إثيوبيا تمضي في سياسة فرض الأمر الواقع وتعلن الاستعداد للملء الرابع.

وصلت أزمة سد النهضة إلى منعطف خطير مع استمرار إثيوبيا في سياسة فرض الأمر الواقع، والتصرف من طرف أحادي تعنتًا لإطالة الوقت والوصول بمستهدفاتها إلى أجل إتمام ملء السد. وقد أعلنت مؤخرًا دخولها مرحلة الاستعداد للملء الرابع. ذلك رغم عدم الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم مع دولتي المصب (مصر والسودان) حتى الوقت الراهن.

على الجانب الآخر، استقبل رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، الاثنين الماضي، رئيس المخابرات العامة المصري اللواء عباس كامل. وكان ذلك في حضور نظيره السوداني الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. حيث تبادل الجانبان الرؤى فيما يخص تطورات ملف سد النهضة. وتم التأكيد على وحدة الموقف المصري السوداني. كما تم التوافق حول الأهمية القصوى لقضية المياه بالنسبة للشعبين. وكذا تمسك البلدين بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لعملية ملء وتشغيل السد، بما يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف. وذلك في تأكيد على ما هو معلن سابقا من الجانبين ومعروف من خطابيهما الرسميين بشأن الأزمة.

عماد بحر الدين الأستاذ بجامعة أم درمان
عماد بحر الدين الباحث بجامعة أم درمان

ومن جانب ثان التقى وزير الموارد المائية والري الدكتور هاني سويلم، قبل أيام، السفير دانيال روبنستين القائم بأعمال سفير الولايات المتحدة في مصر. وتباحث الطرفان حول سُبل التعاون الثنائي في مجال المياه. كما تم استعراض نشاط مصر في أسبوع القاهرة الخامس للمياه، والذي عُقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وناقشا كذلك فعاليات المياه بمؤتمر المناخ 7 COP2، وأيضًا مبادرة مصر الدولية للتكيف المائي، وتستهدف تنفيذ مشروعات تساعد الدول الإفريقية على التعامل مع التأثيرات السلبية لتغير المناخ، وصولًا لتحقيق رؤية المياه 2030. وبالطبع فهي أمور ليست بعيدة عن ملف السد.

يرى عماد بحر الدين، الباحث بجامعة أم درمان هذه التحركات وعلى رأسها زيارة رئيس المخابرات العامة عباس كامل إلى السودان إنما تحمل انعكاسات هامة، يمكن رؤيتها في ضوء المساعي المصرية الأخيرة لإعادة المفاوضات فيما يخص مسألة سد النهضة، كما .

إدارة الأزمة

ووفق الرصد السياسي العام يمكن تبين سياسة مصر إزاء الأزمة على أصعدة ثلاثة. إذ قامت إدارة مصر في التعامل مع ملف أزمة سد النهضة خلال الفترة الماضية على 3 مرتكزات هامة، لا تزال مصر تحافظ عليها رغم التطورات الجارية والصاخبة: التمسك بالدبلوماسية- اللجوء للمؤسسات الدولية- مشروعات حوض النيل.

التمسك بالورقة الدبلوماسية

أكدت الحكومة المصرية غير مرة على استبعاد الحل العسكري لعلاج مشكلة سد النهضة. وهي لا تزال تدعو إلى التفاوض بهدف الوصول إلى تسوية ملائمة.

ففي آخر تصريح له، أكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، على حرص مصر على التوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا لملء وتشغيل سد النهضة، يوازن بين طموح إثيوبيا لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من السد، وعدم إلحاق الضرر بدولتي المصب مصر والسودان.

