لازالت الأحزاب السياسية المصرية بعد تجربة التأسيس الثالثة التي بدأت في 11 نوفمبر 1976 عندما أعلن السادات في مجلس الشعب تحويل المنابر الثلاثة إلى أحزاب، تراوح مكانها دون أي تقدم يذكر في الأداء. صحيح أن التعميم يبدو في العلوم الاجتماعية أمرًا مخلًا، إلا أن هذا الحكم من قبل المهتمين بالشأن السياسي المصري أصبح أمرًا متفقًا عليه، حتى من داخل الأحزاب المصرية ذاتها.
لقد كانت الأحزاب المصرية منذ تأسيس النظام الحزبي عبر سن قانون الأحزاب (قانون 40 لسنة 1977)، تتعرض لضغوط من الداخل مرتبط بهشاشة التنظيم، وقلة التمويل، ودكتاتورية القيادة، ومشكلات مرتبطة بآلية اتخاذ القرار.. إلخ، وكذلك ضغوط خارجية تتعلق بسطوة الأمن، وإعمال قانون الطوارئ، والملاحقة الأمنية لكوادر الأحزب، بدءًا من التأسيس إلى العمل.. إلخ.
وقد تلكأت الأحزاب السياسية في تطوير ذاتها، خاصة بعد أن سعت إلى الترويج بأن الضغوط الخارجية التي تعمل فيها هي سبب محدودية الأداء. على أنه بعد أن رُفعت عديد (وليس كل) القيود الخارجية عقب أحداث 25 يناير2011، ومع استمرار الأحزاب في أدائها الضحل، ثبت على أرض الواقع أن حال الأحزاب لا زال يشكل سببا مهمًا لمشكلاتها.
لكل هذه الأمور فإن هناك استحالة في أن تتطور الأحزاب السياسية إلا عبر عديد أساليب التطوير التي ثبت نجاحها في البيئة التي نشأت فيها الأحزاب، وهي أوروبا، مع الأخذ في الاعتبار كون تلك الأساليب والآليات تصلح في التعامل مع الأحزاب في البيئة التي نتحدث عنها، وهي مصر. إضافة بالطبع إلى ضرورة إصلاح بعض الأمور التي ترتبط ببيئة عملها من خارجها.
في هذا الإطار، ومن خلال مشاكلها الداخلية والخارجية، نسعى هنا لوضع ملامح عامة لتطوير الأحزاب المصرية مستقبلا، بغية أن تعود متفاعلة مع الجماهير، ومتواجدة في الشارع، بدلا من حال غيابها الذي أصبح بمثابة سمة غالبيتها العظمى.
من هنا سيتم التطرق إلى عديد الموضوعات والمقترحات الهادفة إلى ولوج الأحزاب، إلى ساحة العمل التنموي الحقيقي، مع التأكيد أن بعضًا من تلك المقترحات سيحتاج إلى تعديلات تشريعية.
أولا: مواجهة المشكلات الداخلية للأحزاب
كما سبق القول أن هناك الكثير من المشكلات الداخلية التي ترزح الأحزاب تحت وطأتها، ومن ثم حتمية التعامل معها.
1- وضع مبادئ الحوكمة في الأحزاب المصرية، بمعنى أهمية تطبيق قواعد ونظم الحوكمة التي تطبق في المؤسسات الاقتصادية على الأحزاب فى مصر، مع الأخذ في الاعتبار أن الحديث هنا يجري على مؤسسات سياسية غير رسمية، وليس مؤسسات اقتصادية، وفي هذا الصدد من الأهمية بمكان تحقيق ما يلي:
أ – وضع الأسس الضامنة للتداول السلمي للسلطة داخل الأحزاب. وذلك كله عوضًا عن الوضع الحالي المتعلق باستبداد القيادات وسلطوية اتخاذ القرار، والذي يجب أن يجد صداه ليس فقط في لوائح الأحزاب، ولكن (وهذا هو الأهم) في التطبيق إذا ما اتسمت بعض تلك اللوائح بالديمقراطية.
