على الرغم من الأزمة الدولارية الخانقة التي عانت منها مصر ولا تزال. وكان من أبرز صورها أزمة انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار منذ فبراير/ شباط 2022، بنسب تقترب من 50%، بعدما تراجع سعره من 15.7 جنيه متجاوزًا 27.5 جنيه، وفقًا لسعر صرف الجنيه المعلّن عبر الموقع الإلكتروني للبنك المركزي بحلول منتصف تعاملات 10 يناير/ كانون الثاني الجاري. إلا أن أزمة العجز الدولاري (الحساب الجاري للدولة المصرية)، أو ما يمكن تعريفه بالفرق بين المدفوعات والمتحصلات الدولارية ليست ضخمة. إذ تبلغ نحو 16.8 مليارات دولار فقط، ذلك أن قيمة المتحصلات الدولارية خلال العام المالي 2021/ 2022 بلغت 112.6 مليارات دولار، مقابل 129.4 مليارات دولار قيمة المدفوعات الدولارية.

وجاءت حصيلة مدفوعات مصر الدولارية للعام المالي 2021/ 2022 والتي قدرت بـ129.4 مليارات دولار، كالتالي: 87.3 مليارات دولار عن الواردات، و26.3 مليارات دولار عن فوائد وأقساط الدين الخارجي، و3.1 مليارات دولار حصيلة مدفوعات من بند النقل، و4.5 مليار دولارات مدفوعات من بند السفر، وأخيرًا 8.2 مليارات دولار من بند المدفوعات الأخرى، وفقًا لبيانات البنك المركزي.

اقرأ أيضًا: الدولار والفائدة والديون بعد قرض الصندوق.. 3 أشهر صعبة تنتظر الاقتصاد

أما حصيلة مصر الدولارية، فبلغت 112.6 مليارات دولار، تتوزع كالتالي: 43.9 مليارات دولار حصيلة الصادرات، و9.7 مليارات دولار متحصلات الحكومة من النقل، منها 7 مليارات دولار إيرادات قناة السويس، و10.7 مليارات دولار إيرادات السياحة، و6.4 مليارات دولار متحصلات حكومية أخرى من الاستثمار الأجنبية وغيرها.

قيمة المتحصلات الدولارية خلال العام المالي 2021/ 2022 بلغت 112.6 مليار دولار، مقابل 129.4 مليار دولار قيمة المدفوعات الدولارية (الصورة - وكالات)
قيمة المتحصلات الدولارية خلال العام المالي 2021/ 2022 بلغت 112.6 مليار دولار، مقابل 129.4 مليار دولار قيمة المدفوعات الدولارية (الصورة – وكالات)

لكن الأزمة الدولارية تفاقمت هذا العام، وأرجع الجميع الأزمة إلى خروج 21 مليار دولار من الأموال الساخنة. وهي عبارة عن استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية من السندات والأذون، التي جاءت كنتيجة مباشرة للحرب الروسية الأوكرانية. إضافة لرفع الفائدة المتتالي من جانب الفيدرالي الأمريكي، والذي بلغ أعلى معدل له منذ 15 عامًا.

لكن البيانات المنشورة عبر البنك المركزي، تُكشف عن أزمة أكبر يتسرب منها الدولار إلى الخارج. وذلك على الرغم من زيادة حصيلة مصر الدولارية سنويًا، سواء عبر زيادة قيمة الصادرات من 29.3 مليارات دولار عام 2020 إلى 43.6 مليارات دولار في 2021، أو ارتفاع إيرادات قناة السويس إلى 7 مليار دولار وغيرها من مصادر الدولار المصرية.

ويتمثل ذلك الثقب الأسود الذي تتسرب منه حصيلة مصر الدولارية في 3 بنود رئيسية، هي: خروج الاستثمارات الأجنبية، وبند السهو والخطأ والذي يكشف عن هروب بعض الأموال بطرق غير مشروعة، وأخيرًا أرباح الشركات المحولة إلى الخارج.

السهو والخطأ والهروب

بتتبع الأرقام والبيانات التي ينشرها البنك المركزي، يتبين أن إيرادات مصر الدولارية في زيادة مستمرة منذ ثورة يناير 2011، ولم يحدث أن انخفضت خلال عام منذ أكثر من 10 أعوام. إلا أنه رغم ذلك، فإن أزمة الدولار لم تنقضِ يومًا.

وتُوضح بيانات البنك المركزي، أنه خلال عام 2021/ 2022 فقط، خرج من مصر 19.1 مليارات دولار عبر بندّين رئيسيين، هما خروج الاستثمارات الأجنبية، وبند السهو والخطأ، والذي يكشف هروب للدولار بصورة غير مشروعة.

