كثير من الأفكار والمقترحات الواردة في هذا المقال سبق لي كتابتها في مقالات وكتب، أو الحديث عنها في ندوات ومؤتمرات.. إذن ماذا استجد ليدفعني إلى إثارتها الآن مرة أخرى؟
هذا المستجد هو ما أظنه فرصة غائمة -وسط أزمة اقتصادية وسياسية مستحكمة- لإنجاز التحول الذي طال انتظاره، وجرى إجهاضه عدة مرات، أي التحول من النظام السياسي المغلق المعبأ حول شخص رئيس الجمهورية، حيث تنبثق كل المؤسسات من إرادته، وتعمل وفق هذه الإرادة، وذلك استنادا إلى تحالف مصالح بين قطاعات الدولة (العسكرية والمدنية والمالية وكبار رجال الأعمال)، إلى نظام مفتوح لمشاركة بقية القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقابل للمساءلة والمراجعة والتصحيح، خاصة في سياسات التنمية، وتخصيص الموارد، وإدارة الأصول الكبرى.
تكمن تلك الفرصة في إمكانية تشخيص وعلاج حالة الفصام الوطني الشامل السائدة الآن، فالمجتمع في معظمه تجاوز مرحلة القلق والإحباط إلى مرحلة التشاؤم والشك، فيما تجاوز الخطاب الرسمي مرحلة المكابرة إلى مرحلة الإنكار والمبالغة في التفاؤل، دون خطة إنقاذ مقنعة وقابلة للتنفيذ، ولكن فقط أمل في حدوث معجزة، أو شيء يشبهها.
بعيدا عن حديث المعجزات، وكذلك دون تفاصيل كثيرة عن أزمة مصر الشاملة، وفي مقدمتها تردي الحالة المعيشية لأغلبية المواطنين، والتي نعلمها جميعا، من غلاء، وقلة المعروض من الاحتياجات الضرورية من مستلزمات الإنتاج والأدوية والأغذية، ومع توقع موجات تالية من الغلاء بعد رفع أسعار الوقود، كما ينتظر، فإنه لا أساس للافتراض بأن الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي سيكون هو طوق النجاة.
إذ إن إجمالي ما سيتيحه هذا الاتفاق من أموال لمصر لن يتجاوز 14 مليار دولار، تتدفق على مدى 46 شهرا، أي حتى سنة أوائل عام 2025، وهو ما يعني أننا لن نحصل على هذا المبلغ خلال العام الحالي، علما بأن هذه المليارات الأربعة عشرة ليست كلها أموال جديدة، حيث تتضمن تجديد أو تمديد آجال الودائع الخليجية في البنك المركزي المصري، ويقدر صافي المبالغ الجديدة التي سنحصل عليها خلال السنة الأولى من البرنامج المتفق عليه مع الصندوق والشركاء بحوالي 6 مليارات دولار فقط.
وهو مبلغ يقل كثيرا عن المطلوب لسد الفجوة التمويلية، فالمطلوب مثلا لخدمة الدين الخارجي من الآن وحتى نهاية السنة المالية 2023/2024 يقترب من 18 مليار دولار، والمطلوب لهذا الغرض في السنة المالية 2024/2025 قرابة 20 مليار دولار، وإذن فإن المستحق خارجيا علي مصر خلال مدة البرنامج التمويلي الجديد هو 38 مليار دولار لايوفر هذا البرناج منها سوى 14 مليارا من الدولارات فقط، وذلك دون أن نذكر شيئا عن احتياجات السوق من الواردات الاستهلاكية ومستلزمات الإنتاج.
وكما ذكرنا في مقال سابق، فإن فرص الاقتراض من الأسواق المالية الدولية قد تضاءلت بشدة أمام مصر مقارنة بالأعوام السابقة، وذلك لأسباب عدة، أهمها انخفاض جدارتها الائتمانية، وقرارات رفع الفائدة في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الصناعية بما يجعلها وجهة أفضل وأكثر ثقة للمستثمرين في السندات الحكومية والودائع المصرفية، كل ذلك إلى جانب المضاعفات الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
يجب أن نضيف إلى ذلك أن إيرادات مصر (الوطنية الخالصة) من العملات الدولية ليست في أفضل معدلاتها، فالسياحة ومؤسساتها تئن هي الأخرى، والصادرات أقل من الواردات كثيرا، وتحويلات المصريين في الخارج تتأثر سلبا بحالة التشاؤم السياسي والاقتصادي في الداخل.
