في برنامجه “العقل زينة” الذي كان يبثه على إذاعة “صوت الشعب” اللبنانية (أو هل كان برنامج: تابع لشي تابع شي؟)، يحكي الموسيقي اللبناني العبقري زياد رحباني حكاية خيالية عبثية، عن مؤلف مسرحي كتب مسرحية بطلها أيضا مؤلف مسرحي تقوم الرقابة بمنع مسرحيته.

اقرأ أيضا.. الدين والتاكسي

وحين انتهى المؤلف المسرحي – الأصلي – من كتابة مسرحيته وذهب بها إلى الرقابة، اعترضت الرقابة على المسرحية ومنعتها.

وحين سألهم المؤلف: لماذا تمنعون مسرحيتي؟

أجابت الرقابة: منعنا مسرحيتك لأنك تكذب فيها وتدعي أننا نمنع المسرحيات!

لأسباب لم أتبينها فورا خطرت لي حكاية زياد الرحباني هذه حين تابعت زوبعة مشروع تقديم سيرة حياة الشيخ الشعراوي على خشبة المسرح القومي، منذ بدأت كإعلان من الفنان إيهاب فهمي مدير المسرح، مرورا بتأكيد الفنان كمال أبو رية لخبر اقتراحه بطلا للعرض المسرحي، ثم اعتذاره عنه، وصولا إلى نفي وزير الثقافة نيفين الكيلاني هذه الأنباء، معلقة بأن الاقتراح الذي قدمه مدير المسرح لم يكن بإقامة عرض مسرحي، وإنما بعرض أمسيات “!” خلال شهر رمضان عن بعض الشخصيات الدينية، ومؤكدة أنها أصدرت توجيهات بعدم الإعلان عن أي عروض قبل موافقة اللجنة المسؤولة عن اختيار الإعمال، برئاسة الفنانة القديرة سميحة أيوب وعضوية الفنان أحمد فؤاد سليم.

هو تراجُع إذن، إن شئت، لأن تصريح وزيرة الثقافة، واعتذار أبو رية، يؤكدان أن الدخان لم يكن بلا نار، ويبقى أن الفكرة؛ فكرة تقديم “أمسيات عن شخصيات دينية خلال شهر رمضان”، تبقى فكرة غريبة على المسرح القومي، تحول نشاطه – أو جزء منه-  إلى ما يشبه الصفحات الدينية التي تخصصها – أو كانت تخصصها – الصحف خلال الشهر الكريم، وهي –كما نعرف– كانت دائما صفحات إسلامية بحتة، لا نشهد لها مقابلا قبطيا في الأعياد المسيحية، ولكن هذا شأن آخر. كما أن الفكرة نفسها، فكرة أمسيات الشخصيات الدينية،  تفتح الباب للتساؤل حول معنى مصطلح “شخصيات دينية”، إذ درجت العادة على استخدام هذا المصطلح في سياق قصص الأنبياء، أو تابعيهم كالصحابة أو الحواريين، أما اعتبار داعية عاش في القرن العشرين “شخصية دينية” فهو أمر ينبغي التوقف أمامه، فهو يكاد يسحب عليه درجة من التقديس تشابه ما يمنحه إياها رجال من “العامة” هم – كما يفترض- أبعد ما يكونون عن الثقافة والوعي اللذين يميزان – أو يفترض أن يميزا – كل ما له علاقة بالمؤسسات الثقافية والمسرح القومي.

