت العديد من المؤسسات الدولية بتعثرها وتعرضها للكثير من المتاعب والمصاعب كنتيجة لأزمة أسواق الدين التي تفاقمت مع سياسة التشديد النقدي التي تزعمها الفيدرالي الأمريكي لمواجهة آثار التضخم، ودفعت بكثير من الأزمات المالية للاقتصادات الناشئة، شاهدنا منها سريلانكا التي أعلنت عجزها عن سداد الديون منذ أشهر، فضلًا عن وجود أكثر من 50 دولة نامية معرضة بشكل كبير لمخاطر الإفلاس والتعثر المالي.

أزمات الديون في الدول الفقيرة والنامية تكررت في عدة مناسبات تاريخية سابقة، حيث تسعى الدول النامية للحصول على قروض بالعملات الصعبة بفوائد مخفضة لتيسير عملية تمويل التنمية بداخلها. وهو منطق مشروع تمامًا، لكنها سرعان ما تصاب بالاضطراب المالي مع حدوث أي أزمات غير متوقعة دوليًا، تنتج عنها سياسة انكماشية للبنوك المركزية الرئيسية.

ففي السبعينيات، تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لأزمة تضخم حادة بعد صدمة ارتفاع أسعار البترول مع حرب أكتوبر عام 1973. آنذاك، لجأ الفيدرالي الأمريكية لسياسة التشدد النقدي ورفع أسعار الفائدة، والتي وصلت إلى أكثر من 13% في يونيو 1974، لمواجهة التضخم الذي كانت معدلاته قد تخطت نسبة الـ 10.9% في ذات الشهر، حتى تنجح عبر الركود في خفض التضخم، وتتراجع معدلات الفائدة إلى4% في نهاية عام 1976.

ومع قدوم رونالد ريجان واستمرار مستويات التضخم في الارتفاع في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، زادت بشدة السياسة الانكماشية من جانب الفيدرالي الأمريكي لمطاردة التضخم. وذلك عبر رفع معدلات الفائدة حتى وصلت إلى 22%، لتكلل سياسة الفيدرالي بالنجاح وينخفض التضخم إلى 1%. لكن ضحايا هذا النجاح لم يكونوا من حاملي الجنسية الأمريكية، بل كانوا مواطني الدول النامية في الجنوب.

تكلفة الدين التي ارتفعت بسبب معدلات الفائدة الكبيرة في أمريكا، تسببت في أزمات حادة وحالات تخلف عن سداد الديون، فانخفض الناتج المحلي الإجمالي بين عامَيْ 1981-1983 بنسبة 2.8% في البرازيل و4% في المكسيك و7.5% في فنزويلا و16% في تشيلي. دول أمريكا اللاتينية دفعت ثمن الاقتراض رخيص الثمن لسنوات للإنفاق على برامج البنية التحتية واحتياجاتها التنموية، بالرغم من أن اقتصاداتها كانت جيدة بالفعل، لكن شهية الاقتراض الرخيص كبدتهم مضاعفة للدين الخارجي ٤ مرات في أقل من 7 سنوات.

استغرقت الأزمة عدة أعوام ليتم حلها، حيث لجأت دول أمريكا اللاتينية لصندوق النقد الدولي لتنفيذ برامج إصلاح مالي وإجراءات تقشفية، مكنت تلك الدول من عبور الأزمة، لكن الدرس الذي من المفترض أن يكون واضحًا تكرر بحذافيره لاحقًا.

سياسة التيسير الكمي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، والتي زاد من مبرراتها نجاح الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير في حسم الحرب الباردة، وبداية عصر الرخاء الاقتصادي للمواطنين الأمريكيين، ساهمت في نمو معدلات الاستدانة والاقتراض للدول الناشئة من جديد، وتدفقت الكثير من الأموال الساخنة للاقتصادات الناشئة في أمريكا اللاتينية ودول شرق آسيا (النمور الآسيوية)، التي بدت كنماذج اقتصادية واعدة جدًا، وتقدم كبُرهان عملي على النجاح بمجرد الخروج من عباءة الاتحاد السوفييتي، وسياسة التخطيط المركزي.