ب- إعمال قواعد الديمقراطية الداخلية فيما يتعلق بانتخاب المستويات التنظيمية في الأحزاب، وذلك بعيدًا عن قواعد التزكية أو التعيين المعمول بها في أغلب الأحيان. ولعل الآلية الرئيسة هنا هي الانتخاب لكافة المستويات القيادية الحزبية من القاعدة إلى القمة، ضمانًا ليس فقط إلى تجديد الدماء بالأحزاب، بل والأهم أن تكون تلك الخطوات عبارة عن آلية لتدريب المواطن عضو الحزب أو من هم خارج العضوية الحزبية برؤية الأحزاب تتعامل بنزاهة وموضوعية واحترام لعقلية المواطن، مما يكسب الأحزاب المزيد من الجماهيرية.
ج- تطبيق مبدأ ديمقراطية اتخاذ القرار الحزبي، وذلك بعيدًا عن قواعد التراضي وتوافق الآراء التي أصبحت سائدة في العمل الحزبي المصري. ويتحقق ذلك عبر شغل كل المناصب الحزبية بالانتخاب وتداول السلطة في المواقع الحزبية، وعدم تركز السلطة في يد أشخاص بعينهم، والمحاسبة الدورية للكافة، ووضع آلية لفض المنازعات الداخلية، والإقرار بحتمية الاعتذار عند ارتكاب الأخطاء، وقبل ذلك بالطبع الإقرار بالاعتراف بالفشل حال وجوده.
د- التأكيد على دورية عقد المستويات التنظيمية للحزب، باعتبارها الضمانة الرئيسة للعملية الديمقراطية وللتجنيد السياسي، وذلك مقابل شكلية وتكلس وسطحية تلك المستويات سواء على الصعيد المحلي أو القومي كما هو قائم الآن. ويضمن هذا الأمر دعم وتفعيل القواعد والقيادات الوسطى في الأحزاب السياسية في كافة القطاعات الجغرافية، لأنه سيؤدي لتواجد كادر معطاء ومقاتل يسعى لمحاسبة القيادات الراهنة للأحزاب، ويتم ذلك كله عبر تغيير اللوائح الحزبية ديمقراطيًا، ونشر الوعي الحزبي أمام رجل الشارع، مما يفتح الأبواب أمام المزيد من العضوية، باعتبار أن كافة تلك الأمور تدعم مصداقية المواطن المصري في العمل الحزبي، ومن ثم تنهي كافة تلك الإصلاحات مناخ السلبية الشعبية تجاه الأحزاب، ويصبح الحديث عن المواطن المستقل مقابل المواطن الحزبي هو الاستثناء، بدلا من الوضع الراهن الذي يصبح فيه الاستقلال هو القاعدة، والانضمام للأحزاب هو الاستثناء.
ه- إعمال قواعد الشفافية والرقابة الكاملة على كافة المستويات الحزبية التنظيمية بغض النظر عن موضوعها، لا سيما ما يتعلق منها بموازنة الحزب، بدلا من حالة الفساد والإفساد الراهن، والذي أوصل خلافات الأحزاب –وكثير منها خلافات مالية- لساحات القضاء وردهات المحاكم. وهنا يشار لأهمية فصل الملكية عن الإدارة في الأبنية المركزية للحزب، والإقرار ببناء تنظيمي جغرافي جديد ومختصر، ووجود دورة مستندية للأمور المالية للأحزاب السياسية.
2- البحث عن أسس لتمويل للأحزاب
يعتبر التمويل أحد أبرز أسباب المشكلات التي تعاني منها الأحزاب من الداخل، فمن خلال التمويل تستطيع الأحزاب أن تؤدي مهامها ليس فقط قبل ذاتها وقبل أعضائها عبر تفعيل العمليات التنظيمية كالمؤتمرات وغيرها، بل قبل المواطن من خارجها، كي يشعر بوجودها، عبر مساهمتها في عملية التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا الصدد يمكن إبراز عديد المقترحات لدعم تمويل الأحزاب دون تحميل الدولة سوى أعباء مالية محدودة:
أ – فتح المجال أمام الأحزاب لممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية المحدودة غير الضخمة لتمويل أنشطتها السياسية، وهو ما يمكن تبريره بأن الأحزاب مؤسسات سياسية يفترض أنها تعبر عن كيانات اجتماعية. وفي هذا الشأن يمكن الإشارة إلى إمكانية تقنين قيام الأحزاب بممارسة أنشطة كتلك التي يمولها الصندوق الاجتماعي للتنمية أو كمشروعات الأسر المنتجة التابعة للجمعيات الأهلية، مع إمكانية تأمين ذلك بوضع تلك الأنشطة تحت رقابة أجهزة محاسبية كالجهاز المركزي للمحاسبات، لضمان عدم القيام بأنشطة اقتصادية غير مشروعة قانونا، أو إنفاق أرباحها في غير أغراضها الملائمة. أو تنازع قادة الحزب على اقتسام منافع تلك الأنشطة، بما يشير إلى إمكانية فتح الباب أمام انتشار الفساد.
