في خطوة تسعى إلى تخفيض دعم المواد البترولية في موازنة العام المالي الحالي والمقبل وتجنب موجة القفزات في تسعيرة خام برنت التي حدثت خلال 2021-2022، وافقت الحكومة في أواخر ديسمبر/ كانون الأول، على اتخاذ إجراءات تحوط ضد مخاطر ارتفاع أسعار النفط. ذلك في وقت يشير العديد من الخبراء إلى زيادة أعباء دعم المواد البترولية الذي لا تزال الدولة تتحمل بعضه، خاصة مع عدم استقرار السوق عالميًا، وترنح الجنيه داخليا أمام الدولار الذي يواصل قفزاته. وهي عوامل تفرض تساؤلًا هامًا حول جدوى التحوط في الفترة الراهنة وتأثيره على الأزمة داخليًا.
والتحوط أداة تلجأ إليها الحكومات دومًا لتعويض مخاطر تقلبات الأسعار لفترات مستقبلية. وهو يرتبط بشكل عام بالمعاملات المالية التي تقوم بها الحكومات والشركات، لإضفاء مزيد من التنظيم على التعاملات المالية لأشهر قادمة، في ظل عدم الاستقرار الذي يحيط بها.
ويعزز السعي نحو خفض المخاطر والتوقعات غير الدقيقة الاعتماد بشكل مباشر على إجراء التحوط في المعاملات المالية للحماية من أي تحركات سعرية غير متوقعة لتلك التي تم تحديدها في موازنات الشركات أو الحكومات.
يقول الخبير البترولي، رمضان أبو العلا، إن الإجراءات التحوطية هي بمثابة وثيقة تأمين تلجأ إليها حكومات الدول لتثبيت سعر معين لسعر البترول، خاصة في الأوقات التي تزداد بها المخاطر والتقلبات الاقتصادية والمؤثرة في حركة الأسعار وفي تحديد سعر برميل النفط الخام.
لذا فإن نفس الوضع يتعلق بمصر التي سعت للتحوط بشأن أسعار النفط، وهنا تقوم الوزارات المعنية -البترول والمالية- بالتعاقد مع بنوك عالمية للحصول على أعلى نسبة تأمين مخاطر وعروض سعرية مختلفة لتأمين الموازنة، بحيث تسمح إجراءات التحوط بشراء الواردات بأسعار محددة مسبقًا.
كيف لجأنا للتحوط؟
منذ بداية أزمة كورونا تعرضت السوق المصرية إلى أزمات متتالية على مستوى حجم الدعم المقدم من الدولة لتوفير الوقود للسوق، وسد فجوة الاستهلاك المحلي. وزاد من وطأة الضغط على الموازنة ما عانى منه سوق النفط العالمي جراء الحرب الروسية الأوكرانية.
تأثير تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية انعكس بشكل مباشر على الأوضاع محليًا، سواء على مستوى تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار، أو ارتفاع فاتورة دعم المحروقات خلال 2022. وبالتالي، عودة الارتفاع إلى مستويات الدعم السابقة -أعلى من المقدرة في موازنات الدولة- وفق مدحت يوسف نائب رئيس هيئة البترول الأسبق.
هنا، كان السبيل الذي رأت فيه الحكومة منفذًا لتقليص حجم التأثر بأسعار النفط العالمية المستمرة في الارتفاع منذ فترة طويلة، الاعتماد على آلية التحوط بالنسبة لأسعار النفط. حيث تكون الدولة على دراية بأقصى ارتفاع قد يتم الوصول إليه، حتى إذا ارتفعت الأسعار عالميًا عند مستوى أعلى من المتحوط بشأنه.
لكن، مع ما يعانيه سعر الصرف الحالي في مصر من عدم استقرار، بات الوضع أكثر صعوبة على مستوى وضع سعر تقديري لحجم دعم المحروقات، الذي تنوي الدولة تخصيصه في موازنتها.
فالسعر الذي كان متوقعًا وقت اعتماد موازنة 2022-2023 قدر للدولار أن يتحرك في مستوى 17 جنيهًا. لكن الأمر الآن مختلف تمامًا وتجاوز الدولار ما كان متوقعًا بشكل كبير.