علاء الظواهري رئيس اللجنة التفاوضية لسد النهضة في مصر
علاء الظواهري رئيس اللجنة التفاوضية لسد النهضة في مصر

وصرح علاء الظواهري، رئيس اللجنة التفاوضية لسد النهضة في مصر، في وقت سابق، إن “مصر ترحب دائمًا بأي خطوات أو تصريحات تتعلق بحسم النقاط الخلافية حول سد النهضة”. بينما أشار إلى أن المفاوضات توقفت بسبب الأحداث الداخلية فى إثيوبيا والسودان. وأكد أنه لا بدليل عن الجلوس على طاولة المفاوضات والخروج بنتائج إيجابية تتمثل في توقيع اتفاقية ملزمة لجميع الأطراف.

كذلك، في 11 مايو/ أيار من العام الماضي، جدد الرئيس عبد الفتاح السيسي دعوته للتوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة، خلال محادثاته في القاهرة مع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان.

وشدد السيسي على موقف مصر الثابت من ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا بشأن تشغيل سد النهضة بما يحفظ الأمن المائي لمصر ويحقق المصالح المشتركة لكل من القاهرة والخرطوم وأديس أبابا.

اللجوء للقوى والمحافل الدولية

خلال القمة الأمريكية الإفريقية، التي عقدت في 15 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تقدم الرئيس السيسي بطلب رسمي للحصول على الدعم الأمريكي في إقناع إثيوبيا بالدخول في اتفاق ملزم قانونًا بشأن تشغيل السد لتوليد الطاقة الكهرومائية.

وجاء في البيان الختامي للمباحثات بين السيسي ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ليؤكد على دعم أمريكا لجهود حل القضية، وشدد على أهمية التوصل إلى قرار دبلوماسي بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير بما يصون مصالح جميع الأطراف.

كذلك انتهزت مصر فرصة عقد القمة الصينية العربية لعرض أزمة سد النهضة. حيث جدد السيسي دعواته لإثيوبيا للانخراط بحسن نية مع مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير، كما دعا الرئيس إلى وضع ملف الأمن المائي العربي على رأس أولويات التعاون العربي الصيني في المستقبل كجزء من منتدى التعاون الصيني العربي.

وفي افتتاح الدورة الخامسة لأسبوع القاهرة للمياه، الذي نظمته مصر بعنوان “المياه في قلب العمل المناخي في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، جددت مصر التزامها بمحاولة تسوية قضية سد النهضة بما يرضي مصالح جميع الأطراف.

سد النهضة الإثيوبي (وكالات)
سد النهضة الإثيوبي (وكالات)

اقرأ أيضًا: على هامش سد النهضة.. تجارب البنك الدولي في مشاريع المياه: دعاية فضفاضة وتمويل محدود

كما دعا الرئيس السيسي المجتمع الدولي إلى التكاتف في محاولة لإيجاد حل عادل ودائم لأزمة سد النهضة الإثيوبي. وأضاف أن موقف مصر يقوم على الاقتناع بأن التمسك بروح التعاون والتوافق في المجالات ذات المصالح المشتركة هو السبيل الوحيد لمنع النتائج السلبية من خلال الإجراءات الأحادية في أحواض الأنهار.

كذلك، خلال القمة العربية التي عقدت في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، حاولت مصر والسودان حشد دعم جامعة الدول العربية في أزمة السد. وشهدت الاجتماعات التمهيدية محاولة مصرية ـ سودانية لكسب الدعم العربي لرؤيتها لكيفية حل معضلة سد النهضة المثيرة للجدل. ذلك بهدف تأمين موقف القاهرة من حقوقها المائية في نهر النيل، وتأمين الدعم السياسي العربي في أزمة السد.

واحتجت مصر لدى مجلس الأمن في يوليو/ تموز 2022 في أعقاب إعلان إثيوبيا نيتها استكمال الملء الثالث للسد، مسجلة اعتراضها ورفضها التام لاستمرار إثيوبيا في ملء سد النهضة من جانب واحد دون اتفاق.

