منذ عام 2005، في أعقاب رحيل الزعيم التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات “أبو عمار”، شغل خليفته، محمود عباس “أبو مازن”، ثلاث أدوار، كرئيس للسلطة الفلسطينية، والأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة فتح. مع دخوله العام الثامن عشر في السلطة، وإلى جانب تحقيقه العديد من الإنجازات للفلسطينيين خلال فترة ولايته، يظل عباس مسؤول أيضًا عن عدد من الإخفاقات.

كان عباس مسؤولا عن الانقسام بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحركة حماس، التي سيطرت على قطاع غزة عام 2007. أدى هذا الانقسام الداخلي إلى تفاقم عدم إحراز تقدم نحو الهدف المنشود، المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة. لكن، على الرغم من الانتقادات، لم يتم الطعن في موقف عباس، وساد الاستقرار خلال فترة ولايته في الضفة الغربية معظم الوقت.

تبحث الدراسة في بعض السيناريوهات لـ “اليوم التالي لعباس” وانعكاساتها على الشؤون الفلسطينية وإسرائيل

مع تزايد الشائعات عن خروجه المتوقع من المسرح -سواء طواعية أو عن غير رغبة- قام فريق من الخبراء في برنامج الأبحاث الفلسطينية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، بفحص السيناريوهات المحتملة لما بعد رحيل عباس، والآثار المترتبة على العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية.

أوضح الباحثون المشاركون في الدراسة أن الهدف ليس التنبؤ بمن سيحل محل عباس، بل تحديد السيناريوهات المحتملة المختلفة، بهدف فهم التحديات والآثار المترتبة على كل منها بالنسبة لإسرائيل.

لقراءة الدراسة كاملة اضغط هنا

ينصب التركيز على ثلاثة سيناريوهات رئيسية: النقل المنظم للسلطة إلى زعيم أو مجموعة قيادية من داخل فتح، مما سيحافظ على السلطة الفلسطينية ككيان وظيفي. أو صراع طويل من أجل الخلافة، يضعف السلطة الفلسطينية، ويقوي حماس. وفوضى وفقدان السيطرة من قبل السلطة الفلسطينية لدرجة الانهيار وعودة المفاتيح لإسرائيل.

اقرأ أيضا: معهد واشنطن: المسائل الفلسطينية بؤرة التوتر المحتمل بين نتنياهو وبايدن

أزمة الخلافة

تعتبر مسألة من سيحل محل أبو مازن، أو سيخلفه كرئيس للسلطة الفلسطينية، من أكثر القضايا إلحاحًا وأهمية في الساحة الفلسطينية. والتي تزيد من حدة التنافس بين عنصري القوة الرئيسيين -فتح وحماس- وتقوض سيطرة السلطة، التي بقيت بفضل الراحل أبو عمار الممثل الرسمي الدائم للشعب الفلسطيني.

لذلك، بمجرد خروج عباس من المشهد، سيكون هناك اضطراب سياسي -وربما أزمة- في المعسكر الفلسطيني. حيث يشغل ثلاثة مناصب رئيسية، ويُنظر إليه في الغرب على أنه حاكم ديكتاتوري، إذ لم يسبق له الترشح لإعادة انتخابه، أو تعرض للتحدي في عملية انتخابية.

يقول الباحثون: من غير المؤكد إلى متى سيبقى عباس -البالغ من العمر 87 عامًا- في السلطة، على الرغم من أنه من المعروف أنه ليس في أفضل حالة صحية. أثناء وجوده في منصبه، تأكد من عدم ظهور أي شخصية سياسية شعبية يمكن أن تتفوق عليه في السلطة الفلسطينية، ولم يمهد الطريق علنًا لخليفة له.

وأوضحوا أنه “إذا لم يكن هناك تغيير في الوضع، وترك عباس المسرح بشكل غير متوقع، فمن المرجح أن تجد السلطة الفلسطينية نفسها محرومة من القيادة، ومن دون أي عملية رسمية ومتفق عليها لتعيين قيادة جديدة. بينما يدعي العديد أنهم خلفاء، ويسعون إلى وراثة واحدة -أو أكثر- من مناصب عباس”.

وأكدوا أن صراعات الخلافة جارية بالفعل وتؤثر على ميزان القوى في الساحة الفلسطينية “حتى في فتح، هناك اتجاه متزايد للانشقاق تجاه عباس، والعمل ضد السلطة الفلسطينية. من الأمثلة على ذلك إبعاد توفيق الطيراوي -الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة- عن مراكز قوة فتح، بسبب الانتقادات التي وجهها ضد حسين الشيخ.

