في السوق المركزي بالقضارف بشرق السودان، يحسب محمد صديق تكلفة اضطرابات العام الماضي. ارتفع سعر الوقود الذي يحتاجه لتشغيل مزرعته بالقرب من الحدود مع إثيوبيا بنحو 300%. وزادت الرسوم المدرسية التي يدفعها لأربعة من أبنائه بنسبة 400%.
اقرأ أيضا.. البعثة الأممية في السودان “يونيتامس”.. آلية حل يعترضها العسكر وقوى دولية
تقول افتتاحية مجلة الإيكونوميست البريطانية، إن مثلما أضرت الاضطرابات في بورتسودان المجاورة بصادرات المزارعين، خفض البنك الزراعي المملوك للدولة الدعم الذي يقدمه للفلاحين.
يقول صديق بحسرة: “الآن أصبحت مديونا.. جلب محصولي من السمسم والذرة الرفيعة مؤخرا نصف ما كان عليه في العام السابق”.وهو ما أكده بعد وضع كيس من الحمص على المنضدة التي اشتراها بالدين من أحد التجار.
دخل الاقتصاد السوداني، الذي يعاني بالفعل من التدهور الحاد، حالة من الركود غير المسبوق العام الماضي. ورغم الانخفاض الأخير في معدلات التضخم، إلا أنه لا يزال ثلاثة أرقام أي من بين أعلى معدلات التضخم في العالم.
تقول أرقام الأمم المتحدة إن ثلث السودانيين أو حوالي 15 مليونا من عدد السكان البالغ عددهم 44 مليونا، يحتاجون إلى مساعدات طارئة مثل المياه النظيفة أو المأوى أو الطعام. كما يوجد ما يقرب من 12 مليون سوداني يعانون من الجوع.
الإهمال الطويل للمنطقة من قبل الحكام المتعاقبين في الخرطوم عاصمة السودان، ترك تأثيرات عميقة على الأرض والسكان. الأزمة الأخيرة تهدد بإعادة فتح هذه الأزمات مجددا.
ورغم الصدمة السعرية التي أحدثتها حرب أوكرانيا، لكن يظل السبب الرئيسي للمشكلات السياسية والاقتصادية في السودان هو الانقلاب الثاني، الذي جاء بعد أقل من ثلاث سنوات من قيام المتظاهرين بإسقاط عمر البشير، الديكتاتور ذو الخلفية السياسية المنتمية لتيار الإسلام السياسي الذي حكم البلاد لمدة ثلاثة عقود.
ووسط انتفاضات ضخمة، استولى الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، الرئيس الحالي، على السلطة. عندما استمرت المظاهرات، وافق الجنرالات على تقاسم السلطة مع قادة الاحتجاجات ووعدوا بإجراء انتخابات في عام 2022.
لكن حرصا منهم على تجنب مصير البشير (الذي يحاكم الآن)، سرعان ما بدأوا في لوم شركائهم المدنيين على سوء إدارة الاقتصاد والخدمات العامة. ليقوموا في أكتوبر 2021 بانقلاب ثاني على الحكم.
منذ ذلك الحين، يخرج المتظاهرون إلى الشوارع كل أسبوع تقريبا. أدى الانقلاب إلى تسريع انهيار الاقتصاد. إذ حجب المانحون الغربيون والبنوك المتعددة الأطراف عشرات المليارات من الدولارات التي تعهدوا بها لإنقاذ الاقتصاد السوداني ودعم انتقاله إلى الديمقراطية. من ناحيتها ردت الحكومة بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام، ما أدى إلى موجات من الإضرابات والاحتجاجات.
يصف فولكر بيرتيس، الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان الأمر قائلا: “الاقتصاد توقف”.
الانقلاب أدى أيضا إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار المزمن. وبدلا من النظام الصارم، انتشرت الجريمة والفوضى، وتشير الأرقام إلى أنه بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/ تشرين الأول 2022، أجبر أكثر من 265 ألف شخص على ترك منازلهم بسبب العنف. “الحكومة ضعيفة”.. يشكو خالد موسى، تاجر في القضارف، تعرض منزله للسرقة مؤخرا في وضح النهار.
من ناحية أخرى تشهد ولاية النيل الأزرق تصاعدا كبيرا في أعمال العنف خاصة فيما يتعلق بالأراضي والتمثيل السياسي. ويرجع جزء من تفسير هذا الاضطراب إلى فراغ السلطة في الأطراف الأكثر فقرا في السودان.
يقول وليد ماديبو، أستاذ العلوم السياسية في الخرطوم: “لقد فقد المركز قبضته على السلطة”. يأتي هذا في الوقت الذي استقال فيه نحو 11 ألف شرطي من العمل بسبب الرواتب المنخفضة. ونقل آخرين من النيل الأزرق إلى العاصمة. “لهذا السبب يمكن لأي شخص أن يفعل ما يشاء”، يقول عباس بشير، مدرس في منطقة القضارف.
