واهم من يتصور أن مشهد هجوم النواب على وزير التموين في البرلمان قبل أيام، قد يخفف من احتقان وغضب الناس من تراجع مستوى أحوالهم المعيشية، وخاسر من يراهن على أن مطالبة بعض هؤلاء النواب بإقالة الوزير أو حتى بحكومة مصطفى مدبولي قد يقنع المواطن أن المجلس الموقر يمارس دوره الدستوري في مساءلة المسئولين ومحاسبتهم.
اقرأ أيضا.. «وثيقة ملكية الدولة» و«ورقة أكتوبر»
يعلم الناس علم اليقين كيف تم هندسة هذا البرلمان بغرفتيه قبل عامين، ويعرفون جيدا أن المخرج الذي يتحكم في كل أدوات ومشاهد العرض بالكامل، هو أيضا من كتب السيناريو والحوار وحدد لكل ممثل دوره بعناية لا يمكن أن يتجاوزه أو يخرج عليه ويرتجل مهما كانت الضرورة.
عمليات استدعاء بعض الوزراء في مجلس النواب جزء من عرض مسرحي أو فيلم سينمائي مل الجمهور من متابعة مشاهده، بعد أن أثبتت لهم التجربة أن كل من يعتلون الخشبة أو يقفون أمام الكاميرا لا يملكون من أمرهم شيئا، لا ينطقون عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يجد هذا الجمهور لا الوقت ولا الجهد لمتابعة أي شيء قد يعطله عن رحلة البحث عن توفير احتياجاته الأساسية.
عندما أغار نواب المجلس الموقر الأسبوع الماضي على وزير التموين علي المصليحي لتقصيره في «الرقابة على الأسواق والسيطرة على أسعار السلع ومواجهة الاحتكار وتفعيل دور جهاز حماية المستهلك»، استقبل الوزير هذا الهجوم بابتسامة ساخرة وكأنهم يقول لزملائه السابقين «عيب يا جماعة ده إحنا دافنينه سوى».
نواب المجلس اعتبروا أن استقبال الوزير لهجومهم بتلك الابتسامة شكل من أشكال الاستفزاز «ابتسامة الوزير ما هى إلا استفزاز لنا، نحن نواب الشعب لماذا هذا رد الفعل؟ ولا إجابات عملية لديه»، قالت إحدى النائبات، فيما سرد آخر قصة أقرب إلى نكتة «بجملة الضحك والكوميديا النهاردة والوزير بيضحك، عندى نكتة من 2018، مواطن حُذفت زوجته من بطاقة التموين بحجة إنها متوفاة، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن يحاول إثبات إن زوجته على قيد الحياة» قال النائب محمود بدر وهو ينتقد الوزير على ابتسامته و«أنعرته على المواطنين».
المستشار حنفي جبالي رئيس المجلس من جهته حاول التخفيف من حدة الهجوم على الوزير الحالي ونائب البرلمان السابق، وطالب نواب مجلسه بالتزام الهدوء وتساءل وهو يوزع لهم الابتسامات «مالكم النهاردة في فرط حركة ونشاط زائد.. هو انتم عندكم حاجة بعد الجلسة مثلا».
وأضاف جبالي محدثا أعضاء مجلسه: «قل اللي أنت عايزه بموضوعية وهدوء لكن يزداد حماسك مش هتعرف تنظم كلمتك والوقت هيضيع منك، لكن الكلام بهدوء ستنهي كلمتك في الوقت المحدد».
الوزير بدوره ومع ارتفاع منسوب النقد والهجوم، تحولت ابتساماته الساخرة المستفزة إلى نظرات لوم وعتاب إلى زملائه الذين جلس معهم لنحو 3 سنوات على مقاعد النواب، حاول وهو يدافع عن نفسه أن يلتزم بالسيناريو وألقى باللوم كغيره من المسئولين على الأزمة العالمية والحرب الدائرة في شرق أوروبا .. إلخ.
لكن مع شدة الضغط ومطالبة النواب بأن تحدد الوزارة أسعارا للسلع، اعترف الرجل بأن هناك قصورا وتقصيرا من الحكومة في التعامل مع أزمة ارتفاع أسعار السلع «حتى أخلي مسئوليتي، لا يوجد معنى للتسعير ولن نعود للستينات.. لا يوجد أي نص تشريعي يسمح للحكومة بالعودة للتسعيرة الجبرية».
وأشار إلى أن الموجود حاليًا لتنظيم الأسواق، هو قانون منع الممارسات الاحتكارية، لافتًا إلى المادة التي تجيز للحكومة تسعير سلعة معينة في ظروف معينة لمدة محددة عن طريق وزير التموين بالعرض على مجلس الوزراء وفي هذه الحالة يصدر قرار من مجلس الوزراء بالتسعير، وقال «لم نستخدمه إلا في 2017 أثناء أزمة السكر».