ب – إمكانية فتح باب التبرع للأحزاب من قبل الجهات والمؤسسات والمنظمات المصرية، ذات الشخصية الاعتبارية، وهذا الأمر لن يضير الدولة، لأنه منفذ بالفعل في آلاف الجمعيات الأهلية، حيث ينظم قانون الجمعيات تلك الأمور بسلاسة ويسر، لذلك فإنه من باب أولى أن يسري على الأحزاب.
ج- قيام الدولة بتقديم دعم مالي للأحزاب، شرط أن يرتبط هذا الدعم بتمثيل الحزب عبر الانتخاب في مجلس النواب أو المجالس المحلية (عقب عودتها)، وذلك وفق نسب محددة لا تسفر عن تعميق الهوة بين حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية أو المعارضة.
د– إعفاء الأحزاب من جميع الضرائب والرسوم المتعلقة بصحفها أسوة بمقارها، وإعفاء التبرعات بمختلف مصادرها السابق الإشارة إليها من أوعية الضرائب النوعية. وفي هذا الصدد يشار إلى أن الدولة تقرر وفقا لبرامج الخصخصة إعفاءات ضخمة لاستثمارات رجال الأعمال، ومن ثم يكون من باب أولى تقرير القوانين لإعفاءات ضريبية للأحزاب سعيا لقدر أكبر من التنمية السياسية.
هـ- ابتكار بعض المشروعات التي لا تتعارض بالضرورة مع قانون الأحزاب، ودون اعتراض من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، مثل إنشاء مشروع لتقوية الطلاب، وتقديم الخدمات الطبية في مقرات ملحقة بالأحزاب، وإنشاء مراكز لدراسة الكمبيوتر وتعليم اللغات الأجنبية، والموافقة على قيام الأحزاب بإنشاء دور نشر خاصة بالكتب والمجلات، وقيام الأحزاب بإصدار صحف الإعلانات الخالصة، مع تضمين بعض صفحات تلك الصحف نصوص موجزة من برامج الأحزاب، كي يتم إلباسها لباسا شرعيا، فتصبح كما لو كانت صحيفة تخدم أغراض الحزب، وفقا لما نص عليه قانون الأحزاب.
ثانيا: مواجهة المشكلات الخارجية للأحزاب
كما سبق القول، ترتبط المشكلات الخارجية للأحزاب بأمور قليلة، لكنها في غاية الأهمية، بل لا نبالغ القول بأن بقاء تلك المشكلات مع حلحلة المشكلات الداخلية سالفة الذكر، لن يؤدي إلى تجاوز مشكلات النظام الحزبي في مصر. وفي هذا الصدد يشار إلى اثنين فقط من تلك المشكلات المهمة:
1– الحد من عدد الأحزاب
يبلغ عدد الأحزاب في أدنى التقديرات 82 حزبًا، وفي أكثرها 112 حزبًا. وهذا العدد كبير للغاية، وهو يفترض أن هناك نحو112 قضية مصرية جوهرية مختلف عليها، كي يؤسس هذا الكم الهائل من الأحزاب. جدير بالذكر أن هذا العدد من الأحزاب نشأ معظمه في الأعوام القليلة التي أعقبت حركة25 يناير2011، أي أنه يعبر عن انطلاق بعد بوتقة التضييق على العمل السياسي التي وسمت بها حقبة مبارك، حيث كانت الأحزاب وقتئذ لا يتجاوز عددها 24 حزبًا، عشية أحداث 25 يناير2011.