لكن ما علاقة كل ذلك بمسرحية زياد رحباني الآنف ذكرها، أظن أنها قد خطرت لي لأني تخيلت مشهدا عبثيا مشابها، تقدم فيه إحدى الممثلات دورها على الخشبة في مسرحية الشعراوي، وقد اقتنعت بتحريم الشيخ، أو رفضه، أو عدم تفضيله لاشتغالها بالتمثيل، فتعلن اعتزالها، كما جرى في الواقع مع ممثلات وفنانات قديرات تأثرن بفتاوى الشيخ الجليل خصوصا في حقبة الثمانينات، ومنهن من كن نجمات تألقن على خشبة المسرح القومي ذاته،  لكنها، أي الممثلة في مسرحية الشعراوي، إذ تبدي اقتناعها برأيه وتعلن اعتزالها، تقع في تناقض عبثي، تماما كالعبث في مسرحية الرحباني، إذ إن إعلانها اعتزالها في المسرحية، هو في حد ذاته دور مسرحي، جزء من إطار فني، إنها ممثلة حتى وهي – في المسرحية – تعتزل التمثيل. قد يذكرنا ذلك، بقدر من النكات كانت تعلق في الماضي على فيلم نبيلة عبيد الشهير “رابعة العدوية”(نيازي مصطفى 1963)، بسبب التناقض الكبير بين مشاهد النصف الأول من الفيلم ومشاهد نصفه الثاني، وهي نكات يصعب إيرادها هنا، ولا تقلل على أية حال من الفيلم المميز وخصوصا أغنياته الدينية الجميلة، لكنها بشكل عام كانت تذكّر بالتناقض نفسه؛ فإذا كان النموذج المثالي في الفيلم هو شخصية رابعة المتدينة التي صارت من أولياء الله الصالحين، فإن ذلك يعني بالضرورة رفضا أو توبة عن نموذج رابعة الجارية المحبة للهو والغناء، لكن الواقع أن نبيلة عبيد التي قدمت “الرابعتين”، قد تنتمي إلى رابعة الفنانة المغنية أكثر مما تنتمي إلى رابعة التي اعتزلت الناس وتفرغت للعبادة. لكن على أية حال، ليس التناقض الذي يخلقه الفن حين يتناول “الشخصيات الدينية” بجديد، ولهذا ليس غريبا أن ترفض المؤسسة الدينية عادة – أو تتردد إزاء-  تجسيد الشخصيات المقدسة.

لكن الرفض الذي أبداه كثير من المثقفين لتجسيد الشعراوي على خشبة القومي لا ينبع من تلك التناقضات، وإنما أغلب الظن  ينبع من المعرفة المسبقة بالطريقة التي كان سيتم بها هذا التجسيد، فإذا كان فن السير الذاتية في بلادنا لم يستطع – لأسباب كثيرة – أن يقدم أعمالا موضوعية، وإذا كان ذلك – البعد عن الموضوعية ونقاط الجدل – يتعاظم في حالة تناول موضوعات وشخصيات دينية، فإن المتوقع كان أن العمل (المسرحية أو الأمسية) كان سيسهم في مزيد من تقديس الشعراوي، بإقرار من المؤسسة الفنية الرسمية هذه المرة، وهذا ما كان أكثر صعوبة من احتمال العديدين، في وقت بدأت فيه قطاعات من المجتمع تتعامل أخيرا بقدر من الموضوعية مع آراء للشيخ لم تعد مقبولة اليوم، خصوصا فيما يخص المرأة وحقوقها وكرامتها، فضلا عن تصريحات وآراء سياسية هي في أفضل الأحوال، غير مقبولة، كتصريحه الشهير حول “السجود شكرا” بعد النكسة.

لمثل هذه التصريحات وغيرها الكثير، بخصوص نقل الأعضاء، والعلاقات الزوجية، و”الاختلاط”، والفن، ينبغي أن نرى الشعراوي يوما على خشبة المسرح، لكن بعد أن نضمن أن العمل الذي سيقدمه، سوف يتناول شخصيته الجدلية التي أثرت بقوة في المجتمع المصري حتى اليوم، بمعايير المسرح، وشجاعة الفن، وجرأة التناول، بلا تنميط أو تقديس، ولا يهم ساعتها أن يكون العمل مسرحية، أو أمسية، أو حتى أوبريت.