مع مرور أيام قليلة من عام 2023، بدأت موجات من التوقعات المتشائمة بشأن الاقتصاد العالمي في السنة الجديدة، بداية من مؤسسات دولية كبيرة كالبنك وصندوق النقد الدوليين اللذين عبرا عن قلق عميق من “الصدمات المعاكسة” التي يمكن أن تدفع الاقتصاد إلى الركود عام 2023، وحتى بنوك الاستثمار والخبراء على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم ولغاتهم، والذين اتفقوا على غير العادة على أننا في “سنة كبيسة”.
اقرأ أيضا.. تقترض الحكومة وتربح البنوك.. اللاعبون الكبار في سوق الدين المحلي
من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي خلال 2023 بشكل حاد مع تشديد السياسة النقدية بشكل متزامن بهدف احتواء التضخم المرتفع للغاية، وتدهور الأوضاع المالية والاضطرابات المستمرة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، بحسب البنك الدولي.
يرى البنك أن العام الحالي صعب على الدول الصغيرة التي يجب أن يضمن مسئولوها تقديم أي دعم مالي للفئات الضعيفة، وأن تظل توقعات التضخم ثابتة بشكل جيد، وأن تستمر الأنظمة المالية في التحلي بالمرونة.
صندوق النقد الدولي لم تكن توقعاته بأسعد حال، حيث أكد أن العام الحالي سيكون “أصعب من 2022” مع معاناة ثلث اقتصاد العالم من الركود، وعزت رئيسته كريستالينا جورجيفا ذلك إلى الاقتصاديات الثلاثة الكبرى “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين”، تتباطأ جميعها بوقت واحد.
كما تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يشهد عام 2023 نمو كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو بنسبة 0.5% فقط، أي أقل بكثير من متوسطاتها التاريخية، في حين أن ألمانيا أكبر اقتصاد بأوروبا، ستنكمش فعليًا بنسبة 0.3%، وفي بريطانيا يتوقع البنك المركزي أن يستمر الاقتصاد في الانكماش حتى منتصف 2024.
اضطراب متوقع لأسواق المال
التقارير الدولية تشير إلى أن المستثمرين عليهم الاستعداد لعام مضطرب في الأسواق المالية، خاصة خلال النصف الأول من العام، بعد أن عانت الأسواق العالمية العام الماضي من أكبر انخفاض لها منذ الأزمة المالية لعام 2008 العام الماضي.
يتوقع الاقتصاديون أن يبطئ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي “المركزي الأمريكي” زياداته في أسعار الفائدة هذا العام، مع تدهور توقعات الاقتصاد، خاصة مع تراجع التضخم من ذروته الصيف الماضي بجانب هدوء سوق الإسكان، فرفع فائدة قروض الرهن العقاري خفضت الطلب على الشراء وأصابت المبيعات بركود ملحوظ.
يقول بريان روز، كبير الاقتصاديين الأمريكيين في “يو بي إس جلوبال ويلث مانجمنت”، إن مخاطر الركود مرتفعة حيث تشق الآثار المتأخرة للسياسة النقدية الأكثر تشديدًا طريقها عبر الاقتصاد”.
يزيد رفع الفائدة من تكلفة الاقتراض للشركات ما يمنعها من التوسع بجانب زيادة أعباء خدمة الدين على الحكومات التي اقترضت بكثافة لتمويل برامج الدعم الاقتصادي، وإنعاش القطاعات المتضررة من إغلاق الاقتصاد إبان أزمة وباء كورونا.
ويتوقع دويتشه بنك “المركزي الألماني” حدوث تباطؤ اقتصادي يضرب الأسواق المالية هذا العام، فأسواق الأسهم تتراجع بنسبة 25٪ عن المستويات الأعلى، عندما يضرب الركود الاقتصاد الأمريكي، وتكرر الأمر ذاته مع محللي روسل إنفستمنت، الذين يرون أن الركود يبدو مرجحًا عام 2023 لكنهم ما زالوا يأملون في أن يكون التعافي الاقتصادي العالمي في الأفق بحلول نهاية العام.
نيكولاج شميدت، كبير الاقتصاديين الدوليين بشركة إدارة الاستثمار “تي رو برايس”، يقول إن العالم ينزلق في ركود عالمي عام 2023 نتيجة للتشديد النقدي الهائل الذي أجرته البنوك المركزية على مدار الـ 12 شهرًا الماضية”، كما يتوقع المحللون في بنك الاستثمار جيفريز إمكانية أن يؤدي قرار الصين بتخفيف قيود كورونا الشهر الماضي إلى تخفيف توترات سلسلة التوريد العالمية لكنه قد يؤدي أيضًا إلى زيادة الطلب على السلع.
كم سترتفع تكلفة المعيشة؟
وذكر استطلاع أجرته مؤسسة Ipsos على 24 ألف شخص ينتمون للعديد من البلدان من بينها الولايات المتحدة وكندا وأيرلندا وإسرائيل وماليزيا وجنوب إفريقيا وتركيا، أن 75% ممن شملهم الاستطلاع أكدوا أن التضخم سيكون أسوأ أم 2023 ، مما كان عليه العام السابق.