مشروعات حوض النيل

تمثل الدور المصري في حشد الدعم الإفريقي في أكثر من صورة. على سبيل المثال، في جهود دعم الاستقرار في السودان والوصول إلى انتخاب حكومة تمثل الشعب السوداني في الأزمات العالقة هناك. لاسيما وأن الأوضاع الداخلية في السودان وإثيوبيا أضاعت الفترة الزمنية التي حددها مجلس الأمن فيما يتعلق بالتوصل إلى اتفاق قانوني بين الأطراف الثلاثة. وقد نقل عباس كامل خلال زيارته الأخيرة السودان، تأكيد رغبة مصر في تطوير العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات.

أيضًا، تحاول مصر تعزيز أطر التعاون مع دول حوض النيل، وتدشين شراكات قوية لأجل اكتساب أكبر قدر من الدعم الإفريقي. فعلى الصعيد الاقتصادي، حققت تجارة مصر مع دول الحوض يادة بنسبة 32.6% عام 2021.

وقد تعددت مظاهر التعاون بين مصر ودول الحوض، لاسيما فيما يتعلق بمشاريع البنية التحتية. إذ افتتحت مصر مؤخرًا مشروع سد جوليوس نيريري لإنتاج الطاقة الكهرومائية في تنزانيا.

ومنذ عام 2013، تقود البلاد مشروع الربط البحري لإنشاء طريق بحري يربط بحيرة فيكتوريا والبحر الأبيض المتوسط.

إثيوبيا في المقابل

في المقابل، تواصل إثيوبيا خطوات استكمال مشروعها. وبعد أيام قليلة من إعلانها انتهاء الملء الثالث لسد النهضة وتخزين كميات تصل إلى 22 مليار متر مكعب وتمرير المياه عبر الممر الأوسط للسد، في أغسطس/ آب 2022، أعلنت إدارة السد أنها تسعي لإتمام مشروع إنشاء سد النهضة في أقل من عامين.

وفي خطوة لترويج مشروع السد، جاءت خطوة تعيين وزير المياه الإثيوبي السابق وكبير المفاوضين السابقين في محادثات سد النهضة مع مصر والسودان سيليشي بيكيلي أوراق اعتماده كسفير جديد لدى الولايات المتحدة، في 6 مايو/ أيار 2022. وتسعى إثيوبيا بذلك إلى كسب دعم الولايات المتحدة في نزاع سد النهضة. بالإضافة إلى تحسين العلاقات التي توترت خلال حرب رئيس الوزراء الإثيوبي  آبي أحمد على إقليم التيجراي.

وفقًا لبلومبرج، يصبح السد قادرًا على توليد 5150 ميجاوات من الكهرباء بمجرد اكتماله في عام 2024.

الدكتور محمد عبد الكريم الكاتب والباحث في الشؤون الإفريقية
الدكتور محمد عبد الكريم الكاتب والباحث في الشؤون الإفريقية

ولربط ملف السد بمحيطها الإفريقي، وقعت إثيوبيا اتفاقيات توريد للكهرباء مع كينيا والسودان وجيبوتي وأرض الصومال وتنزانيا وجنوب السودان، من أجل الربط الكهربائي مع دول الحوض. وحققت 95.4 مليون دولار من صادرات الكهرباء 2021.

يقول الدكتور محمد عبد الكريم، الكاتب والباحث في الشؤون الإفريقية، إن إثيوبيا بهذه الاتفاقيات تعمل على إعادة الاهتمام بالإقليم، في إطار سياساتها التقليدية، بتقديم نفسها كمحرك للتعاون الاقتصادي الإقليمي، بما يشمل توفير الطاقة الكهربائية مستقبلًا لدول الإقليم، على نحو يتسق تمامًا مع عودة أديس أبابا الكاملة لتوجيهات السياسة الأمريكية في المنطقة.