مستقبل النفط
ويعاني سوق الطاقة حاليًا من عدم اتضاح الروئ المستقبلية على المدى المتوسط والقريب بشأن عودة الاستقرار. الأمر الذي زاد من تخوف حكومات الدول المستوردة للبترول الخام، من تأثير الوضع على موازناتها. لذا بدأت إجراءات التحوط وإن كانت ليست أداة مكسب فقط، بل تحمل المكسب والخسارة أيضًا، وفق ما يشير إليه مدحت يوسف نائب رئيس هيئة البترول الأسبق.
وعلى سبيل المثال، هناك فارق حالي في سعر النفط المقدر بموازنة 2022-2023 هو 80 دولارًا. والسعر الذي يتم التداول به على أرض الواقع يتدرج بين 85 و95 هبوطًا وصعودًا، وفق حجم التصعيد العالمي بين القوى المؤثرة في الاقتصاديات الدولية.
ويزيد من هذه الضبابية، حذر بعض شركات النفط العالمية من ضخ مزيد من رؤوس أموال في عمليات البحث والتنقيب عن النفط والغاز. وهو حذر مدفوع بالصراع بين أوروبا وأمريكا من جهة وروسيا من جهة أخرى، ومحاولة فرض سقف لسعر النفط الروسي، ترفضه موسكو.
وهذا الصراع يضر بالسوق العالمي، إذا مثلا اتجهت روسيا إلى خفض الإنتاج. الأمر الذي يؤثر على مستوى قوى العرض والطب المُتحكمة في تسعيرة خام برنت.
وفي عام 2019/ 2020، وقعت مصر عقود تحوط لمواجهة ارتفاع أسعار النفط. وقال حينها وزير المالية محمد معيط، إن الحكومة تحوطت عدة مرات خلال العام الجاري، وستتحوط مجددًا إذا اقتضى الأمر للتأمين ضد مخاطر ارتفاع أسعار النفط، بعد أن تحوطت مع بنكين عالميين هما جي بي مورجان وسيتي بنك خلال العام المالي 2019/2018.
دعم المحروقات يتضاعف
تأثرًا بارتفاع سعر خام برنت وكذلك تراجع سعر الصرف، تجاوز حجم دعم المحروقات منذ بداية العام المالي الجاري إجمالي الدعم الذي كان مخصصًا للمواد البترولية في الموازنة العامة للدولة. وهو ما عجل أيضًا من خطط الحكومة نحو عقود التحوط.
فخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام المالي 2022/ 2023 تجاوز حجم دعم الوقود حاجز الـ 31 مليار جنيه. رغم أن الدولة كانت تستهدف الوصول بإجماليه على مدار العام إلى 28 مليارًا فقط. لكن تداعيات الأزمات العالمية ومردودها على الاقتصاد المصري غير من كامل خطط الحكومة.
يقول نائب رئيس هيئة البترول الأسبق إن دعم المحروقات قد يُقارب الـ 100 مليار جنيه بنهاية العام المالي الجاري، حال استمرار الأوضاع داخليًا وخارجيًا عند معدلاتها الحالية. وهنا لن تتحمل الدولة تلك الأعباء وحدها، وقد تُشرك المواطنين في تحمل جزء منها عبر رفع أسعار بيع المواد البترولية خلال الفترة القادمة.
ويضيف أن إجراء التحوط -الذي قد يُتبع- هو أحد السُبل التي تسعى من خلالها الحكومة إلى خفض قيمة الدعم بنهاية يونيو/ حزيران المقبل. فالخيارات المتاحة الآن ليست عديدة وتتمحور حول رفع الأسعار محليًا وإبرام عقود تحوط جديدة.
وتستهلك مصر سنويًا نحو 12 مليون طن سولار، و6.7 مليون طن بنزين، إلى جانب كميات من البوتاجاز وغيرها من أنواع الوقود التي يتم توفير حوالي 15 : 25 % من الخارج لسد الفجوة في السوق المحلي.
