في مصر، منصب الرئيس ممنوع من الصرف، ليس لعلة واحدة بل لعلتين؛ الأولى أنهم جميعًا لم يأتوا إلى المنصب عبر صندوق انتخابات نزيهة وحقيقية. الثانية أن تراث «الفرعنة» ما يزال راسخًا في مصر رسوخ أهراماتها، وما زال يجري في عروقها مجرى النيل في أرضها.

منصب الرئيس في مصر ممنوع من التداول إلا في إطار ومسار، إطار الأسرة الحاكمة، أو القوة الغاشمة، ومسار تواصل النخبة الحاكمة، يحتفظون بالمنصب في جعبتهم عبر توريثه، يتوارثونه جيلًا من بعد جيل، حفاظًا على مصالحهم، وخوفًا من قومة الشعب المصري التي تزول بعدها دولتهم الغاصبة للسلطة.

منصب الحاكم في مصر لم يعرف عبر التاريخ الطويل واحدًا جاء إلى دكة الحكم، واستمر فيها برغبة المصريين، بعضهم تولى الحكم برضا شعبي، بعضُه جارف، لكنهم سريًعا ما يفقدون هذا الرضا، وتفقدهم تلك الجموع التي كانت في يوم من الأيام في صفوفهم.

مشكلة الرئيس الفرعون أنه هو «صاحب كل السلطات، ومنبع كل التشريعات، ومصدر كل القرارات»، ولذلك فإن تأبيد منصب الرئيس في مصر هو المشكلة، والرئيس السابق هو الحل.

شعب مصر محكوم دائمًا بالغزاة والمحتلين، أو بالطغاة والمستبدين.

غزاة ومحتلون من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، ظل التاريخ أزمانًا طويلة يُصنع على أرض مصر تحت حكم غير المصريين، كان المصريون غالبًا محكومين لا حاكمين، كانوا في الأغلب الأعم من تاريخهم مغلوبين على أمرهم، كانوا رعية لرعاة من غير جلدتهم، كانوا دائمًا هم أسفل الهرم الذي يحتل قمته الطغمة الحاكمة.

التاريخ في مصر ليس مصريًا، لأن التاريخ المكتوب هو على الحقيقة تاريخ الذين حكموا مصر، ولن تجد على طول تاريخ مصر إلا حكامًا غزاة أو محتلين، طغاة أو مستبدين.

الظاهرة الأوضح في ذلك التاريخ أنه يكاد يخلو من الحاكم السابق على قيد الحياة، لأن التداول المسموح به في منصب الحاكم هو التداول بالعزل أو بالخلع أو بالقتل.

دع جانبًا نظام الحكم، مشكلتنا ليست هنا، فقد تعاقبت علينا أنظمة حكم متعددة، ومختلفة، عانينا الفرعونية والملكية والمملوكية والجمهورية، حكمنا حكام مستقلون، أو ولاة تابعون للإمبراطور، أو الخليفة، لكن ما يجمع بينهم جميعًا تأبيد الحاكم على كرسي الحكم، لا يتركه إلا معزولًا أو مخلوعًا، أو مقبورًا.

قبل ارتقاء محمد علي دكة الحكم في مصر، كان حكام مصر يعينون من الخارج، أو يقفزون على الحكم بقوة السلاح، ثم جاء محمد علي بتوليفة من كل هذه الأسباب، ومعها تزكية شعبية توسمت فيه القيام بدور المنقذ.

لم يكن الشعب قبل ذلك حاضرًا في تولية حكامه.

إلا هذه المرة منذ أكثر من قرنين، وسرعان ما انقلب الحاكم الذي ولاه الشعب بإرادته الحرة على العهود التي تمت توليته على أساسها، بل وانقلب على الذين جاءوا به إلى الحكم.

وظل يعمل أربعين سنة متواصلة على تثبيت حكمه، ولم يكن له هدف غير أن يحصل لأسرته على الأحقية في ولاية مصر، واستمر حكم الأسرة العلوية أكثر من قرن ونصف، خُلع منهم من خلع، وعُزل منهم من عُزل، ولكنهم ظلوا يحكمون مصر خمسة عشر عقدًا، سواء في ظل الخلافة العثمانية، أو تحت الوصاية الأجنبية، أو في كنف الاحتلال الإنجليزي، حتى انقلب عليهم الجيش، وأسس لنظام جمهوري، ولم يختلف الأمر فقد بقي تداول السلطة أمرًا خارج التحقق.