79% من المستطلعة آرائهم في استطلاع “إيبسوس” يرون أن الأسعار في بلدانهم ستستمر في الارتفاع بوتيرة أسرع من دخل الناس. ويتماشى ذلك مع 68% من المشاركين الذين يقلقون من أن البطالة ستكون أعلى عام 2023 مما كانت عليه في 2022.
أدت الزيادات الكبيرة في تكلفة الغذاء والطاقة إلى أزمة تكلفة معيشية ومع دخولنا عام 2023، من المتوقع أن تستمر هذه الظروف، ما يضر الأسر منخفضة ومتوسطة الدخل التي تكون أكثر عرضة لمخاطر ارتفاع معدلات ارتفاع الأسعار من الأسر الأكثر ثراءً، ويعكس هذا الأمر تركيبة دخلهم، وما لديهم من ممتلكات، وأنواع سلة سلعهم الاستهلاكية.
وفاجأ الارتفاع الحاد في التضخم البنوك المركزية بعد عقدين من التضخم المنخفض والمستقر. كان رد فعلهم هو رفع أسعار الفائدة بقوة في النصف الثاني من عام 2022، وكان بنك الاحتياطي الفيدرالي يقود الطريق. رفع البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة بمقدار 4.25% نقطة مئوية على مدى ستة أشهر، وتبعه بنك إنجلترا والبنك المركزي الأوروبي وآخرون.
وسبب رفع الفائدة تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة، لكن في المملكة المتحدة ومنطقة اليورو، تشير البيانات الأخيرة إلى أن التضخم قد بلغ ذروته عند حوالي 10%.
لكن توجد مشكلات تواجه السيطرة على التضخم تتعلق بالسياسة، ففي الولايات المتحدة، زاد الإنفاق بشكل كبير مع مشروع قانون البنية التحتية بقيمة 1.2 تريليون دولار الذي تم توقيعه ليصبح قانونًا في أواخر عام 2021 ومشروع قانون الميزانية البالغ 1.7 تريليون دولار في ديسمبر الماضي.
صراع السياسة والتضخم.. من يربح؟
السياسة المالية التوسعية يمكن أن تقوض محاولات البنوك المركزية لمحاربة التضخم، فالبنوك المركزية تسعى إلى خفض التضخم عن طريق تقليص الطلب، وزيادة الإنفاق الحكومي وهو أمر له تأثير معاكس قد يجبر البنوك الأخرى على رفع أسعار الفائدة أعلى مما كانوا يخططون.
في أوروبا والمملكة المتحدة، اضطرت الحكومات إلى إنفاق المليارات لدعم فواتير الطاقة للمستهلكين والشركات، في حين أدى التباطؤ الاقتصادي إلى خفض عائداتها الضريبية ، مما أدى إلى ارتفاع العجز الحكومي ومع ذلك أعطت حكومة المحافظين البريطانية الأولوية لمحاربة التضخم ، وأعلنت عن تخفيضات في دعم المستهلكين للطاقة.
الصراع التجاري سيزداد
تؤدي المنافسة الأمريكية-الصينية في المجال التكنولوجي لضغوط على الاقتصاد، وحظرت واشنطن قبل أسابيع عدة صادرات للتكنولوجيا الأمريكية المتقدمة على الصين وروسيا، ووضعت على القائمة السوداء 36 شركة صينية بما فيها شركة YMTC الكبرى ، ما يعني أن الشركات الأمريكية ستحتاج إلى إذن حكومي لبيع تقنيات معينة لها، وهذا الإذن يصعب تحقيقه.
كما تمنع إجراءات واشنطن المواطنين الأمريكيين وحاملي البطاقة الخضراء من العمل في بعض شركات الرقائق الصينية، وحاملي البطاقة الخضراء وهم مقيمون دائمون في الولايات المتحدة ولديهم الحق في العمل في الدولة، ويعني ذلك أن واشنطن تقطع خط انتقال مواهبها من الانتقال إلى الصين مما سيؤثر على تطوير تطوير أشباه الموصلات.
وقدمت الصين شكوى ضد الولايات المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية بشأن ضوابط تصدير أشباه الموصلات والتكنولوجيا الأخرى ذات الصلة، في أول قضية ترفعها بكين ضد الولايات المتحدة منذ أن تولى الرئيس جو بايدن منصبه في يناير 2021، وذلك بعد أن أكدت المنظمة أن التعريفات الجمركية التي فرضها سلفه دونالد ترامب على بعض البضائع الصينية انتهكت قواعدها.
يشير كريستيان نولتين، مدير مكتب الاستثمار في دويتشه بنك، في مذكرة له، إن الصراع التجاري “سيتحوّل الآن إلى محاولة لوضع معايير طويلة الأجل.. في مجالات حيوية مثل الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والرقاقات الإلكترونية”. ويضيف أن لا أحد من الطرفين، أي أمريكا والصين، سيرغب في التنازل بسهولة.
السؤال الوحيد الذي كان يدور في أذهان الجميع بنهاية العام الماضي: هل سيكون هناك ركود عالمي عام 2023؟ لكن السؤال الحقيقي بعدما بدأت لا يتعلق بما إذا كان سيحدث أم لا ولكن متى؟، خاصة بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق في أوروبا.