اقرأ أيضًا: لقاء آبي أحمد والبرهان.. إثيوبيا تواصل محاولاتها لإضعاف الموقف المصري في سد النهضة

كذلك تعمل إثيوبيا على استمالة الدول الإفريقية، ومنها السودان على سبيل الخصوص. حيث التقى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي) وزير الخارجية الإثيوبي دمقي مكونن بالخرطوم، على هامش اجتماع المجلس الوزاري للهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد) بداية ديسمبر/ كانون الأول. وقد حاولت إثيوبيا توظيف اللقاء لإحداث اختراق في الجبهة المصرية السودانية.

وبعد اللقاء قال السفير الإثيوبي لدى الخرطوم بيتال أميرو، إن الجانبين “اتفقا على معالجة قضايا سد النهضة والحدود بطريقة سلمية، وفقًا للآليات المشتركة بين البلدين”.

كذلك، خلال الدورة العاشرة لمنتدى “تانا للسلم والأمن في إفريقيا” في إثيوبيا يومي 15و16 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عملت إثيوبيا على طرح أجندة من التعاون لربط علاقاتها بالسودان. إذ جرى الاتفاق على تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين، والاتفاق على تطوير مشترك لخط سكة حديد يربط أديس أبابا بالخرطوم ويمتد إلى بورتسودان على ساحل البحر الأحمر.

كما استغل السفير لقائه البرهان، للترويج لفوائد السد، مع إعلان بلاده عن خطتها لتصدير 5 آلاف ميجاوات من الكهرباء إلى الدول المجاورة في غضون 10 سنوات.

السودان المتذبذب

يرى الدكتور محمد عبد الكريم أن ملامح الموقف السوداني يمكن تبينها في ضوء المتغيرات الحرجة التي تشهدها البلاد منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وصعوبة موازنته بين علاقات وطيدة مع القاهرة ومتطلبات انخراطها في سياسات إقليمية مع بقية دول الجوار وخاصة إثيوبيا وإريتريا.

ورغم تطابق دعوة الفريق عبد الفتاح البرهان خلال اجتماعه بالرئيس السيسي في الرياض الشهر الماضي بخصوص دعوة إثيوبيا للتوصل لاتفاق ملزم، فإن العودة الإثيوبية المرتقبة في تفاعلات وسياسات الإقليم، ودعوات أديس أبابا لحل المشاكل مع السودان، وتعزيز التعاون الثنائي بينهما، لاسيما في ملف عودة اللاجئين الإثيوبيين إلى بلادهم، يلقي ظلالًا على مدى تمسك الخرطوم بموقف متطابق مع القاهرة في ملف سد النهضة.

كما أن تفاهمات الاستثمارات المشتركة بين السودان وإثيوبيا، بمشاركة أطراف خليجية في قطاع الزراعة (في أرض الفشقة تحديدًا)، إضافة إلى عودة ارتباطات أديس أبابا القوية بالمكون المدني السوداني وتفاعلات المرحلة الانتقالية في السودان، قد يؤدي إلى تخفيف الخرطوم لهجتها في الملف في الفترة المقبلة، وفق عبد الكريم.

وهو ما يتفق فيه محمد عبد الكريم مع “بحر الدين”؛ إذ يرى الأخير أن هذا التقارب ملحوظا بين السودان وإثيوبيا بعد سيطرة السودان على غالبية أراضي الفشقة، يبعث بمخاوف للجانب المصري. خاصة وأن الموقف السوداني متذبذب ويخلو من توجه واضح بشأن السد، ويتأرجح بين الجانب الإثيوبي والمصري في ظل تعدد الفاعلين السياسيين في السودان.

حرج الموقف المصري

ومن هنا، يتبين مدى صعوبة موقف مصر في هذه المسألة. لا سيما في ظل الجمود الدولي والتقاعس عن التدخل في حل مشكلة السد، لاعتبارات تتعلق بمصالح بعض القوى الدولية والإقليمية المشاركة في بناء السد. إلى جانب توتر الوضع الإقليمي في منطقة حوض النيل مع تعدد المشاكل السياسية والأمنية، وانشغال أغلب الدول بمشكلاتها الداخلية.