بعد ثورة يوليو عرفت مصر ظاهرة الرئيس الفعلي، والرئيس الانتقالي، بدأت الظاهرة مع بدايات ثورة 1952 وتكرست على مدار السبعين سنة الماضية، شغل منصب الرئيس تسعة، منهم ثلاثة رؤساء لفترات انتقالية، أشهرهم المشير محمد حسين طنطاوي وآخرهم المستشار عدلي منصور، وبينهم الدكتور صوفي أبو طالب.

ليس من سلو بلدنا أن يكون فيها رئيس سابق على قيد الحياة.

لن تجد في مصر غير رئيس واحد، هو الرئيس الحالي، وأحيانًا قليلة يكون معه الرئيس المؤقت، كل الرؤساء السابقين طوتهم القبور، أو غيبتهم السجون، أو تحديد الإقامة فيما يشبه السجن الطويل في حالة الرئيس محمد نجيب.

يغطي الحكام الانتقاليون فترة انتقال الحكم إلى صاحب السلطة الفعلية، والقوة الحقيقية حتى يعتلي سُدة الحكم، فقط هؤلاء يصيرون حكامًا سابقين على قيد الحياة بعدما أدوا دورهم المرسوم بكل تفانٍ وإخلاص لصاحب السلطان الحقيقي.

المؤقتون وحدهم يعودون إلى حياتهم السابقة كأن شيئًا لم يكن، لم يكونوا رؤساء على الحقيقة، إلا في لوائح التشريفات، أمضوا فترتهم الانتقالية، قاموا خلالها بدور الرئيس، بدون صلاحياته الحقيقية، فخرجوا حين انتهت أدوارهم، سواء من قصُر دوره إلى أسابيع قليلة، كما في حالة صوفي أبو طالب، أو طال إلى سنة رئاسية كما في حالتي المشير طنطاوي، والمستشار عدلي منصور.

الرئيس الفرعون يتأبد في الحكم إلى واحدة من تلك النهايات المعروفة.

آخر فراعين مصر الذي خلعته ثورة 25 يناير حكمنا ثلاثين سنة متصلة بدون انقطاع، عاصر خلالها 5 رؤساء حكومة في إنجلترا، كما تتابع عليه 9 رؤساء حكومة في إسرائيل، وثلاثة رؤساء فرنسيين، وفي أمريكا تداول السلطة 5 رؤساء، جمهوريين وديمقراطيين، ثلاثة منهم حكموا لدورتين رئاسيتين، واثنان حكموا لدورة رئاسية واحدة.

في ظل حكم الفرعون لا يمكن أن يكون هناك رؤساء سابقين، وحده النظام الديمقراطي الذي يعرف ظاهرة الرئيس السابق.

في إنجلترا اليوم هناك سبعة رؤساء حكومة سابقين على قيد الحياة.

في أمريكا اليوم يعيش خمسة رؤساء سابقين، كانوا إلى وقت قريب ستة سابقين، وفي تاريخ أمريكا القصير كانت هناك أربع فترات زمنية عاش فيها ستة رؤساء أحياء (الرئيس الحالي ومعه خمسة رؤساء سابقين).

لا تسألوا عن الحصيلة والحساب الختامي، فهناك على الجانب الآخر بلادٌ تتقدم، وتتغلب على مشاكلها، وهنا بلادٌ تأكلها نيران التخلف، ويصادر مستقبلها استبدادٌ عقيم.

الطريق إلى الديمقراطية في مصر مشواره طويل.

لم يحدث أن تحققت ديمقراطية عبر مؤسسات غير ديمقراطية، الاستبداد استوطن مصر، اختلف من حيث الشكل، لكن بقي الجوهر واحدًا، وسيطر حكم الفرد الذي تفرد بمقاليد الحكم، وأمسك بالقرار في يده لا ينازعه فيه أحد، وظل هدفه الأساسي ليس احتكار السلطة فقط، ولكن الأهم هو القضاء على أي إمكانية لأن تتطلع أي قوى سياسية أو فرد إلى المنصب المفخخ بعشق السلطة وشبق التسلط.