أين إذن تلك الفرصة التي قلنا في بداية هذا المقال إننا نلمحها غائمة وسط هذا الركام من الأزمات؟
إذا عدنا إلى أصل كل هذه الأزمات على امتداد أحقاب نظام 23 يوليو 1952، مع التطبيق طبعا على الحقبة الحالية، فسوف نجد هذا الأصل هو احتكار عملية صنع السياسات، واتخاذ القرار، وفي القلب منها السياسات الاقتصادية، وكذلك الكلفة الاقتصادية للسياسات الأخرى.
إن جوهر أي سياسة اقتصادية هو ما يسمى بتعظيم وتخصيص الموارد، وباختصار لم تكن الموارد المصرية في أي مرحلة من مراحل تاريخ مصر القريب مخصصة على النحو الأمثل، فبعد القفزة التنموية في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي، توالت العثرات بل والنكبات، التي بدأت بالحروب، ثم اقتصاديات الاستيراد والاستهلاك الترفي والتهريب السلعي والفساد في حقبة الانفتاح، فاقتصاد الامتيازات والخصخصة الفاضحة والعمولات، والنهب المنظم من البنوك العامة وتهريب الأموال الي الخارج، مع ترسخ الاتجاه للاستدانة والشره في طلب المعونات، إلى أن أوصلنا كل ذلك إلى نادي باريس قبل إعلان الإفلاس، وقبل أن نتقاضى ثمن مشاركتنا في حرب تحرير الكويت شطبا للديون الأجنبية بمقدار النصف تقريبا.
وها نحن اليوم قد عدنا إلى تلك النقطة على نحو ما أوضحنا، حيث تراكمت الديون دون أي عائد إنتاجي من إنفاقها، بما يسهل سدادها فأصبحنا نستخدم دينا جديدا في سداد دين قديم، مع أعباء تتزايد باطراد وبقسوة على معيشة المواطنين، ومع سيناريو وحيد يطرح علينا لعبور (مؤقت للأزمة) هو بيع بعض أصول الاقتصاد الوطني لجهات أو حكومات أجنبية، حتى صُدم الرأي العام باقتراب المقترحات من قناة السويس، رغم تأكيد الرئيس السيسي شخصيا على عدم التفريط في ملكية مصر الخالصة للقناة.
ومع أني بصفة شخصية أثق كلية في هذا التأكيد من جانب الرئيس، خاصة إذا عدل المشروع لينص صراحة على فصل المجرى وعملية الملاحة فيه عن أصول الصدوق المقترح، ومع أني أرجح أنه يستهدف فقط إتاحة موارد للإنفاق منها بعيدا عن اشتراطات صندوق النقد في اتفاقه الأخير، فإن إعلانه كان بمثابة نوبة صحيان للرأي العام، أدت به إلى إدراك عمق الأزمة.
ومن هنا يجب أن تكون هذه أيضا نوبة صحيان للسلطة تؤدي إلى مراجعة شاملة، تقود بدورها إلى نتيجتها المنطقية الحتمية الوحيدة، وهي المشاركة المجتمعية، وذلك من خلال حكومة منتخبة، على أساس برنامج إنقاذي عاجل، وخطة إصلاح اقتصادي واجتماعي طويلة المدى، مع استبقاء مؤسسة الرئاسة لاختصاصها الحصري أو السيادي في شئون الأمن القومي والسياسة الخارجية، في صفقة حل وسط تاريخي انتقالي طويل الأجل نسبيا، تنقلنا من نظام يوليو 1952 بخصائصه سابقة الذكر، إلى نظام تشاركي يطلق طاقات المجتمع، ويوظف موارده طبقا لعقد اجتماعي سياسي مع الناخبين، ويخضع لمساءلتهم، ويسمح بالتداول بين أفضل الأفكار والبرامج والسياسات، دون أن يؤدي إلى خلل جسيم في توازن القوى السياسية في البلاد، قد يثير حفيظة أو تحفظات الدولة العميقة، خاصة إذا تذكرنا أن القوى المجتمعية أبعدت طويلا عن عن ملفات كثيرة، لا سيما تلك المتعلقة بالأمن القومي والعلاقات مع القوى الكبرى والقوى الإقليمية، فأعوزها هذا الإبعاد حاليا ولمدة طويلة إلى الخبرة والمعلومات.
إذا اقتنعت كل الأطراف بهذه (الوصفة) فسوف نتجنب منزلقات خطيرة يصعب حاليا التكهن بمداها، على الاستقرار وعلى الاستقلال، وعلى مكانتنا الإقليمية، وعلى مستقبلنا برمته، وهنا قد تكون مطالبة الأستاذ محمد حسنين هيكل للرئيس السيسي في بداية حكمه بالثورة على نظامه كافية لتلخيص ما أقصده بالحل الوسط التاريخي.