إن الاهتمام بمسألة الصياغة القانونية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق، كما تعد نوعية الصياغة التشريعية والاعتناء بها مكونا هاما من مكونات الإدارة الرشيدة لما لها من أثر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد. ذلك بحسب أن النصوص القانونية التي يتم صياغتها، إنما هي التي تخاطب فئات الشعب المختلفة، وبالتالي تصبح لغة الصياغة ذات أهمية قصوى لصناع القانون وللمخاطبين بأحكامه.

اقرأ أيضا.. النساء وإجحاف حق التقاضي

وإذ إن السياسات التشريعية على اختلاف صنوفها، إنما تتجه جميعها إلى السعي نحو هدف تسعى لتحقيقه من خلال صياغة النص القانوني، كذلك تهدف إلى حماية حق أو رعاية مصلحة واجبة بالرعاية، حتى ولو في الحالات التي يكون النص متجها إلى منطقة تشريعية جديدة لم يتطرق لها من قبل، وذلك الأمر ينطبق على كافة المجالات التشريعية العامة منها والخاصة بحسب التقسيم القانوني المعتاد. والهيئة التشريعية دوما تكون في حاجة إلى استحضار هذه المعطيات وتفعيلها معا، لتحديد أهداف وملامح التشريع المرجو ثم لصياغته بالطريقة الملائمة وربما يراه البعض أمرا تنظيريا أكثر من اللازم، لكنه في الحقيقة تجسيد لمنطق بسيط وهو العقلانية والنظرة الشمولية في التعامل مع قضايا الصياغة التشريعية وقد اعتاد عليه النواب ومارسته البرلمانات طويلا، حيث كلما كانت ممارسة هذا النهج مستقرة وعامة كلما كانت جودة التشريعات أعلى وتوافقها مع مبادئ الديموقراطية والحكم الجيد، حتى ولو كان النواب البرلمانيون لا يجيدون اللغة الصالحة لصناعة القانون وصبه في قالب يصلح لمخاطبة المواطنين، فإن ذلك لا يعد مبرراً لأن يصدر النص التشريعي في صورة غير ملائمة أو متسقة مع أصول علم الصياغات القانونية.

إن القانون يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة.

لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟.

إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السسيولوجية. وإذ إن دولة الحق والقانون هي دولة مجتمع حيث تكون كل السلطات، بما فيها سلطة تكييف القوانين ومراقبة تطبيقها، خاضعة لمبدأ الشرعية.

وبالتالي فمسلسل بلورة القوانين يكون محددا ومشروطا دستوريا بحيث لا يمكن لأية قاعدة قانونية أن تنفلت بعيداً عن هذا المبدأ، وهذا ما ينعكس بالطبيعة على كيفية بناء القاعدة القانونية، ومدى توافقها مع المعايير الدستورية، ولا يكون ذلك من حيث شكل صناعة القانون فقط، بل يجب أن يكون ذلك متناسباً مع الاحتياجات المجتمعية ومتوافقا ومتماشيا مع طموح المجتمع، متناسبا مع كم التطورات التي تنال المجتمعات، ويستحق المجتمع أن يكون بينها.

ومن هنا فلابد التركيز على كيفية صناعة القوانين، وعن الهيئة التي تقوم به، ومدى ضمان حيادها وبعدها عن الخضوع لأية جهة فوقية تملي عليها ما يتناسب مع مصلحتها واحتياجاتها، لتصبه في صيغة قوالب تشريعية، وهذا الأمر ما لا يصب في خانة المصلحة المجتمعية، ولا يتماشى مع احتياجات المواطنين لتلك القواعد، وهذا الأمر من الممكن التعبير عنه بطريقة الصناعة الفوقية، وهي تلك الصناعة التشريعية التي تفرض على المواطنين دونما أية نقاشات أو احتياجات مجتمعية، وهي بالتالي تحول دون تحقيق فكرة العدالة، إذ أنها تسعى إلى تغليب مصلحة على مصلحة، ولا يكون الهدف من تلك النظم التشريعية تحقيق الاحتياجات المجتمعية في شكل قواعد تشريعية حقيقية تنظم تلك الاحتياجات، ذلك لكون القانون في أبسط مستوياته يتعلق بتخفيف حدة الصراع في المجتمع. عند وضع القوانين تحدد المجتمعات تحديداً دقيقاً لما يدفع إلى الصراع وتعمل على تجريمه، بعض الأشياء واضحة –مثل القتل والسرقة– وقد أدرجت في قوانين تمتد من العصور القديمة حتى الان. ومع ذلك، مع مرور الوقت وتغير المجتمعات، تتغير سلوكيات الناس وما كان مقبولاً في الماضي لم يعد مقبولاً والعكس صحيح، ولذلك تتكيف النظم القانونية بحيث يمكن أن توفر الوضوح والسياق للأعمال غير المقبولة. كما أنها توفر مبادئ توجيهية للعواقب المناسبة.

ولكن الملاحظ في العديد من التشريعات خلال العقد الأخير، ومن خلال انعقاد برلمان بهيئتين مختلفتين ولمدتين متتاليتين، فإن الصناعة القانونية على أقل التقديرات لم تكن على المستوى المطلوب لمخاطبة فئات الشعب، إذ أنها لم تراعي الحرفية المهنية والاشتراطات المتطلبة في كيفية خروج النص القانوني الملتزم بصياغته قاطعة الدلالة والتي لا تحتمل اكثر من معنى أو من السهل تأويلها لأكثر من اتجاه تفسيري، خصوصاً في ظل غياب او ضعف المذكرات التوضيحية للقانون، وغياب المناقشات البرلمانية عن الاتاحة للجمهور، وهو الأمر الذي يجعل العاملين في المجال القانوني في حالة من الصعوبة في التعامل مع تلك النصوص غير سليمة البنية، كما أن ذلك يجعل من القضاة في مهمة ثقيلة عليهم حال توجههم لمحاولة تفسير النصوص القانونية ومحاولة ضبط معانيها بما يتسق مع السياق القانوني العام، وبما لا يخالف القواعد الدستورية.

وإن كنت أرى أن أهم سبب لتلك الظاهرة التي أصابت البنية التشريعية المصرية هو انجذاب الأعضاء البرلمانيون لما تمليه الحكومة من مشروعات قوانين سواء كان ذلك من خلال صلاحيتها الدستورية في أن لها حق التقدم بمشروعات قوانين بشكل مباشر لمجلس النواب أو كان من خلال استغلال كتلتها البرلمانية التي تسيطر على أغلبية المقاعد النيابية.

والأمر هنا يتوقف على مدى رغبة أو قدرة أعضاء مجلس النواب في التقدم بمشروعات قوانين تعبر من ناحية اولية عن الاحتياج الشعبي لها، وتكون في صياغات قانونية تتفق مع أصول العلوم القانونية المعتبرة في هذا المقام، حتى ولو تطلب الأمر الاستعانة بمتخصصين في هذا العلم، لكن تبدو الأهمية القصوى في مدى تواجد الرغبة عند أعضاء مجلس النواب في تمثيل مقاعدهم ودوائرهم بجدية بما يحقق الصالح العام، وليس بالانضواء تحت لواء الحكومة.