قبل ستة أسابيع فقط من انتهاء العام الأول من الغزو الروسي لأوكرانيا، وحلول العام الثاني الذي لن يكون الأخير في الحرب الأوكرانية أو في المواجهة الشرسة بين روسيا والغرب، يمكن التأكيد على أن الأزمة الأوكرانية لن تتحول لا إلى حرب عالمية ثالثة، ولا إلى حرب نووية، رغم التلويحات الروسية بذلك بشتى الطرق المباشرة والملتوية وغير المباشرة.

وفي الوقت نفسه لن تكون هناك أي حلول سياسية لتلك الأزمة على الأقل طوال عام 2023، وربما لعدة سنوات مقبلة قبل أن يتم وضع الأمور في نصابها وتحديد مكانة روسيا ومساحة تواجدها وشروط مشاركتها في “العملية النيوليبرالية” لمنظومة عالمية جديدة، أو حتى مختلفة نسبيا.

روسيا لا يمكنها إلحاق أي هزيمة استراتيجية بالغرب حتى لو قامت بتدمير كل أوكرانيا ومسحها من على وجه الأرض. والغرب لا يسعى إطلاقا إلى إلحاق هزيمة عسكرية استراتيجية بروسيا، لأن ذلك ليس ضمن أهدافه على الإطلاق، بالرغم من أن موسكو ترفع هذه الورقة للضغط الخارجي والتجييش الداخلي. وإنما تسير محاولات الغرب على مسار آخر تماما شبيه بمسار ردع الاتحاد السوفيتي واستنزافه طوال 70 عاما إلى أن قام الروس أنفسهم بتفكيكه ومسحه من الوجود.

ولكن مصير روسيا المستقبلية سيختلف اختلافا كليا عن مصير الاتحاد السوفيتي، لأنه ليس من مصلحة الغرب أو الشرق تفكيك روسيا نفسها كدولة، ولكن من الممكن أن يكون الهدف هو إضعاف تطلعاتها الإمبراطورية، خاصة وأن ركائز الكرملين لاستعادة أملاك وحدود ونفوذ وهيبة الإمبراطورية الروسية في شكلها الذي كانت عليه إبان حكم بطرس الأكبر أو يكاتيرينا الثانية، أو حتى كوريثة للإمبراطورية البيزنطية، أمر كلاسيكي وغير واقعي، ولا تملك روسيا أي مقومات لتحقيقه في ظل تحولات القرن الواحد والعشرين في مجالات عديدة، إلا إذا قرر الكرملين بقيادة الرئيس بوتين إشعال حرب عالمية- نووية حقيقية.

إن انتصار القوات الروسية في بعض المعارك المنفردة، وقصفها العاصمة كييف أو حتى تدمير مدن غرب أوكرانيا، لا يعني إطلاقا حدوث انتصارات روسية استراتيجية أو نهائية حاسمة، لأن المعركة الأساسية ليست هنا (في أوكرانيا) وليست عسكرية بالدرجة الأولى حتى الآن.

كما أن نجاح القوات الأوكرانية في استعادة بعض المناطق أو أجزاء منها لا يعني إطلاقا وقوع أي انتصارات أوكرانية على أرض الواقع. فالحرب الدائرة ليست حربا من أجل الانتصار الحاسم والنهائي ورفع الأعلام على الأراضي المكتسبة، بقدر ما هي حرب طويلة الأمد على مسارات ومجالات متعددة، على رأسها مجالات الطاقة وطرق نقلها، والتقنيات الرفيعة، والمؤسسات المالية، والاقتصاد.

وفي نهاية المطاف تشكيل عالم جديد أو صيغة جديدة لمنظومة عالمية وفق موازين قوى مرعبة وشرسة تحددها متغيرات وعناصر التقدم العلمي- التقني، والقوة الرقمية، واتساع وتجذر منظومة القيم الليبرالية، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه المنظومة. وفي الحقيقة، فروسيا جزء من هذه المنظومة، ولكنها ليست الجزء الأقوى أو الذي يتمتع بامتلاك أوراق تؤهلة لشغل مساحة أكبر من الصين أو الاتحاد الأوروبي

بعيدا عن البروباجندا الرخيصة من الطرفين الروسي والغربي بخصوص موت الغرب من البرد والجوع، أو قيام ثورات في الغرب بسبب تغير نمط الحياة وتدهور مستوى المعيشة، أو انهيار روسيا ومعاناتها وإمكانية انقلاب النخب على الكرملين..