كما أشار جبريل الرجوب، أمين عام اللجنة المركزية لحركة فتح، إلى أن الالتزام التام بقائد واحد. أولا ياسر عرفات، ثم عباس -مثل الأب الذي يطلب الولاء بأي ثمن ويحصل عليه- خدم المصالح الفلسطينية في الماضي، ولكنه “يستحق الاستبدال، كجزء من عملية التغيير الضرورية في البيت الفلسطيني”.

اليوم التالي لعباس

لا تتنبأ هذه الدراسة بمن سيخلف عباس. بل تبحث في بعض السيناريوهات لـ “اليوم التالي لعباس”، وانعكاساتها على الشؤون الفلسطينية وإسرائيل. ويولد كل من السيناريوهات المطروحة سلسلة من العواقب والسيناريوهات الفرعية، التي سيكون لها تأثير على كلا من السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

السيناريوهات المطروحة هي أن عباس قد يرعى ويعين خلفا مقبولا سيتولى جميع مناصبه الثلاثة. أو الثلاثة أدوار -رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس فتح- سيتم تقسيمها بين ثلاثة أفراد مختلفين، وستظهر قيادة جماعية. أو ستجرى انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية، مع انتخابات اختيارية للمجلس التشريعي الفلسطيني.

وتتضمن السيناريوهات ألا يوجد إجماع بشأن خليفة للرئيس، وعندها ستكون هناك صراعات مطولة من أجل الخلافة. وقد تحاول حماس استغلال الفرصة للسيطرة على السلطة الفلسطينية، وتنشط في منظمة التحرير، بهدف الاستيلاء عليها في نهاية المطاف. أما السيناريو الأخير فهو أن ينحدر النظام الفلسطيني إلى الفوضى وعدم الاستقرار والخلل الوظيفي، مما يؤدي إلى انهيار السلطة، وبروز جماعات معادية لإسرائيل.

في ظل تعدد التأثيرات والسيناريوهات، يصعب التنبؤ بمستقبل النظام الفلسطيني. لذلك، يوضح الباحثون أنه يجب على إسرائيل الاستعداد لأربع مواقف محتملة للسلطة الفلسطينية بمجرد خروج عباس من المسرح السياسي: سلطة فلسطينية عاملة، مع استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل. سلطة فلسطينية عاملة معادية لإسرائيل. السلطة الفلسطينية التي لم تعد تعمل. وانهيار السلطة الفلسطينية.

بالفعل، ركزت الدراسة على السيناريوهات الأساسية الثلاث الأولى كنتائج محتملة، بعد أن يرحل عباس عن منصبه. النتيجة الرابعة، أي حل السلطة الفلسطينية، هي الأكثر إثارة للقلق، لأنها تؤدي إلى واقع الدولة الواحدة، أو العودة إلى الحكم العسكري.

لم تتم مناقشة هذه النتيجة بعمق، رغم أنها توفر فرصًا لإعادة تشكيل كوكبة القوة في الساحة الفلسطينية. حيث يمكن أن يستلزم ذلك ضم إسرائيل المحتمل للمنطقة (ج)، أو الاعتراف بحماس كممثل للفلسطينيين.

يوضح الباحثون أنه يجب على إسرائيل الاستعداد لعدة مواقف محتملة للسلطة الفلسطينية بمجرد خروج عباس من المسرح السياسي

اقرأ أيضا: نتنياهو بلا قيود.. إسرائيل تحصل على الحكومة الأكثر يمينية في التاريخ

سيناريوهات السلطة

تتوقع الدراسة عدة ديناميكيات لمستقبل السلطة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الرئيس عباس. منها أن تواصل السلطة الفلسطينية العمل والتعاون مع إسرائيل -كما تفعل اليوم- بشكل أساسي في محاربة الإرهاب، والحفاظ على القانون والنظام داخل أراضي السلطة الفلسطينية، والقضايا المدنية التي تؤثر على السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية.

أو، قد تستمر السلطة الفلسطينية في العمل، لكنها تتبنى موقفا معاديا لإسرائيل تحت تأثير الجماعات المتطرفة التي تسيطر على أجندتها. بينما يتوقع سيناريو آخر أن السلطة الفلسطينية ضعيفة ولم تعد تعمل بشكل فعال، لدرجة أنها أصبحت كيانًا فاشلاً، والعمليات المؤدية إلى انهيارها تكتسب زخمًا.