هل التحوط كاف؟
وفق مصادر بترولية، فإن التحوط على أسعار النفط يكون إيجابيًا في أوقات عدم استقرار سوق النفط وتزايد حدة التقلبات سواء على المستويين العالمي والداخلي. إذ تضع عقود التحوط الدولة في مأمن من التعرض لأي زيادات في أسعار الوقود تتجاوز حجم المقدر من قبل الحكومة.
ورغم ذلك، فإن تلك العقود ليست في مأمن تام، وهي قابلة للخسارة إذا ما تجاوزت عقود التحوط مستوى الأسعار العالمية للنفط لفترة التحوط. وبالتالي، الأمر يحتاج إلى دراسة دقيقة وتوقيت زمني جيد من قبل الوزارات المعنية قبل التفكير في بدء التحوط فعليًا.
ويرى مدحت “يوسف” أنه على المدى القريب قد تكون تلك العقود إيجابية في ظل عدم وجود مؤشرات عالمية تُنبئ بعودة أسعار النفط إلى سابقتها عند مستوى أقل من 70 دولارًا. فالحرب الروسية الأوكرانية مستمرة ومستويات التضخم في ارتفاع شهري، وبالتالي، لن يحدث جديد على مستوى سعر خام برنت على الأقل خلال الربع الأول من العام الجاري.
أما بشأن تأثير عقود التحوط على تسعيرة الوقود داخليًا، فيوضح “يوسف” أن الأمر لن يُحدث جديدًا، باعتبار أن لجنة تسعير الوقود تقيس مستوى الأسعار محليًا بتلك السائدة خارجيًا وكذلك سعر صرف الجنيه. وهنا سنجد أكثر من مصدر لدفع لجنة التسعير نحو تحريك الأسعار، على رأسها الارتفاعات القياسية للدولار مقابل الجنيه. ما سيُكبد الموازنة دعمًا مُضاعفًا عما كان مُخططًا له قبل بداية العام المالي الجاري. فواردات الوقود تلتهم الدعم. خاصة وأن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الوقود لن يحدث على المدى القريب، والاكتشافات غالبيتها في مجال الغاز وليس النفط.
تقليص الدعم
يقول طارق الحديدي، رئيس هيئة البترول السابق، إن دعم العام الجاري سيشهد ارتفاعًا عكس ما سارت عليه موازنة الدولة السنوات الماضية. وبالتالي إعادة الهيكلة وتقليص مخصصات الوقود ببند الدعم في موازنة 2022-2023 لن يتشابه بالسنوات الماضية، وسيقفز إلى مستوى ربما يتجاوز الذي تحقق قبل 5 سنوات.
وقد قلص التسعير التلقائي للوقود من حجم الدعم الموجه إلى المواد البترولية خلال السنوات الماضية. حيث تراجع إلى حوالي 18.4 مليار جنيه خلال العام المالي 2021/2022، مقارنة بـ 28.2 مليار جنيه خلال 2020/2021، وفي العام المالي 19/2020 سجل دعم المواد البترولية 18.7 مليار جنيه.
وشهد دعم البترول تباينًا واضحًا بداية من العام المالي 14/2015 حيث سجل حينها 73.9 مليار جنيه. وفي عام 15/2016 بلغ 51 مليار جنيه. ثم عاود الارتفاع في العام المالي 16/2017 وسجل نحو 115 مليار جنيه. وسجل أقصى ارتفاع في عام 17/2018 حيث بلغ 120.8 مليار جنيه. لتبدأ مرحلة تقليص الدعم بشكل واضح في عام 18/2019 والذي سجل حينها 84.7 مليار جنيه.
وكان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي صرح بأن دعم المحروقات بموازنة 2022/2023 سيقارب الـ 30 مليار جنيه. وأن الحكومة وضعت احتياطات عامة لتدخل الدولة في العام المالي في حال وجود أرقام تجاوزت الأرقام المتواجدة في الموازنة. فمتوسط سعر السولار على الدولة خلال الـ3 أشهر الأخيرة وصل لـ11 جنيها للتر ويتم بيعه بـ6.75 جنيها أي أن الدولة تتحمل 4 جنيه وربع ومصر تستهلك يوميا 42 مليون لتر سولار.