كل ذلك حواشي لا علاقة لها بما يجري، لأن الغرب لا يعاني لا من البرد ولا من الجوع ولن تقوم هناك ثورات، ولأن بوتين يحكم قبضته جيدا على البلاد ولن تقوم أي نخب بانقلاب على بوتين والكرملين.. أي أن الغرب قبيل أيام قليلة من بدء عام 2023، أعلن عن كفايته من النفط والغاز، وتأمين احتياجاته منهما بشكل استعراضي وواقعي في آن معا. واعترفت روسيا من جانبها بذلك، وأكدت على أنها بدأت تعاني من مشاكل حقيقية في المجالين المالي والاقتصادي من جهة، وفي المجال التقني من جهة أخرى.

من الواضح، ووفق المؤشرات والمعطيات القائمة حتى الآن، أن الحرب الأوكرانية ستطول حتى إذا خفت وتيرة المعارك العسكرية في أوكرانيا، لأن هذه الحرب العسكرية المباشرة ليست بين روسيا وأوكرانيا، وإنما بين روسيا والغرب بمكوناته الثلاثة: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعدد من الدول المهمة مثل اليابان وكندا وكوريا الجنوبية.

وقد أعلن هذا الغرب بصرامة أنه لن يدخل حربا مباشرة مع روسيا. وإلى الآن جربت روسيا كل الطرق والوسائل لجر الغرب إلى حرب مباشرة تنتهي بمفاوضات كالعادة. وهو ما تردده روسيا عقب كل تهديد بالنووي أو بغيره. ولكن الغرب يرفض دخول أي حرب، ويتفنن في إفشال سياسة الحافة التي تعتمدها روسيا. وبالتالي، فكل تهديدات روسيا وممارستها سياسة الحافة والضغط بتهديدات نووية أو بتكثيف الضربات للبنية التحتية الأوكرانية، كلها باءت بالفشل ولم تسفر عن أي مقاربات تقود إلى مفاوضات.

خلال عام 2023 ستهبط أسعار النفط والغاز، وفق كل المؤشرات التي ظهرت بقوة مع مطلع العام الجديد، وستتمكن أوروبا من تدبير أمورها. وفي الحقيقة، أوروبا نجحت في تدبير أمورها جيدا ولا تعاني، ولن تعاني في فصل الشتاء على عكس البروباجندا والتقديرات الروسية غير الدقيقة.

ولن تحدث أي شروخ لا في الاتحاد الأوروبي ولا في حلف الناتو ولا بين الولايات المتحدة وأوروبا. بل على العكس ستكون هناك صيغ جديدة للتعاون بين هذه الأطراف لمواصلة استنزاف روسيا لسنوات طويلة مقبلة وحرمانها من التقنيات الرفيعة وأدوات الحضارة الرقمية، ودفعها لتبديد أموال كثيرة من أجل الحصول على هذه التقنيات والأدوات، وتوظيف طاقاتها في العمليات الاستخباراتية لسرقة التقنيات والسطو عليها.

إن الانزياحات الروسية نحو الصين لا تزال مجرد كلام نظري وتصريحات ولقاءات تلفزيونية بين بوتين وصديقه شي. ولكن لكل منهما مصالحه الحيوية التي لا يمكنه أن يفرط فيها. كما أن علاقة الصين وروسيا محكومة بموازين قوى مهما حدث من لقاء وقبلات وأحضان ومجاملات.

