طغت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر منذ مارس الماضي على غيرها من الموضوعات، وباتت هي حديث الناس في البيوت والشوارع والمقاهي وأماكن العمل، والملفت أن المصريين اكتسبوا نوعاً من الوعي الاقتصادي جعل حديثهم لا يتوقف عند حد تأثير المشكلات الاقتصادية على حياتهم، أو حتى فزعهم من الغلاء وارتفاع الأسعار بل بات يتعدى ذلك إلى الحديث عن تخفيض قيمة الجنيه والتضخم، وارتفاع سعر الدولار، ونسبة الفائدة في البنوك، وتأثيرها على حياة الناس والركود الاقتصادي.

اقرأ أيضا.. حتى يكون 2023 عاما جديدا فعلا

ببساطة شديدة ازداد وعي الناس العادية بالمعلومات الاقتصادية بسبب متابعتهم اليومية تحت وطأة الأزمة، وبفعل خوفهم من الحاضر، وقلقهم من المستقبل، وبحكم شعورهم أن مستوى معيشتهم يتراجع، وأن متابعتهم اليومية تساعدهم في اختيار أفضل القرارات التي تحد من تأثير الأزمة عليهم.

المؤكد الآن هو هذا الإحساس العام بالخوف، وهو إحساس يزداد كلما انخفض الجنيه وارتفع الدولار واشتعلت نيران الأسعار، وارتبكت تصريحات المسئولين، وتناقضت الأفعال مع الأقوال، تلك  التي تبشر بغد مزدهر ثم تأتي الأحداث لكي تشير إلى أن الازدهار لن يأتي في القريب العاجل على الأقل.

في غمرة الأزمة الاقتصادية الصعبة، ووسط التصريحات والقلق وغياب الإجابات المنطقية لأسئلة الناس المشروعة يبدو أن هناك فريضة غائبة؛ ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمحنة الاقتصادية وتؤثر فيها، تلك هي فريضة السياسة المهمشة والممنوعة!

بكل ثقة فإن السياسة هي المدخل الأول للتعامل مع كل المشكلات المجتمعية، وهي نقطة البدء لأي حلول مرجوة، تلك قضية لا مجال للجدال فيها ولا للتشكيك في صحتها!

فبينما تئن الطبقات الفقيرة والمتوسطة بسبب ضربات الغلاء وتراجع قيمة العملة المحلية، تبدو السياسة في إجازة مفتوحة، فلا برلمان يحاسب ويسائل، ولا إعلام ينشر ويكشف ويحقق، ولا أحزاب تقدم بدائل وحلول وتطرح نفسها بديلاً سياسياً للسلطة الحالية، غابت السياسة بفعل حصار غير مسبوق للمجال العام، وملاحقات أمنية لكل رأي مختلف، وإغلاق تام لكل منافذ التعبير ولكل القنوات القانونية والدستورية التي يمكن أن تساهم بالرأي والفكرة في الحد من صعوبة الأزمة الاقتصادية، انفراد تام بالبلد وبالقرار السياسي، واستبعاد كامل للجميع باستثناء السلطة ورجالها الذين هم ليسوا أكثر من صدى لصوت النظام الحالي الذي يتردد وحده لا شريك له في كل أنحاء المعمورة.

في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة بات من الطبيعي أن تتحرك الأحزاب السياسية لتقدم ما لديها من حلول، وما في جعبتها من بدائل، وما تمتلكه من عقول، إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث قبل أن تؤمن السلطة الحالية أنها ليست وحدها في البلد، وأن هذا البلد ملك للجميع، وأن الحكم الفردي المطلق هو أحد الأسباب الرئيسية فيما وصلنا إليه من فشل وإخفاق، وأن استمرار الأوضاع بهذا الشكل لن يصب في خانة التقدم ولا الاستقرار، وأن صبر الناس بدأ في النفاد، وعليه فلا بد تغييرات جذرية تشمل الرموز والأفكار والسياسات والسياسيين، تغييرات جادة تبدأ الآن وليس غداً، تفتح أبواب الأمل في المقبل، وترسم خريطة طريق جديدة مختلفة بشكل كامل عن كل ما حدث طوال السنوات العشر الفائتة.