قدمت تلك الدول أسعار فائدة عالية على الاستثمارات قصيرة الأجل مع تثبيت سعر الصرف مما شكل أرباحًا مضمونة للبنوك التجارية الغربية في إقراض تلك الدول، لكن ارتفاع أسعار الفائدة المفاجئ من قبل الفيدرالي بين عامي 1994 و1995 بحوالي 3%، أدت لأزمة جديدة أمام تلك الدول، دفعت المكسيك والأرجنتين لتخفيض قيمة عملاتهم الوطنية بشكل كبير، تبعته موجة كبيرة من التضخم، فيما عرف في المكسيك بأزمة التيكيلا، ومن ثم دخلت الدولتان في برامج إصلاح جديدة مع صندوق النقد، واحتاجت المكسيك أكثر من 50 مليار دولار قروض من الولايات المتحدة وصندوق النقد لاستعادة الثقة في جذب الأموال الساخنة ودعم العملة التي انهارت قيمتها.

في عام 1997 بدأت أزمة النمور الآسيوية عبر موجة من انهيار العملات الوطنية وعجز جماعي في الميزان التجاري في شرق آسيا دفعت تايلاند للانهيار، ووضعت أندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين وفيتنام وسنغافورة وجميع دول تلك المنطقة في منطقة الخطر نتيجة ارتفاع حجم الديون للناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول لما يتجاوز 160%، مما عجل ببرامج تمويل ضخمة من صندوق النقد الدولي لكوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا، لإنقاذ تلك الدول من الانهيار المالي ومنع تطور الأزمة عالميًا.

تكررت الأزمة مرة أخرى في الألفية الجديدة والتي بلغت ذروتها في عام 2008 فيما عرف بالأزمة المالية العالمية، والتي تجسدت نتائجها بشكل كبير في اليونان، صاحبة أزمة الديون السيادية الأكبر في أوروبا والتي اتسعت حجم مديونياتها بشكل مخيف تجاوز 400% من حجم الناتج المحلي الإجمالي لها، نتيجة الاقتراض غير المنضبط والشراهة في طرح السندات اليونانية بأسعار فائدة كبيرة والتلاعب بالأرقام الخاصة بالدين العام، وتزايد تخوفات المستثمرين في السندات اليونانية من عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ما دفع اليونان في 2010 لطلب حزمة إنقاذ من الاتحاد الأوروبي لإنقاذها من تفاقم عجز الموازنة وتدبير نفقاتها الجارية، والتي تكررت تلك الحزم عدة مرات بشكل استنزف كثيرًا البنك المركزى الأوروبي في دعم الاقتصاد اليوناني بمئات المليارات، في مقابل تخفيض كبير في العملة، وبيع الكثير من الأصول، ورفع معدلات البطالة بشكل كبير، ومرور اليونان بأزمات سياسية وانتفاضات جماهيرية كبيرة لعدة سنوات.

بإمكان الكثيرين الإلقاء باللوم على الدول الغنية والاقتصادات النامية في أزمات الديون المتكررة، وبإمكان الكثيرين أيضًا اللوم على الأزمات الدولية غير المتوقعة، مثل صدمة البترول، أو جائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية، وهي جميعها عوامل حقيقية تفاقم من المخاطر الاقتصادية العالمية، حيث أدت تلك العوامل بالإضافة لأزمات ارتفاع أسعار النفط لزيادة كبيرة في حجم مديونيات الاقتصادات الناشئة لأعلى مستويات لها تاريخيًا، وبشكل عام أصبح حجم الدين العالمي يتجاوز 235 تريليون دولار وفق تقديرات بلومبيرج لعام 2021.

تلك الأسباب المُربكة حقيقية ولا يمكن التغافل عن تأثيرها، أو التقليل من أهمية المراجعة الجماعية الدولية لأزمات الديون المتكررة وتخفيف أعباء الديون عن الدول النامية، لكن جوهر الأزمة الذي يضع الاقتصادات الناشئة في أزمة متكررة كل 10 سنوات تقريبًا، هو كثرة الاعتماد على الاستدانة دون مراعاة للاستدامة المالية، والسقوط في فخ الاقتراض من أجل تدوير القروض، والاعتماد المبالغ فيه على الأموال الساخنة لتلبية الاحتياجات التمويلية المحلية، ما يجعل تلك الدول معرضة دومًا للصدمات وانخفاض العملة وزيادة ضغوط الدين وارتفاع التضخم لمستويات قياسية.