وفي كل الأحوال، لن يحدث أي تقارب استراتيجي أو تحالف بين موسكو وبكين، لأنه عكس المنطق وعكس المصالح.. وبمجرد وقوع روسيا بين أنياب الصين، فلن تتمكن روسيا من الإفلات إلا بعد استنزاف تاريخي قد يؤثر على وجود روسيا نفسها كدولة. أي أن التهديد الوجودي لروسيا يأتي من جانب الصين وليس من جانب الولايات المتحدة وأوروبا. وهناك قوى كثيرة في مفاصل السلطة الروسية تدرك هذا الأمر جيدا. ناهيك عن أن الصين لديها مشاكلها الخطيرة والمؤثرة، سواء في المواجهة الشرسة مع فيروس كورونا، أو في حرب التقنيات الرفيعة وأشباه الموصلات، أو في الحركات الانفصالية الداخلية، وغيرها من مشاكل وأزمات كثيرة في الداخل الصيني.

ومع ذلك، فالصين تحتل حاليا المركز الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة تزامنا مع إزاحة روسيا إلى مركز متأخر، وتحويلها إلى دولة منبوذة تشغل مكانة تعادل مكانة دولة إقليمية لديها أسلحة نووية. والصين لن تتخلى بسهولة عن مركزها الثاني، ولا عن أحجام التبادل التجاري مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا عن مساحات الحركة الواسعة الممنوحة لها من قبل الغرب. وعلى بكين أن تختار.

إن عام 2023 سيشهد تحولات دراماتيكية في الأزمة الأوكرانية ولكنها لن تصل لا إلى حرب عالمية ولا حرب نووية. ستطول المواجهة بين روسيا والغرب لحين حدوث اختراقات حقيقية ليس من جانب روسيا طبعا، ولكن من جانب الغرب المكون من عشرات الدول الغنية والتي تمتلك أسلحة نووية وتقنيات عالية ورفيعة وقدرات مالية ولوجستية.

ولا أحد يعرف ماهية هذه الاختراقات وقوتها وتأثيرها. ولكن في حال حدوثها ستتغير موازين القوى بشكل ملموس. وبالتالين فما تلوكه الصحافة ووسائل الإعلام شيء، وما يجري على أرض الواقع شيء آخر تماما. قد تكون هناك عناوين مغرية ومثيرة، وقد تتوافق بعض التحليلات مع آمال وأحلام البعض، ولكن للأسف، الواقع يسير في اتجاه آخر. وروسيا تبيع النفط والغاز للصين والهند وبعض الدول الأخرى بربع الأسعار، وتبيع القمح والمعدات الكلاسيكية بأسعار زهيدة للغاية. فإدارة الكرملين لا تزال تعتمد على الأرصدة التي تراكمت خلال السنوات السابقة. ولا أحد يدري ماذا سيحدث عندما تبدأ هذه الأرصدة في التآكل والتبخر.

لا شك أن الدول الغربية، وبالذات الأوروبية تواجه صعوبات، ولكنها ليست أزمات إطلاقا. وهذه الدول لديها مخزونات واحتياطيات وقدرات نووية وعلمية وتقنية ولوجستية تُمَكِّنها من الاستمرار والمواصلة. بدون أي كبوات أو انحرافات راديكالية أو انعطافات مؤثرة على مساراتها الأصلية.

وربما يذكرنا ذلك بتجربة الصراع مع الاتحاد السوفيتي، ويعيدنا إلى نفس البروباجندا والحملات الإعلامية بانهيار الإمبريالية والرأسمالية العالمية. والطريف أن البروباجندا الحالية تشبه إلى حد كبير نفس البروباجندا السوفيتية إبان الحرب الباردة التي انتهت بهزيمة الاتحاد السوفيتي وتفكيكه.

وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار مرة أخرى أن الغرب لا يريد لا احتلال روسيا ولا سحقها وتفكيكها، لأنه إذا كان يريد هذا، فكان من الأولى أن ينفذه في عام 1990 عندما انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك، وكانت روسيا في أضعف حالاتها. ولكن الغرب لم يفعل ذلك، ولم يفكر أصلا في أي شيء من هذا القبيل. كل ما هنالك أن روسيا تريد أن تحسن من شروط وجودها ضمن المنظومة النيوليبرالية وترغب بالتهام قطعة كبيرة لأنها ترى أنها تستحقها، والغرب يرى أنها تستحق أقل من ذلك. وهنا تتدخل موازين القوى في الفصل بين الطرفين خلال فترة زمنية معينة، مر منها حوالي 10 أشهر ونصف الشهر فقط.