يقول الباحثون إن الوضعان الثاني والثالث قد يؤديان إلى الفوضى “حيث تتوقف السلطة الفلسطينية عن كونها قوة استقرار، ولم تعد تعمل، وغير قادرة على الحكم، وهي في جوهرها تتفكك. يمكن دفع ذلك بديناميكية سلبية، أو نتيجة قرار فلسطيني بإعادة المفاتيح إلى إسرائيل”.

أيضا، هناك طيف من تداعيات هذه السيناريوهات الممكنة. مثل استمرارية السلطة في وجود زعيم منتخب أو مقبول، القيادة الجماعية، هيمنة الأجهزة الأمنية، الفوضى والفوضى والانحلال، الانهيار المنهجي، الذوبان في النظم الفرعية الإقليمية، عدم الاستقرار المستمر، العنف الشعبي والإرهاب، تنامي التأييد لحركة حماس. أو إنهاء المساعدة الاقتصادية.

وتشير الدراسة إلى أن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل في الساحة الفلسطينية هو “وجود سلطة فلسطينية مستقرة ومسؤولة وفعالة، تتعاون في الشؤون الأمنية، فضلاً عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية”.

كيف يمكن تعزيز مصلحة إسرائيل وهدفها الاستراتيجي؟

يمكن لإسرائيل أن تخفف من بعض الاتجاهات السلبية التي من المتوقع أن تتطور أو تتسارع عندما يترك عباس المسرح السياسي. ويمكنها أن تدعم العمليات التي تساهم في الاستقرار النسبي، واستمرار عمل السلطة الفلسطينية. تشمل الأخيرة عدم التدخل في الترتيبات المؤقتة في النظام الفلسطيني، والاحتفاظ بخيارات إسرائيل المستقبلية لتشكيل واقع سلطة فلسطينية منفصلة ومتميزة عن إسرائيل.

في الوقت نفسه، يجب قياس أي إجراء تتخذه إسرائيل في سياق خلافة القيادة الفلسطينية ومدروسة جيدًا، والابتعاد عن أي محاولة “لهندسة” النظام الفلسطيني، أو خلق انطباع بأنها تنوي فرض تفضيلاتها.

بالتوازي مع ذلك، يجب على إسرائيل أن تحاول وقف العمليات التي تعزز الفوضى وتؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية. الأمر الذي من شأنه أن يجبر إسرائيل على الانخراط بشكل مباشر وعميق في الضفة الغربية مرة أخرى. أو، بعبارة أخرى، إعادة حكومة عسكرية. سيؤدي هذا بدوره إلى تسريع الانزلاق الحالي نحو واقع موحد.

على الرغم من المصلحة الإسرائيلية الواضحة في الحفاظ على السلطة الفلسطينية بقيادة فتح -التي لا تزال ملتزمة رسميًا بفكرة الحل التفاوضي من أجل تحقيق الهدف الوطني المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة- فإن إسرائيل محدودة في قدرتها على التأثير على السياسة الفلسطينية الداخلية.

ومع ذلك، يمكن لإسرائيل أن تخفف من بعض الاتجاهات السلبية الموجودة بالفعل في الساحة الفلسطينية. يمكن تحقيق ذلك من خلال الحوار مع زعيم أو قيادة جديدة، ودعم الاقتصاد الفلسطيني وتحسين نوعية حياة السكان الفلسطينيين، مع التركيز على الضفة الغربية ولكن دون استبعاد غزة، إذا اعترفت حماس بالقيادة الجديدة. وكذلك، تقليل الاحتكاك المدني في الضفة الغربية، ودعم الترتيبات المؤقتة في النظام الفلسطيني بمساعدة دول المنطقة والولايات المتحدة وأوروبا. والتزام مقنع بالحفاظ على خيار حل الدولتين.

تقترح الدراسة أنه يجب على المؤسسة الأمنية العبرية الاستعداد للسيناريو الفلسطيني السلبي المتمثل في الفوضى

اقرأ أيضا: حكومته السادسة.. نتنياهو “يجدد” مناوراته ضد إيران “ومن أجل” السعودية

في مواجهة الفوضى

تقترح الدراسة أنه يجب على المؤسسة الأمنية العبرية الاستعداد للسيناريو الفلسطيني السلبي المتمثل في الفوضى، لدرجة انهيار السلطة وضرورة إعادة تشكيل الساحة الفلسطينية.