وحول غياب الرقابة على الأسواق اعترف المصيلحي أن الرقابة ضعيفة جدا، مرجعا ذلك إلى عدم وجود تعيينات في وزارته منذ عام 1995، «هناك قرار سابق من الحكومة بمنع التعيين فى الحكومة الا بشروط و البديل هو الانتداب من جهات حكومية أخرى».
نفس الحجة التي استخدمها المصليحي لتبرير ضعف الأداء في وزارته استخدمها وزير التعليم السابق طارق شوقي العام الماضي عندما تعرض لنفس الموقف في مجلس النواب قبل عام، فعندما واجهه النواب بأزمة كثافة الفصول ونقص عدد المدرسين قال: «لا يوجد معانا فلوس للتعيينات.. التعيينات بالجهاز الإداري للدولة ليست بيدي ولا يوجد قانون يعاقب على فكرة عدم التعيين، وهذا الأمر أريد دعمكم لي فيه.. أنتم بتوع القوانين».
قبل أسابيع تعرض السيد القصير وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، لموقف مشابه، وناله ما نال زميليه الحالي المصليحي والسابق طارق شوقي من هجوم وانتقادات حادة بسبب أزمة نقص الأعلاف والأسمدة وغياب خطط واضحة لتسويق وبيع وتسعير المحاصيل الزراعية وعلى رأسها الأرز والقطن وقصب السكر.
القصير كان أكثر ثباتا ورباطة جأش ورد على منتقديه بدعوتهم لزيارة المشروعات التنموية الزراعية الكبرى والعملاقة التي توليها القيادة السياسية اهتماما خاصا مثل مشروع توشكى الخير ومشروع مستقبل مصر.. إلخ، ألقى الرجل بالكرة في ملعب القيادة السياسية التي تولي هذه المشروعات وهذا الملف كل رعاية، وهو يعلم أن لا أحد من منتقديه يجرؤ على الاقتراب من القيادة السياسية.
وكما لم يول الناس أي قدر من الاهتمام بمشاهد هجوم النواب على الوزراء في البرلمان، لم يسألوا أيضا إلى ما انتهت هذه المشاهد، «هل نتج عنها حل للمشاكل الحياتية اليومية التي تواجه المواطنين؟.. وهل انخفضت أسعار السلع والخدمات؟ وهل توقف الارتباك في القرارت الصادرة عن متخذي القرارات؟، وهل وُضعت خطط واستراتيجيات لعلاج الأزمات المتلاحقة؟ وهل عندما لم يتم كل ذلك جرؤت أي كتلة نيابية على تقديم استجواب لسحب الثقة من وزير ما أو من الحكومة برمتها؟ وهل وهل وهل؟».
بالطبع لا توجد إجابات لكل تلك الهلهلات، لأنه باختصار لا يحدث شيء، كل أزمة يعقبها أزمة، والمشاكل الاقتصادية تتفاقم، وسوء التخطيط مستمر وأجندة الأولويات مقلوبة، والكل يعلم أن هؤلاء الوزراء ما هم إلا موظفون ينفذون تعليمات مخرج العرض كما ينفذ معظم زملائهم من نواب البرلمان أوامر ذات المخرج.
الأصل أن يُساءل نواب الشعب وزراء الحكومة ويستجوبونهم عن «الشئون التي تدخل في اختصاصتهم»، وفق ما نصت عليه مواد الدستور الذي أقسم النواب على احترامه، لكن لأننا في دولة تصنع الدساتير لتضعها على الرف ولا ترفعها إلا لدواعي التعديلات التي تُفضي عادة إلى تمديد الفترات الرئاسية أو توسيع صلاحيات الرئيس فلا السائل ولا المسئول يمكنه الخروج عن النص والسيناريو المكتوب سلفا وتعليمات المخرج الذي يتحكم في كل شاردة وواردة في العرض.
قبل عقود، وعندما كانت دور السينما تعرض فيلما ضعيفا، كان الجمهور يعبر عن احتجاجه ورفضه بعد نزول تتر النهاية بهتاف واحد «سينما أونطة هاتو فلوسنا»، ومع تكرار الهتاف من دار عرض إلى أخرى يسقط الفيلم بعدما تسوء سمعته وتهجره الجماهير.
ما لا يدركه مخرج فيلم «مساءلة نواب البرلمان لبعض وزراء الحكومة» أن الجماهير ملت من تكرار مشاهده التي لا تتغير وأداء ممثليه الباهت وحبكته المهلهلة، كما أنه لا ينتهي بمشهد يقنعه ويرضيه، فوفروا علينا وعلى أنفسكم عناء إعادة تلك المشاهد.