لكن الكثيرين يشكون في أن السياسيين والجنرالات هم أنفسهم وراء بعض هذه المشكلات. إذ أنهم حكموا منذ فترة طويلة الولايات البعيدة من خلال شبكات من الأرستقراطيين الإقليميين والزعماء التقليديين المعروفين باسم “الإدارات المحلية”.
حدث هذا لفترات يعود تاريخها إلى الفترة الاستعمارية البريطانية، ورعاها البشير فيما بعد كأدوات للسيطرة. ويبدو أن الكثيرين كانوا غير سعداء بالإطاحة به. وبحسب زعيم قبلي في القضارف، دعمت إدارتان من أصل أربع إدارات محلية في الولاية، الانقلاب على الثورة على أمل إعادة النظام القديم.
ما سعر الولاء؟
يقول خبراء إن بعض هؤلاء الزعماء القبليين يحاولون ممارسة السياسة، أو أن يتم استخدامهم للعب السياسة في الخرطوم. ففي عام 2021، على سبيل المثال، فرض زعماء قبيلة البجا في ولاية البحر الأحمر حصارا دام ستة أسابيع على بورتسودان، ما أدى إلى تفاقم نقص الغذاء والوقود في العاصمة.
وبعد أسبوع واحد فقط من الانقلاب، رُفع الحصار وانخفضت الأسعار. في الآونة الأخيرة، أبرم نائب رئيس المجلس العسكري في السودان وأقوى رجل فيها، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، صفقات في الشرق “النيل الأزرق”.
بالإضافة إلى كل ذلك تتمتع ولايتي القضارف وكسلا بالأراضي الخصبة والذهب. كما يوجد على ساحل البحر الأحمر موانئ تتطلع إليها روسيا وداعمو المجلس العسكري السوداني في دول الخليج.
في العام الماضي، قام حميدتي بجولة في المنطقة، حيث وزع سيارات لاندكروزر على زعماء القبائل مقابل الولاء. ومنذ ذلك الحين، انشق المجلس الأعلى للبجا، وهو مجموعة من زعماء القبائل الشرقية المسؤولة عن محاصرة الميناء. يتهم البعض “حميدتي” بالوقوف وراء تلك الانقسامات.
في ديسمبر 2022، وقع زعماء الكتلة المدنية والمجلس العسكري اتفاقا جديدا يعد بحكومة مدنية بشكل كامل وإجراء انتخابات في غضون عامين. ومن المنتظر أن يجلب الاتفاق فترة راحة لاقتصاد السودان من خلال تمهيد الطريق للمساعدات الخارجية والإعفاء من الديون. يقول دبلوماسي غربي: “إذا نظرت إلى الأمر بموضوعية، فهو في الواقع صفقة جيدة جدا”.
الجنرالات من جانبهم متفائلون، إذ إن الاتفاق “تم قبوله في جميع أنحاء العالم”، كما يقول أحد أعضاء المجلس العسكري.
لكن الاتفاقية تفتح أيضا ثغرات خطيرة. إذ يعتبرها نشطاء بمثابة شريان حياة للمجلس العسكري. كما تعهدوا بالتظاهر حتى يترك الجنرالات السلطة. ومع ذلك، وجدوا أنفسهم في صحبة محرجة للعديد من القادة من الأطراف الذين دعموا الانقلاب. ومن هؤلاء المتمردين السابقين جبريل إبراهيم، وزير المالية الحالي، وميني ميناوي، الحاكم الجديد لدارفور.
ويمكن اعتبار الاثنين غير راضين عن تعهد الاتفاقية بإعادة النظر في اتفاق آخر تم توقيعه في عام 2020، ذلك الاتفاق الذي جلب المتمردين من دارفور وجنوب السودان إلى الحكومة المشتركة. كما يصطف زعماء القبائل من الشرق، مثل سعيد تريك، رئيس مجلس البجا الأعلى، ضد الصفقة، واصفا إياها بـ”غير الإسلامية” والأداة في أيدي القوى الأجنبية.
وتبدو مثل هذه التهديدات الآن جوفاء، لكن لا يمكن تجاهلها: “فقد عانى شرق السودان من تمرد طويل الأمد حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. تقييمنا هو أن مركز المعارضة، سيأتي من الشرق”.. تقول بعثة الأمم المتحدة في السودان.
المحادثات جارية الآن في الخرطوم العاصمة لتعيين رئيس وزراء مدني جديد. ومن المقرر أن تبدأ قريبا مفاوضات حول القضايا الشائكة، بما في ذلك محاكمة الجنرالات بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. يقول أحد أعضاء المجلس العسكري: “نحن ملتزمون جدا بالعدالة الانتقالية”.
لكن إرضاء التحالف المتنوع لأولئك غير الراضين عن اتجاه التحول الهش في السودان سيكون صعبا. “مخدوعون” قال السيد تريك في خطاب ألقاه مؤخرا. إنها لازمة يتردد صداها عبر التاريخ السوداني – وهي لازمة بمثابة تذكير بالتغير الضئيل منذ سقوط البشير.