في مواجهة الأزمة الاقتصادية باتت السيطرة القاسية المفروضة على وسائل الإعلام طوال السبع سنوات الماضية نوعاً من العبث، فلا حلول يمكن أن تأتي دون تحرير وسائل الإعلام من سطوة الحصار، ودون أن تصبح الصحافة صوتاً للناس لدى السلطة لا صوت السلطة لدى المواطنين، تعبرعن اتجاهات الرأي العام بصدق وتجرد، وتحقق بشكل مهني في الأوضاع السياسية والاقتصادية، إعلام يفعل هذا وهو يشارك في  كشف المسكوت عنه، ويعلن للرأي العام كل صور الفساد والانحراف، فالمؤكد أن الفساد جزء من أسباب الأزمة الاقتصادية، يهدر الثروات، وينتهك القوانين، ويدفع المواطن تكلفته كاملة، وبذلك فإن الإعلام الحر شريك مؤكد في مكافحة الفساد وإهدار الموارد وظلم المواطنين.

في مواجهة الأزمة الاقتصادية لا يمكن أن يكون البرلمان تحت السيطرة، ولا يُقبل نزع أظافره أو منعه من المسائلة والمحاسبة التي هي حق دستوري له، فليس هناك ما يبدو منطقياً في منع مجلس نواب الشعب من تقديم استجواب برلماني واحد للمسئولين في السلطة، وليس هناك ما يبدو مقنعاً في تقييد حق البرلمان في رفض القوانين التي تزيد الأعباء على المواطن، أو تحاصر المؤسسات وعملها، أو إبعاده عن النقاش الجاد والموضوعي لمشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة، فالأصل أن صلاحيات البرلمان الدستورية تتيح له أن يشارك في وضع الأولويات الاقتصادية عبر مناقشة الموازنة العامة للدولة ورفضها أو تعديلها، والتحقق من أوجه الإنفاق، هذا الدور البرلماني الغائب والمتراجع منذ سنوات يشارك بالطبع في التخفيف من الأزمة الاقتصادية في حالة عودته بشكل جاد وحقيقي ومسئول، وهو خطوة في سبيل معنى أوسع وأهم يشمل توزيع المسئوليات بين مؤسسات الدولة، والتقليل من الانفراد بالسلطة والقرار السياسي والاقتصادي، وتوسيع قاعدة المشاركة والتقليل من نفوذ الحكم الفردي.

في مواجهة الأزمة الاقتصادية لا يمكن إلا تحقيق الاستقلال الكامل للقضاء، وبقاء السلطة القضائية كمؤسسة تصون حقوق المواطنين وتضمن حرياتهم من كل صور الظلم والجور، فالقضاء المستقل هو جزء من المعايير التي تقاس عليها تقدم الدول اليوم، وعليه فلا يمكن انتظار الاستثمار الأجنبي دون أن يكون الشعور العام يميل إلى أن القضاء مستقل تماماً، يضمن لأصحاب الحقوق حقوقهم القانونية، ويحمي المواطن والمستثمر وكل من يلجأ إليه من جور السلطة- أي سلطة- وفي مواجهة المشكلة الاقتصادية الحالية بات الدفاع عن استقلال دائم وجاد للقضاء جزء من المواجهة ومن الحلول العملية والمهمة.

من السياسة تبدأ الحلول الاقتصادية، فالسياسة هي التي تقود، وتطرح الحلول، وتطل بنظرة شاملة تتسع لا لمجرد الإجراءات الاقتصادية فقط بل للمؤسسات ككل، وللمجتمع بقواه الحية وعقوله وأفكاره، أما النظرة القاصرة والضيقة التي تنطلق من نقطة أن السلطة السياسية هي محور الكون فهي التي تسببت في جزء مهم مما نحن فيه، وهي التي ستبقينا في نفس مربع الأزمات التي لا تنتهي، فلا تغيير حقيقي بدون تغيير طريقة تفكير السلطة، والنظر لما هو أبعد من رجالها، والتعامل أن البلد كبيرة وغنية برموزها ومثقفيها ومؤسساتها، وأن لدى كل هؤلاء ما يمكن أن يكون بديلاً ومخرجاً لكل ما نحن فيه، والذي كان سببه الحكم الفردي وإقصاء الجميع، وصم الآذان عن سماع كل الأصوات العاقلة التي حذرت مما يمكن أن يحدث لمصر وشعبها.