تقول: من الضروري النظر في جميع الاستجابات الإسرائيلية المحتملة. إن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل في الساحة الفلسطينية هو وجود سلطة فلسطينية مستقرة ومسؤولة وفعالة، تتعاون في الشؤون الأمنية، فضلاً عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحوادث العنف. مع ضمان ذلك، لن يسرع انهيار النظام الفلسطيني، وبالتالي يخلق نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها.

وأضافت: يجب الحفاظ على سياسة التمايز بين الضفة الغربية وغزة، من أجل منع حماس من توسيع نفوذها في الضفة الغربية، ومنع استيلائها التدريجي على السلطة الفلسطينية. في الوقت نفسه، من المهم الحفاظ على الهدوء الأمني في محيط غزة، في ضوء الروابط بين غزة والضفة الغربية، والإلهام المنبثق من غزة للعنف في الضفة.

كما “يجب تجنيد العالم العربي للمساعدة في العمل اليومي للسلطة الفلسطينية، وعملية بناء الدولة، والتنمية الاقتصادية، ولمنع تقديم المساعدة للعناصر المتمردة، ولا سيما حماس”.

وتابعت: إذا افترضنا أن قيادة جديدة -أو مؤقتة- للسلطة الفلسطينية قد تم اختيارها أو تعيينها من بين صفوف فتح. يجب على إسرائيل الاستمرار في تعزيز التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. وبالتالي، يجب تجنب الأعمال العسكرية التي تحرج الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وتقوض الشرعية العامة للحكومة الجديدة قدر الإمكان، إلا في حالة الأحداث المتطرفة.

أيضا “على إسرائيل أن تتسامح مع نهج المواجهة من قبل القيادة الفلسطينية الجديدة على الساحة الدولية، طالما أنه لا يشجع على الإرهاب والعنف. ويستند هذا إلى فهم أن نهج المواجهة سيساعد القيادة الجديدة على ترسيخ شرعيتها بين الجمهور الفلسطيني. كما يجب على إسرائيل وشركائها الدوليين، ولا سيما الولايات المتحدة والأردن ومصر، تقييم الاستقرار على الجانب الفلسطيني بشكل دوري، والنظر في سبل تعزيز القيادة الجديدة. وهذا يشمل تحديد طرق تجديد العملية السياسية كعامل استقرار.

تفاهمات مشتركة

أكدت الدراسة أنه من المهم للقادة الإسرائيليين التوصل إلى تفاهمات مع القيادة الفلسطينية الجديدة بعد مغادرة عباس. بهدف تحسين الوضع الاقتصادي وخدمات البنية التحتية المقدمة للسكان الفلسطينيين “يمكن القيام بذلك بالشراكة مع دول أخرى داخل المنطقة وخارجها لها مصلحة في الساحة الفلسطينية. وهذا هو الحال أيضًا إذا ظهرت حكومة وحدة فلسطينية، بشرط ألا تتولى حماس منصبًا رئيسيًا فيها، مثل منصب رئيس الوزراء أو وزير الداخلية”.

كما “يجب على إسرائيل أن تتجنب الأعمال التي تعيق طريق إحياء العملية السياسية، مثل التحركات أحادية الجانب. لخلق حقائق إقليمية على الأرض في الضفة الغربية، مما سيسرع الانزلاق إلى واقع الدولة الواحدة”.

وشملت التوصيات الرئيسية للدراسة أن تستخدم إسرائيل قوتها لتقوية القائد الجديد، وتقليل عدم الاستقرار من خلال الحفاظ على نسيج الحياة اليومية وتحسينه. ومكافأة السلطة الفلسطينية على مقاربة إيجابية غير تصادمية، من أجل منع تآكل وضعها. مع تقييد حماس، والمساعدة في تقوية المعسكر الذي يدعم تسوية تفاوضية بفتح الباب أمام عملية سياسية.

أيضا، اقترحت الدراسة الحفاظ على التنسيق مع أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، دون الحد من الحرية التشغيلية لإسرائيل. مع تقوية أجهزة أمن السلطة، من خلال مكافأة التعاون وتقديم المساعدة لتحسين فعاليتها. مع تجنب المسؤولية العامة عن السكان الفلسطينيين أو العودة إلى النظام العسكري، ومنع الانزلاق إلى واقع الدولة الواحدة.