كيف يمكن أن يظهر منافس حقيقي في ظل ما نعيشه من «تجريف للسياسة»، وتجفيف ينابيعها، ومحاصرة أحزابها، وتقييد حريتها، وحصر أنشطتها داخل أسوار مقراتها، وتلويث سمعة المنتمين إليها، وتوجيه أشنع التهم التي تحط من كرامة كوادرها، مرة بالخيانة، وأخرى بالتعاون مع جهات أجنبية، وثالثة بالاشتراك مع الجماعة المحظورة في التآمر على الدولة.

الحال التي وصلت إليها أحزاب مصر ليس لعيبٍ فيها، وضعف الحالة الحزبية ليس لأسباب تكوينية تخصها، بل هي على الحقيقة إدانة للسلطة قبل أن تكون عيبًا في الأحزاب، حيث كل نشاط السلطة ينصب على منع ظهور أي منافسة حقيقية على الحكم، وكل هم الحاكم واهتمامه ينحصر في منع ظهور منافس حقيقي يستطيع كسر حاجز احتكار السلطة.

عندما لا تُستبدل السلطة التنفيذية، فهي إذًا دكتاتورية.

هذا هو أبسط تعريفات الديكتاتورية، وقد نجح الاستبداد في مصر في إبعاد منصب الحاكم عن التداول، وجعل «منصب الرئيس» ممنوع الاقتراب أو التفكير، وقتل عن سبق إصرار مبدأ تداول السلطة.

فتح المجال لتداول منصب الرئيس هو في الحقيقة فتح الطريق إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية في مصر، مجرد أن تعرف مصر ظاهرة خروج الرئيس من الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة قضائيًا وشعبيًا، هي نقلة كبيرة إلى الحكم الرشيد، أن تعرف مصر ظاهرة الرؤساء السابقين على قيد الحياة هو تطور كبير لضمان مستقبل أفضل لمصر والمصريين.

انسداد الأفق السياسي، واستمرار الأزمة الاقتصادية بدون حلول ناجعة، مع وطأة الآثار الاجتماعية المتزايدة، هذه التركيبة المعقدة من الأزمات تصنع أوضاعًا لا يمكن لها أن تستمر طويلًا.

لم تعد التبريرات المقدمة من النظام لاستمرار تفاقم الأوضاع صالحة للتداول في الفترة المقبلة.

الوضع الذي تجد المعارضة نفسها فيه بعد دعوة لحوار لم تترجم حقيقة على أرض الواقع إلا على مستوى الشكليات، غير مرشح بدوره للبقاء طويلًا في تغطية عناد السلطة وتجاهلها للمضي في طريق الإصلاح الشامل الذي باتت مصر في أشد الحاجة إليه.

مصر تحتاج إلى تغيير سياسي واقتصادي شامل.

بعد الفشل في إدارة الملف الاقتصادي، والإصرار على غلق المجال السياسي، مصر في حاجة ماسة إلى تغيير وتعديل ـ وربما نسف ـ قواعد اللعبة السياسية، السلطة والمعارضة في أشد الحاجة إلى الرشد السياسي، حتى لا يأتي العام 2024 ليكرس الأزمة ويعمقها ويدفع بها إلى الانفجار.

قواعد اللعبة السياسية القائمة لم تعد صالحة للاستمرار، والبداية من تغيير القوانين المتعلقة بالانتخابات، والعلامة على حصول الرشد تبدأ من انفتاح سياسي ينهي مأساة غلق المجال العام، ويشرع في السير عكس الاتجاه الذي ساد طوال العشرية الماضية.
المعارضة -والسلطة قبلها- أمام استحقاق جاد في بدايات العام 2024، وهما مطالبتان معًا بالتوافق على بوابة الخروج.

بوابة الخروج الحقيقية تدخلنا مباشرة إلى عصر تداول السلطة، وهو العصر الذي لن يبزغ نوره على مصر إلا بتداول منصب الرئيس، وأن تعرف مصر ظاهرة الرئيس السابق على قيد الحياة، يقضي بقية حياته بين الناس، ويعيش بقية عمره مواطنًا سيدًا في وطنٍ سيد.

الفريضة الغائبة في مصر هي تداول السلطة.

مصر التي عادت أدراجها إلى الأوضاع نفسها التي ثارت عليها الملايين في يناير في حاجة ماسة إلى حفل اعتزال كبير وجماعي لكل هؤلاء الذين تصدروا المشهد طوال السنوات العشر الماضية.

مصر في حاجة ماسة إلى تجديد الدماء، وتصحيح الأخطاء، وإعادة تحديد الأولويات.

والأهم أنها في حاجة ماسة إلى كسر الصيغة السياسية التي ترتكز -أولًا- على احتكار الفئة الحاكمة لحق اختيار الحكام جميعا، وعلى رأسهم رئيس الدولة، دون اعتبار لإرادة الشعب وقواه السياسية وأحزابه الوطنية، وهي الصيغة نفسها التي تقوم -ثانيًا- على قاعدة التركيز الشديد للسلطة في يد رئيس الدولة دون سواه.

الطريق إلى تداول منصب الرئيس يبدأ في 2024، ولا ينتهي إلا بتوفيق أوضاعنا لإقامة جمهورية جديدة على الحقيقة.

العبور إلى الجمهورية الجديدة يبدأ من تداول منصب الرئيس.

قد يرى البعض أن الأغلبية التي اصطلح على تسميتها بحزب الكنبة يفضلون الأمن والاستقرار على الحرية والديمقراطية، وأن الظروف الاقتصادية الصعبة لن تجبر قطاعات شعبية كبيرة على المغامرة الثورية والسياسية على نطاق واسع مرة أخرى، فالناس أمام خيارين أحلاهما أمر من الآخر، إما الفوضى أو بقاء الوضع المأزوم.

ولكني أزعم أن السلطة تعي تمامًا أن 2024 تختلف عن 2014، عشر سنوات مرت، اختلفت فيها أمورٌ كثيرة، وتبدلت خلالها أوضاع كانت مستقرة، واختلفت مسوغات التجديد ودوافع الاستمرار.

انتخابات 2014 ومن بعدها انتخابات 2018 باتت سيناريوهاتها غير قابلة للتكرار، والتاريخ لا يعيد نفسه إلا في مهزلة أو مأساة.

الانتخابات الرئاسية المقبلة تحتاج أولًا على ضمانات نزاهتها، وتحتاج ثانيًا إلى مرشحين حقيقيين.

لم يعد مستساغًا، ولا مقبولًا أن نعيد إنتاج السلطة القائمة في ظل اختلاف الوضع السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتكاثر الأزمات المتروكة بدون حلول، وانسداد الأفق، وغياب الأمل، وفقدان الثقة في إمكانية التجاوز.

نقطة الانطلاق هي التوجه إلى تداول السلطة.

لا مناص من البحث عن نقطة انطلاق، وموعد قريب، وجدية حقيقية، وتجرد من حظوظ النفس من أجل المصلحة العامة.

والموعد المقترح في انتخابات الرئاسة المقبلة 2024، يبقى الجدية المطلوبة، ونعول على تجرد الجميع من أجل المصلحة العامة.

منصب الرئيس هو المنصب الذي يجُبُ كل ما عداه، في كنفه كل السلطات، وملك يمينه كل القرارات، هو مَصدر كل سلطة، ومُصدر كل تشريع.

لذلك فلا إصلاح يُرتجى في منظومة الحكم في مصر بدون البدء في إصلاح موضع وموقع الرئيس في نظامنا السياسي.

أمام الرئيس السيسي فرصة تاريخية ليضع اسمه في سجلات الوطن كأول رئيس يرعى الانتقال إلى الديمقراطية.

بداية الطريق الصحيح من هنا، من جعل التداول في منصب الرئيس واقعًا دستوريًا وقانونيًا لا يمكن الالتفاف عليه او تجاوزه حتى يصير لدينا رئيس سابق على قيد الحياة.