على الرغم من أن كلمة تطوير محببة لدى الناس، إلا أنها أصبحت مخيفة في مصر، لأن نتائجها في كثير من المدن والأحياء باتت مرادف لتدمير الأشجار وكراهية الأخضر في الواقع (وليس الشعارات)، وهدم المباني والحدائق القديمة وامتدت من القاهرة إلى الإسكندرية ومن طنطا إلى المنصورة حتى مختلف المدن والمحافظات المصرية.

اقرأ أيضا.. البرازيل.. خسرت في الكرة وربحت في السياسة

لقد طالت يد “التطوير” الذي يهدم مباني أثرية وحدائق بديعة (ولو أهملت)، وآخرها ما أصاب حديقة حيوان الجيزة من قرار “تطويري” بتكلفه مليار جنية أخاف الناس على كنوزها من مباني وطرق وأقفاص حديدية عريقة، وتذكروا التجارب السابقة التي قطعت فيها الأشجار القديمة وبيعت كخشب، وهدمت المباني والمدافن الأثرية لصالح كوبري غير مفيد أو مباني ودكاكين قبيحة، وبات الناس يخافون على أن يتحول حديد حديقة الحيوان العريق إلى “خردة” للبيع.

إن التطوير الذي عرفته مصر ودول العالم لم يكن في أي مرحلة معياره الأساسي هو المدن الجديدة أو الأبراج الشاهقة أو مراكز الفنون الأكبر ودور العبادة الأضخم، إنما في نماذج للتنمية الصناعية والزراعية، فحركة التصنيع التي شهدتها مصر في الستينيات قامت على القطاع العام وحققت أعلى معدل للتنمية في العالم الثالث في ذلك الوقت وهو 6.6% وبني أهم مشروع حقيقي للتنمية وهو السد العالي الذي حمى البلاد من اخطار الفيضانات والجفاف على السواء، كما إنها عرفت انتشار لقصور الثقافة في المدن الكبيرة والصغيرة، لتنوير الناس ولم تحرص على بناء مبني للتراث والفنون كلف مليارات الجنيهات في العاصمة الإدارية، وفي نفس الوقت كان هناك أيضا امتداد عمراني في حلوان ومصر الجديدة والمهندسين ولم يعتبره احد هو أساس التنمية والتطوير.

وعرفت مصر في عهد مبارك نموذج آخر للتنمية الرأسمالية فأهم رجالات الصناعة الذين بنوا مصانع تشغل عمال وتنتج وتصدر ظهروا في ثمانينيات القرن الماضي وهي أسماء معروفة في مجالات مختلفة من السجاد (النساجون الشرقيون) مرورا بالألبان والعصائر (جهينة) وانتهاء بالحديد والكابلات والسيراميك والمنتجات الغذائية وغيرها، صحيح أننا لم نبن صناعات ثقيلة أو صناعة سيارات مثلا ولم نتطور في البحث العلمي، لكن كان في البلد كيانات رأسمالية منتجة غطت السوق المحلي وصدرت ولم يعتبر أحد أن بناء مدن جديدة في 6 اكتوبر أو التجمع الخامس أو غيرها هو معيار التطور والتنمية، رغم الانتقادات التي وجهت لهذه الكيانات.

أحد كباري القاهرة الكبرى
أحد كباري القاهرة الكبرى

وبات الأمر لافتا أن يختزل التطوير في السنوات الأخيرة في المحاور والطرق والكباري التي باتت تخترق البيوت والمقابر والحدائق، وأصبح الكوبري “نمط حياة” وأهم من المواطن، وشيد في أحياء وشوارع لم تكن تحتاج إلى كباري، إنما لمواصلة جماعية منظمة ورصيف آمن يسير عليه الناس ومكان آمن يعبرون منه.

ويكفي ما أصاب كثير من أحياء القاهرة من “تطوير” وعلى رأسها حي مصر الجديدة الذي قضي على رونقه وجمالة ومساحاته الخضراء وألغي المترو الكهربائي الذي يعود بقوة في عواصم عربية وليس فقط أوربية مثل الرباط وغيرها لأنه يحل مشكلة المرور لصالح الناس وليس على حسابهم وبشكل صديق للبيئة.

إن الكوبري يحدث سيولة مرورية في الطرق السريعة، ولكنه ليس حلا في أي حي سكني لأنه يرحل المشكلة إلى نقطة الدوران الحر (U-turn) حيث تتكدس عندها السيارات ويبقى الكوبري مصدرا للحوادث وعدم التخطيط والأهم عدم حل مشكلة المرور رغم مئات الملايين من الجنيهات التي أنفقت عليه.

الردم والفحت والدكاكين والمباني القبيحة بات عنوان “التطوير”، وانتقل من الأحياء إلى الحدائق فطال الميرلاند في مصر الجديدة وحديقة الحيوان في الجيزة والمنتزه وأنطونيادس في الإسكندرية والأندلس في طنطا وفريال في المنصورة، وحتى كورنيش النيل لم يترك في حالة كما عرفته أجيال مصرية متعاقبة ومثل ذاكرة حية لمدينة القاهرة، إنما طالته يد “التطوير” وظهر ممشي أهل مصر بتذكرة دخول للمواطنين وهو أمر لا يمكن تخيله في أي بلد في العالم أن يدفع المواطنين نقودا لكي يتمشوا على كورنيش بلدهم.

إعلان تطوير حديقة الحيوان كان آخر حدث “تطويري” تابعة الناس، فالحديقة جزء من تاريخ مصر وسحرها حتى لو تدهور حالها، وهي حكايات الناس عبر الأجيال وأفلام الأبيض والأسود، وجزء من ذاكرة المدينة التي بح صوت المعماريين المحترمين في الحديث عنها، لأنها هي التي تصنع سحر المدن وبريقها عبر الزمن وتجلب السياح والعملة الصعبة لمن لايري غيرها.

إن القديم الذي تمتلكه مصر ليس فقط آثارها الفرعونية إنما هو أحيائها وحدائقها وشوارعها التي فاق عمر بعضها 200 عام، وهي مصدر قوتها وبريقها العربي والعالمي لأنه لا تقل جمالا عما يمكن أن تراه في عواصم عالمية كبرى، وبدلا من الحفاظ عليها وتجديدها وأمامنا الصحراء نبني فيها المباني الأضخم والأطول، أنفقت مليارات الجنيهات على تطوير يشوه كل ما هو قديم وتاريخي ويدمر صور الجمال الذي لا يعوض.

تطوير القديم في الحفاظ عليه لا هدمه، وأن بلد يعاني من أزمات اقتصادية كبيرة وديون متزايدة وتراجع في القوة الشرائية لمواطنيه ومع ذلك يركز في تطوير الحدائق والطرق والكباري ويتجاهل التطوير الحقيقي الذي يذهب نحو المستثمر الذي يصنع ويبني ويشغل وينتج، ولكي نضمن حضوره أو عودته، فهو يتطلب مراجعة جذرية للمناخ العام سياسيا واقتصاديا حتى يتحقق التطوير الحقيقي الذي ينتظره الناس في الإنتاج والعدل والأولويات الصحيحة.