واقع الأمر أنه بعد أربعة عقود ونيف من التجربة الحزبية، اتضحت ملامح الاتجاهات الإيديولوجية والفكرية في الساحة السياسة، بوجود أربعة اتجاهات دون سواها، أولها، اليسار ذو الصبغة الاشتراكية. وثانيها، اليمين ذو الصفة الرأسمالية (بغض النظر عن حالة اللبس في انطباق تلك المفاهيم في الواقع المصري عما هو متعارف عليه بشأنها في الغرب). وثالثها، تيار الوسط. ورابعهًا، التيار ذو الصبغة الدينية.
هنا من المهم إبتكار آلية غير قانونية (حتى لا يوصف قانون يحد من عدد الأحزاب بعدم الدستورية)، تهدف إلى تشجيع الأحزاب على الاندماج فيما بينها، ضمن الاتجاهات الفكرية آنفة الذكر. بحيث تصبح عدد الأحزاب على الساحة لا يتجاوز الـ20 حزبًا.
2– إصلاح قانون الانتخاب
يعتبر التمثيل الحزبي في المجلس التشريعي من الأسس المهمة لوجود الأحزاب. ولا يبالغ أحد في القول بأن نشأة الأحزاب منذ قرون قليلة خلت كانت نتيجة وجود التكتلات الفكرية في المجالس التشريعية. من هنا تنبع أهمية مجلس النواب بالنسبة للأحزاب السياسية.
واحدًا من أهم العوامل التي تتوقف على تمثيل الأحزاب في البرلمان –إن لم يكن أوحدها- هو شكل النظام الانتخابي. والمعروف أن هناك شكلين مميزين لهذا التمثيل. الشكل الأول، النظام الأغلبي عبر قاعدة 50%+1، ومن أبرز أساليبه الأسلوب الفردي، يليه بأسوئها وهو الكتلة الحزبية أو ما يسمى إعلاميا بالقائمة المطلقة. والشكل الثاني، النظام النسبي عبر قاعدة التمثيل وفق نسبة ما حصل عليه الحزب من أصوات. ولا شك أن النظام الثاني هو الذي يبرز الأحزاب من حيث الكيف ويدعم تواجدها في البرلمان، ومن ثم في المجتمع، وهو الذي يفرز الغث من السمين منها، وبالتالي يكون هذا النظام آلية جيدة وطبيعية للحد من عدد الأحزب الكبير، كما أنه يمنع أي قوى أو جماعة إرهابية من خوض الانتخابات. وبالنظر إلى النظام الأغلبي، فهو يدعم القبلية والجهوية، ويجعل من النائب ممثلا للدائرة وليس الأمة، كما أنه يدعم الطائفية والعنف، ويسهم في الحجر على من حصل على 49% من أصوات الناخبين. وبالطبع يزداد الطين بله لو كان هذا النظام يتم عبر أسلوب القائمة المطلقة، لما في هذا الأسلوب من إبراز كافة العيوب السابقة، إضافة لكونه يجعل التمثيل في البرلمان أقرب إلى التعيين خاصة مع الأحزاب القريبة من دوائر صنع القرار، ويرنو بالانتخابات إلى أسلوب التزكية، منه للاختيار الشعبي السليم. وقد لوحظ في الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب مدى الرفض الشعبي الكبير لأسلوب القائمة المطلقة، وهو ما اتضح في نسبة بطلان الصوت لهذا الأسلوب والتي وصلت إلى 24.2%، وهي نسبة لم تبلغها الأصوات الباطلة في أية انتخابات في العالم، ما جعل الانتخابات بمثابة استفتاء على هذا الأسلوب المعيب الذي لم تعد تتمسك به في النظم الانتخابية حول العالم سوى أربع دول وفقًا لإحصاء جرى عام 2005 وهي جيبوتي وتشاد والكاميرون وسنغافورة.
من هنا يقترح إعمال نظام الانتخابات النسبية، وهناك عديد المقترحات التي يمكن من خلالها -عبر هذا النظام- تجاوز عقبة الكوتات الاجتماعية التي جاء بها الدستور.
هذه هي أبرز المشكلات التي تعاني منها الأحزاب السياسية في الوقت الراهن، وتلك بعض الحلول العملية للتعامل معها، عسى أن تقوم الأحزاب المصرية مستقبلا في المساهمة في جهود التنمية، ما يجعلها تشارك في حمل الأعباء التي ينؤ بها أولو القرار.