وحسب تعريف الاقتصاديين، فإن بند السهو والخطأ يُستعمل من أجل موازنة ميزان المدفوعات من الناحية المحاسبية، وذلك لموازنة الخطأ في تقسيم السلع والخدمات محل التبادل نتيجة اختلاف أسعار صرف العملات. لكن كلما زاد بند السهو والخطأ زاد ذلك من الشكوك حول خروج الأموال بطريقة غير مشروعة، حسب ما تُشير ورقة بحثية للمبادرة المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وعلى هذا، فإن استمرار الزيادة في خروج الأموال عبر بند السهو والخطأ، يُمثل خطورة وعبء على ميزان المدفوعات المصري، إذا خلال فترة السنوات العشر بين 2012 و2022، خرج من مصر 26 مليار دولار عبر هذا البند، وكان العام المالي 2021/ 2022 هو الأكبر بعدما خرج من مصر 5.8 مليارات دولار.

صافي بند السهو والخطأ من 2012 إلى 2022 (إنفوجراف)
صافي بند السهو والخطأ من 2012 إلى 2022 (إنفوجراف)

تخارج الاستثمارات الأجنبية

أما البند الثاني الذي يتسرب منه الدولار إلى الخارج، فهو يتمثل في هروب أو تخارج الاستثمارات الأجنبية من مصر. إذ وخلال نفس فترة المقارنة بين 2012 إلى 2022، بلغت قيمة الاستثمارات المتخارجة من مصر 74.2 مليارات دولار. وقد كان أيضًا العام المالي 2021/ 2022 هو الأكبر بعدما تخارجت 13.3 مليارات دولار، والتي تُشكل تقريبًا نحو 18% من إجمالي قيمة خروج الاستثمارات من مصر خلال فترة المقارنة للسنوات العشرة.

اقرأ أيضًا: قرض الصندوق وحده لا يكفي.. الفجوة الدولارية تدفع “المالية” لطرح سندات ملونة ومستدامة وصكوك

وتُبيِن بيانات البنك المركزي، أنه على مدار السنوات العشر استمر مسلسل تخارج الاستثمارات الأجنبية من مصر بشكل تصاعدي، حتى بلغ ذروته في العام المالي الأخير. ذلك على الرغم من إعلان الحكومة لوثيقة سياسة ملكية الدولة، التي تكشف عن نيتها التخارج من قطاعات اقتصادية معينة وطرحها أمام القطاع الخاص.

المصدر: بيانات شهرية متنوعة للبنك المركزي (إنفوجراف)
المصدر: بيانات شهرية متنوعة للبنك المركزي (إنفوجراف)

 

أرباح الشركات الأجنبية المحوّلة

أما البند الثالث، فإن البيانات المتوفرة لدينا حتى الآن هي للفترة بين 2010 و2016، فيما لا تبدو البيانات للأعوام الأخيرة موثوقة على الأقل حتى الآن، وخلال تلك الفترة خرج من مصر في صورة أرباح للشركات الأجنبية العاملة في مصر قُدرت بنحو 39.1 مليارات دولار. وكان العام 2012/ 2013 هو الأكبر، بعدما خرج 7.6 مليارات دولار في صورة أرباح محولة للشركات الأجنبية.

كما أنه وخلال الشهور التسعة الأولى من العام المالي 2017/ 2018، خرج 2.2 مليارات دولار في صورة أرباح محوّلة للشركات والمستثمرين الأجانب في مصر، مقابل 1.8 مليارات دولار خلال نفس الفترة من العام المالي 2016/ 2017. وخلال الشهور التسعة الأولى من عام 2020، خرج من مصر 9.8 مليارات دولار عبر تحويلات أرباح الشركات والمستثمرين الأجانب في مصر، منها 2.4 مليارات دولار فوائد محوّلة.

المصدر بيانات متنوعة شهرية للبنك المركزي (إنفوجراف)
المصدر بيانات متنوعة شهرية للبنك المركزي (إنفوجراف)

أعباء خدمة الدين

أما عن إجمالي خدمة الدين من فوائد وأقساط، فإنها تضاعفت خلال السنوات الـ10 الماضية نحو 9 مرات، فبعدما سجلت 3.1 مليارات  دولار عام 2013، ارتفعت إلى 26.3 مليارات دولار عام 2022، حسبما توضح بيانات البنك المركزي. وسجل إجمالي خدمة الدين خلال الفترة بين 2013 إلى 2022 نحو 110.5 مليارات دولار.

وتُظهر بيانات البنك المركزي، أن العام الأخير 2022 سجلت أكبر زيادة بعدما ارتفعت أعباء خدمة الدين إلى 26.3 مليارات دولار منها 21.7 مليارات دولار أقساط مسددة، و4.6 مليارات دولار فوائدة تم سدادها. ومن المتوقع زيادة أعباء خدمة الدين خلال العام 2023 إلى نحو 30.4 مليارات دولار، حسب تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزي.

وأخيرًا، فإنه وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الفرصة ما تزال أمام الحكومة سانحة لسد الثغرات التي يتسرب منها الدولار للخارج، فيما لابد للحكومة من إتباع سياسة تقشفية فيما يخص الاقتراض من الخارج، وعدم الاعتماد على استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصري.