كيف يتم إنجاز عمل اقتصادي حقيقي دون أي درجة من المخاطرة حتى وإن كانت محدودة؟ كيف يمكن لمديرِ أموالٍ مهما أُوتى من مهارات أن يضمن ثم يمنح عملاءه أرباحًا لا تنقطع لسنواتٍ طوال تخللتها حروب وصعاب كثيرة؟ كيف يمكن لأي قطاع أعمال أن يُؤَمِّن نسبة مرتفعة من الأرباح تتزايد باضطراد؟ أين وكيف يستثمر الرجل أموال الناس؟ “لا تسأل، لكن إن أردت استرداد أموالك فأنا أعطيك إياها فورًا، وحينها لا تَعُد لي ثانيةً فلن أقبلها منك، سأرفض دون مناقشة”، هكذا كان الرجل يرد على تساؤلات البعض من عملائه بدمٍ باردٍ وقد اعتلت وجهه ابتسامة صفراء مُعَزَزةً بتاريخٍ حافلٍ من الإنجازات المالية والمناصب المرموقة والالتزام التام بالتعهدات التي لم تخفق أبدًا، ليتلقى الرد: “لا لا لا، استمر من فضلك”.
لم يجرؤ أغلبية عملائه على طرح مثل هذه الأسئلة ثقةً في قدرات الرجل صانع السوق البارع وأحد مؤسسي بورصة “ناسداك” ورئيسها السابق، واتقاءً للطرد من جَنْتِهِ التي شيدها بالطابقين التاسع عشر والسابع عشر من مبني ليبستيك في شارع ثيرد أفينيو بوسط مانهاتن.
كنت أعرف -بِحُكم التخصص العلمي والعملي- كثيرًا عن الرجل، لكنني قررت أن أشاهد السلسلة الوثائقية التي أذاعتها إحدى منصات الترفيه الأمريكية منذ أيام عنه والتي عُرضت تحت عنوان “وَحش وول ستريت” عَلَّها تضيف إلى ما أعرفه عنه جديدًا. إنه المُحتال الأنيق “بونزي” عصر الكمبيوتر والعولمة الأشهر “بيرنارد لورانس مادوف”. كتبت كثيرًا عن مُخطط “بونزي” الذي يمكن توصيفه وفق التعبير المصري الشعبي الشهير بأنه “تلبيس طَاقية دَه لِدَه” وقد تناولته إجمالًا في مقالٍ سابق بموقع مصر 360 وسأحاول في هذا المقال تقديم عرضٍ تفصيلي مُبسط عنه للقارئ الكريم من غير المتخصصين على هامش سيرة الرجل المَرويّة في السلسلة الوثائقية رباعية الحلقات.
كان للمحتال الأنيق شركتان تقع أحدهما بالطابق التاسع عشر من المبنى الشهير وهي شركة لتداول الأوراق المالية يعمل بها عشرات المتداولين المُعتَمَدين وتخضع لرقابة هيئة الأوراق المالية الأمريكية SEC حيث لم يكن هناك غبار مطلقًا على تعاملاتها، بينما كانت الشركة الأخرى التي تحمل ترخيصًا لمزاولة نشاط الاستشارات فقط والتي لم يكن مسموحًا لأحد بالاقتراب منها سوى عصابة من خمسة أفراد فقط تقع في الطابق السابع عشر من المبنى والتى حين داهمها المحققون الفيداليون صرخ أحدهم بمجرد دخوله من بابها: “Holly Shit” حسبما صرح هو شخصيًا بالسلسة الوثائقية. كانت تلك الشركة هي وكر العصابة التي تألفت من خمسة أفراد فقط أحاط المُحتال الأنيق نفسه بهم: مُحاسب فاسد اسمه “فرانك ديباسكالي”، واثنان من شياطين البرمجيات اسماهما “جورج بيريز” و”جيروم أوهارا”، ومُساعِدَتان إداريتان اسماهما “آنيت بونجورنو” و”جودي كروبي”.
كان أفراد العصابة يتابعون بدقة متناهية تقارير البورصة لمعرفة الأسهم التي تم شراؤها في تاريخ سابق بمعرفة أشخاص حقيقيين من عملاء شركات تداول أخرى لا علاقة لشركة مادوف بهم، ثم يقومون بعملية نسخ لبيانات عمليات الشراء تلك في دفاترهم كما لو كانوا قد قاموا بها لصالح عملائهم، وبعد فترة من الزمن وبناءً على متابعتهم لحركة البيع الحقيقية لتلك الأسهم لاحقًا بالبورصة، يقومون بنسخ عمليات البيع تلك في دفاترهم ويوهمون عملاءهم بأنهم قد باعوها لحسابهم بأرباح عالية ويخطرونهم بذلك من خلال كشوف حسابات ورقية مُعدة على الحاسب الآلي لتبدو حقيقية، ويبلغونهم بأن أموالهم حاضرة وأنهم على استعداد لدفعها لكن أغلب العملاء كانوا يفضلون عدم سحب أموالهم التي زادت أصولها بقيمة الأرباح ليعيد “مادوف” وعصابته استثمارها لهم سعيًا وراء مزيد من الأرباح، أما إن طلب العملاء أرباحهم فقد كانوا يدفعونها لهم من أصل أموال عملاء آخرين، وهكذا كانوا يمارسون مخطط “بونزي” الإجرامي.
الواقع أنهم لم يقوموا فعليًا بشراء أي أسهم لعملائهم وبالتالي فهم لم يبيعوا شيئًا، لكنها كانت مجرد عمليات إدخال وهمية للبيانات. لم تكن أي من ممارسات المحتال الأنيق وعصابته لتحدث لو لم تتوافر لها ظروف ذاتية وأخرى موضوعية كامنةً في هيكل النظام المالي القائم على أسواق بالغة الهشاشة وفسادٍ مؤسسي تفشى للمستوى الذي دفع الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” حينها إلى التصريح نصًا: “لم تكن الهيئات الرقابية بل ولجان الكونجرس نفسه صارمة بالدرجة الكافية، وكان البيت الأبيض دائمًا ما يبدأ بفرضية أن إلغاء القيود هو أمر جيد”.
وكما كانت هشاشة الأسواق والفساد المؤسسي من أهم ما استندت إليه ممارسات “مادوف” الإجرامية، فقد كانت في ذات الوقت من أهم أسباب انكشاف تلك الممارسات، حيث كان البناء الهيكلي لمعبد المال في وول ستريت آيلًا للسقوط مع أول هزة تضرب أساسه شديد الوَهَن.
وقد كان هذا هو ما حدث بالفعل حين بدأت بوادر الأزمة المالية في 2008 بالظهور. انهالت طلبات استرداد الأموال من العملاء على رأس المحتال الأنيق فوصلت تلك الطلبات إلى ما يقرب من 1.5 تريليون دولار في الوقت الذي كانت الأموال المتاحة لديه لا تتجاوز 300 مليون دولار. تم إلقاء القبض عليه وصدر بحقه حكمًا بالسجن لمدة 150 عامًا بعدما صُودرت كل ممتلكاته وأُجبِر على التنازل عن 170 مليار دولار. اكتملت تراجيديا “مادوف” الإنسانية حين عَلِم أثناء فترة سجنه بانتحار ابنه الأكبر ثم بوفاة ابنه الأصغر مريضًا بالسرطان وتشرُد زوجته العجوز لتُقيمَ بصفة دائمة في سيارة عتيقة هائمةً على وجهها بشوارع مانهاتن إلى أن انتقلت مؤخرًا للإقامة مع زوجة ابنها في ولاية “كونيتيكت”. توفى المُحتال الأنيق عن عُمر بلغ الثالثة والثمانين داخل السجن في إبريل 2021 تاركًا إرثًا من العار Legacy of Shame لعائلته وأحفاده كما صرح هو شخصيًا أثناء محاكمته.
نعود للسلسة الوثائقية التي على الرغم من أن المشاهد التمثيلية المحدودة بها لم تكن على المستوى اللائق بمثل هذه التراجيديا الإنسانية، (وإن كان هذا الأمر مفهومًا ومُتَقَبلًا بإعتبار أن معيار تقييم مثل هذا الأعمال ليس دراميًا)، إلا أن الحوارات الحقيقية التي تضمنتها مع المحققين الفيدراليين وبعض المنافسين والضحايا أكسبتها حيويةً ممتعة وأضْفَت عليها ثراءًا مدهشًا، وبالذات حين طرحت جانبًا هامًا شَكَّل ركنًا أساسيًا في تفسير كيفية نجاح المحتال الأنيق في إخفاء جرائمه لفترة امتدت لما يزيد عن الخمسة عشر عامًا.
كان “مادوف” سليل العائلة البولندية المتواضعة التي هاجرت لأمريكا منذ زمن طويل، عضوًا بالنادي الشهير “بالم بيتش كانتري كلوب” بولاية فلوريدا الذي كان يسمح بدخول اليهود في مكان واحد وهو أمر أكسبه قدرًا مُعتبرًا من المصداقية لدى أبناء ديانته الأثرياء من أعضاء النادي بوصفه مثالًا لليهودي العصامي الذي بدأ من الصفر، وكيف لا وهو المُحسن الكبير الذي كان يشغل منصب أمين صندوق منظمة “المؤتمر الأمريكي اليهودي” American Jewish Congress في نيويورك التي كانت تتولى جمع التبرعات لإسرائيل منذ ثلاثينات القرن الماضي. طرح الحاخام “رابي ليونيد فيلدمان” سؤالًا بنهاية السلسلة الوثائقية: “هل وثق به الناس أكثر لأنه يهودي؟”، وتُرِك السؤال دون إجابة.